من الإرهابي؟
الطاهر المعز
لم تتوقف الإمبريالية الأمريكية طيلة تاريخها القصير عن العدوان على الشّعوب من شعب المكسيك المجاور خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى شعب الفلبين على بُعد آلاف الكيلومترات، وتعدّدت الإعتداءات المُسلّحة والإنقلابات بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن بدأت عوامل الإنهيار تظْهر على الإتحاد السوفييتي الذي كان يُمثّل منافسًا دوليا قويا، فتتالت الإعتداءات التي أدّت إلى تدمير وتفتيت بلدان مثل يوغسلافيا والعراق، خلال العقد الأخير من القرن العشرين، قبل إطلاق “الحرب على الإرهاب” التي قَتَلَت نحو ما لا يقل عن خمسمائة ألف مواطن معظمهم من البلدان ذات الأغلبية العربية أو المُسلمة (بالإضافة إلى ضحايا العراق)، بين الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 والسابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، وتُقَدّر بعض الدّراسات الأمريكية قيمة الإنفاق على هذه الحُرُوب العدوانية بنحو ثمانية تريليونات دولارا، استفادت منها شركات تصنيع الأسلحة وشركات النفط الأمريكية وشركات الأمن والخدمات المُتعاقدة مع وزارة الحرب الأمريكية…
لقد تم تقديم الحرب على الإرهاب، التي صنعتها الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي، وكأنها تدخّلات “لأسباب إنسانية”، وبذلك تمت عَسْكَرَةُ العمل الإنساني والإغاثة في يوغسلافيا والصّومال وفي أمريكا الوُسْطى، فضلا عن هيمنة الدّول الإمبريالية على أهم وأكبر “المنظمات غير الحكومية” الدّولية…
في الواقع، تعد هذه الحروب العدوانية جزءًا من مشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC) الذي تم إطلاقه لتبرير سلسلة من عمليات تغيير الأنظمة والحروب لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية لصالح الولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك الكيان الصهيوني، بحسب ما قاله الجنرال الأميركي ويسلي كلارك، الذي كشف عن مُخَطّط أميركي (تم إعدادُهُ منذ سنة 1991، عند انهيار الاتحاد السوفييتي، قبل عشر سنوات من تفجيرات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 ) وتتَضَمَّنُ هذه المؤامرة الأمريكية تدمير سبع دول في منطقتنا خلال خمس سنوات، من بينها العراق وسوريا ليبيا…
تم تصميم الحرب ضد الإرهاب لخدمة مصالح الإمبريالية والدولة الصهيونية المندمجة في مجموعة الدول الإمبريالية والاستعمارية باسم تحالف “الحضارة” ضد “البربرية”، وهكذا، تم وَصْف عملية المقاومة التي نفذها الفلسطينيون الواقعون تحت الإحتلال الإستيطاني الصهيوني يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بالعمل الإرهابي الذي لا يختلف – بحسب الإعلاميين والسياسيين “الغربيين – عن تفجيرات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، وبالنسبة للإمبريالية الأمريكية، فهي فرصة إضافية لإقامة “شرق أوسط جديد”، يتضمن تدمير دولة العراق واستبدالها بعراق طائفي مُقَسّم ومحتل يضم العديد من القواعد العسكرية الأمريكية، وسوريا مفككة ومُحتلة، ومصر المفلسة، وليبيا الممزقة والعديد من الدول العربية المتحالفة مع المحتلين الصهاينة ضد أي شكل من أشكال المقاومة للإمبريالية والصهيونية.
تَضَمّنَ مخطط “الشرق الأوسط الجديد” دعم وتعزيز المنظمات الإرهابية من قِبَل الولايات المتحدة وتركيا ( عضو حلف شمال الأطلسي) وحُكّام الخليج، وتجميع قيالق الإرهاب من الصين ومن روسيا ومن البلدان العربية، وتدريبها وتسليحها ونَشْرها في سوريا والعراق وليبيا وأماكن أخرى، وفقًا لوثيقة صادرة عن وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية (DIA) سنة 2012 والتي أكدها لاحقًا الجنرال مايكل فلين، رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية في ذلك الوقت الذي أشرف على إعداد التقييم وكتب: “أعتقد أن إنشاء الجماعات الإرهابية في سوريا، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية، كان قرارًا متعمدًا من جانب إدارة أوباما لمساعدة الإرهاب وليس لمحاربته، حيث تم تشكيل الدولة الإسلامية من مجموعات تنحدر من تنظيم القاعدة في العراق وسوريا، اتخذت أسماء مختلفة، مثل جبهة النصرة، التي أعيدت تسميتها بهيئة تحرير الشام…”، وكان الهدف الأمريكي الآخر من تمويل (بواسطة السعودية وقطر والإمارات) وتسليح وتدريب هذه الجماعات الإرهابية أيضًا محاربة الاتحاد الروسي وتفتيته، كما حصل في أفغانستان، خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين وكما حصل في الشيشان وفي يوغسلافيا ( كوسوفو والبوسنة)، وهذا ما يفسر دخول القوات الروسية إلى سوريا سنة 2015، حيث تُدافع روسيا على آخر قاعدة لها في المتوسط ( طرطوس) وتُدافع على وحدتها الترابية من خلال محاربة الإرهاب في سوريا، قبل انتقاله إلى روسيا…
أ يلول – بعض وقائع هذا الشّهر:
كُتبت هذه الفقرات خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024، بعد أكثر من إحدى عشر شهرًا من بداية العدوان الصهيوني المكثف والمجازر الشنيعة في غزة والضفة الغربية، ويذكّرنا شهر أيلول بالعديد من المجازر التي ارتكبتها الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها وأذنابها، كما يُعيد إلى الأذهان الدّور التّضْلِيلي الذي أوكلَتْهُ الإمبريالية إلى الأمم المتحدة، إذْ أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1981، تخصيص يوم « للاحتفال بمُثُلِ السَّلام وتعزيزها بين جميع الأمم والشعوب »، وبعد مرور حوالي عِقْدَيْنِ من الزمن ( سنة 1999) حددت الجمعية العامة يوم الواحد والعشرين من أيلول/سبتمبر تاريخا للاحتفال السنوي به « كيوم لوقف إطلاق النار عالميا وعدم العنف من خلال التعليم والتوعية الجماهيرية وللتعاون على التوصل إلى وقف إطلاق النار في العالم كله »، ومن المعروف إن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يتساوى تمثيل جميع الدّول الأعضاء (صوت واحد لكل دولة) لا تُنَفّذ ولا قيمة لها لأن مجلس الأمن الذي يضم عشرة من ألأعضاء غير القارين (بالتداول) وخمس أعضاء قارّين يتمتعون بحق الإعتراض (النّقْض أو الفِيتُو): الصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وحطّمت هذه الدّولة الأخيرة الرقم القياسي للإعتراض، وخصوصًا على القرارات التي تخص الكيان الصهيوني، ولذلك يمكن للجمعية العامة أن تُقرّرَ ما تشاء، مثل « زرع ثقافة السّلام واحترام الحياة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية وتعزيز اللاَّعُنْف من خلال التعليم والحوار والتعاون، والالتزام بالتسوية السلمية للصراعات والتمسك بالحرية والعدالة والديمقراطية والتسامح والتضامن والتعاون والتعددية والتنوع الثقافي والحوار والتفاهم على جميع مستويات المجتمع وبين الأمم… » وفق ما وَرَدَ في قرار 1999، غير إن القوى التي تمتلك المال ( من فِرْط استغلال الكادحين وثروات الشُّعُوب المُضْطَهَدَة) والسلاح ووسائل الإعلام السّائد، تُقَرِّرُ ثم تفرض تنفيذ قراراتها بالقُوّة، وفي مقدّمة هذه القوى الولايات المتحدة وربيبتها الكيان الصهيوني، وشُركاؤها أعضاء حلف شمال الأطلسي، وما إلى ذلك…
انتقت وسائل الإعلام ما يحلو لها من الأحداث التاريخية لتصنع ذاكرتنا وتاريخنا وتُزيّف الأحداث، من ذلك التركيز على تفجيرات نيويورك، وأهمال ما سبق وما لحق من أحداث دموية أعدّتها أو أشرفت على إعدادها وتنفيذها الإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها، خلال شهر أيلول، ومن هذه الأحداث الدّامية ( على سبيل الذّكر لا الحَصْر ):
نَفّذت الولايات المتحدة وشركاتها العابرة للقارات انقلابًا عسكريا يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، في تشيلي لأن رئيسها وبرلمانها المُنتَخَبَيْن ديمقراطيًّا قرّرا تأميم مناجم النّحاس التي تستغلها شركات عابرة للقارات، ذات المنشأ الأمريكي، وتُسيطر مثل هذه الشركات على قطاعات أساسية أخرى، وحاولت الولايات المتحدة أن تمحى من ذكْرى هذا الإنقلاب الدّمَوِي، وتعويضها بذكرى تفجيرات نفس اليوم 11 أيلول من سنة 2001 لكي يُغَطِّي على كافة الأحداث الأخرى، لكننا لا ننسى المجزرة التي ارتكبها النظام الأردني ضد الشعب الفلسطيني ومنظماته الفدائية، خلال شهر أيلول/سبتمبر 1970 بدعم مُباشر من الإمبريالية الأمريكية وحلفائها ومن الكيان الصهيوني ومن الأنظمة العربية، وكذلك من مليشيات الإسلام السياسي الباكستانية التي كان يقودها الجنرال « ضياء الحق » (1924 – 1988) الذي نَفَّذ فيما بعدُ انقلابا عسكريا دَمَوِيًّا في باكستان سنة 1977، كما نذكر وفاة جمال عبد الناصر يوم الثامن والعشرين من نفس الشهر سنة 1970، وشهد منتصف نفس الشهر سنة 1982 مجازر مُخَيَّمَيْ صبرا وشاتيلا، بإشراف الجيش الصهيوني وتنفيذ مليشيات اليمين المتطرف اللبناني (كان بشير جمَيِّل وسمير جعجع من المُنَفِّذِين والمُشرفين على التنفيذ) كما تم توقيع اتفاقيات الخيانة (كامب ديفيد 1978 وأوسلو 1993) خلال نفس الشهر، وتعمّد أرئيل شارون اقتحام المسجد الأقصى خلال نفس الشهر سنة 2000 مما كان سببا في إطلاق شرارة الإنتفاضة الثانية… وها نحن نعيش مُجدّدًا « أيلول الأسود » الأشدّ دموية، سنة 2024، بدعم مُباشر من الدّول الإمبريالية و مشاركة الأنظمة العربية…
“لستَ مهزُومًا ما دُمْتَ تُقاوم” – حسن حمدان (المعروف باسم مهدي عامل) وُلِدَ في لبنان سنة 1936 واغتاله عنصر من الإسلام السياسي سنة 1987
من حسن الحظ أن مقاومة الخطة الأميركية لإرساء “الشرق الأوسط الجديد” توسعت وامتدت من لبنان إلى اليمن مروراً بفلسطين، وفي السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حدثت نُقْلَة نَوْعِيّة وانتقلت قوى المقاومة الإقليمية إلى مستوى جديد فاجأ الإحتلال وفاجأ حَاضِنِيه وداعِمِيه من العجم والعرب وفاجأ المُستوطنين الذين اعتبروا احتلال فلسطين أمرًا مَقْضِيًّا شبيهًا بما حصل في المُستعمَرات الإستيطانية الأمريكية (شمالها وجنوبها) وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها من المستوطنات التي تمت إبادة شعوبها الأصلية، وتم استبدال هذه الشعوب بمستوطنين تم توريدهم من مختلف أَصْقاع العالم…
مكّن هذه النُّقلة النّوْعية للمقاومة من تدمير أسطورة مناعة الجيش الصهيوني وتفوقه الذي يتباهى به كثيرًا في مسائل المراقبة والاستخبارات وقُوّة التّدمير والإغتيال والإعدام الإنتقائي، لكن الجيش الصهيوني ما زال ينفذ، منذ ما حوالي سنة كاملة، إبادة جماعية رهيبة في غزة والضّفّة الغربية، بأكثر الأسلحة تطورًا، وبالدّعم الهائل للدول الإمبريالية ومعظم الأنظمة العربية، ولم يتمكّن من السيطرة على غزة المُحاصرة منذ 2007، وقد تكون هذه الإبادة الجماعية حقل تجارب أو مُختَبَرًا لتنفيذ مجازر أخرى في عدة مناطق من العالم، لفرض هيمنة الإمبريالية الأمريكية وحلفائها في الناتو، ولذلك من الضّرُوري ومن المُلِحّ تنظيم المقاومة على نطاق عالمي حتى نتمكن من هزيمة عدو قوي ومنظم على نطاق عالمي…
2024-09-17