مناورة فرنسية في الوقت الضائع!
محمد مسلم
كثف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من مغازلاته تجاه الجزائر عبر نافذة الذاكرة، في محاولة يائسة منه لاستدراج السلطات الجزائرية نحو استئناف جسور التواصل الدبلوماسي المقطوعة منذ الصائفة المنصرمة، في أعقاب دعم باريس لأطروحة النظام المغربي في الصحراء الغربية.
ورغم أن المبادرات السابقة لم تحرك ساكنا لدى الجزائر، إلا أن سيد قصر الإيليزي، يصر على بعض المواقف الرمزية في مجال الذاكرة، وآخرها كانت إيفاد السفير الفرنسي في الجزائر، ستيفان روماتي، إلى مربع الشهداء بمقبرة العالية بالعاصمة بغرض وضع إكليل من الزهور على قبر الشهيد البطل، العربي بن مهيدي.
وجاء في تغريدة للسفارة الفرنسية بالجزائر، الثلاثاء، على حسابها في “إكس”: “في تقدير رئيس الجمهورية (الفرنسية)، يجب أن يتواصل العمل من أجل الحقيقة والاعتراف”، في دعوة صريحة للطرف الجزائري إلى مواصلة العمل المشترك في ملف الذاكرة، والذي تشرف عليه كما هو معلوم، اللجنة المختلطة الجزائرية الفرنسية، المكونة من مؤرخين من الجانبين، ويرأسها عن الجانب الجزائري، لحسن زغيدي، وعن الجانب الفرنسي، المؤرخ بنجامان ستورا..
وكتبت السفارة الفرنسية بالجزائر في تغريدة ثانية لها: “تنقل سفير فرنسا في الجزائر، ستيفان روماتي، اليوم (الثلاثاء) إلى مربع الشهداء في مقبرة العالية، بطلب من رئيس الجمهورية (الفرنسية)، إيمانويل ماكرون وباسمه، وقام بوضع إكليل من الزهور على قبر العربي بن مهيدي”.
وجاء تنقل السفير الفرنسي إلى مقبرة العالمية للترحم على الشهيد البطل العربي بن مهيدي بعد 19 يوما من اعتراف ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية في تصفية الشهيد البطل.
ولم تذكر السفارة الفرنسية المناسبة التي استغلتها للقيام بهذا الفعل، كما أن هذا التنقل لم يكن في يوم من الأيام البارزة التي تخلد ذكرى الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي البغيض، لأن الاغتيال تم ليلة الثالث إلى الرابع من مارس 1957، وهو ما يطرح السؤال حول اختيار اليوم، اللهم إلا إذا كان الأمر يتعلق بمجرد محاولة “طائشة” من الرئيس الفرنسي، للفت انتباه الطرف الجزائري إلى ضرورة استمرار عمل لجنة المؤرخين المختلطة المتوقفة عن النشاط عمليا.
ولم يحرك اعتراف ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية في التصفية الوحشية والهمجية للشهيد العربي بن مهيدي، من قبل جيش الاحتلال الفرنسي، أي شعرة لدى المسؤولين في الجزائر، الذين تجاهلوا هذه المبادرة تماما، ليرد ماكرون بمبادرة أخرى، يعتقد مراقبون أنها تمر أيضا وكأنها صيحة في واد سحيق.
كما أن الاعتراف الفرنسي بالمسؤولية في تصفية الشهيد بن مهيدي، بحد ذاته، ليس ذا قيمة تذكر من الناحية السياسية والتاريخية، لأن مجرم الحرب، الجنرال بول أوساريس، كان قد اعترف في عام 2000 في كتاب في تصريحات أوردتها صحيفة “لوموند” الفرنسية، بأن الشهيد تعرض للخنق على يد رجاله في مزرعة بالمتيجة (قرب العاصمة الجزائر) يملكها أحد المستوطنين الفرنسيين.
وينظر الجزائريون إلى مبادرات ماكرون بأنها سياسة مدروسة تهدف إلى الإيقاع بالجزائريين، من خلال سياسة تقطير ممنهجة، للإيهام بأن فرنسا قامت بما يتوجب عليها فعله، في حين أنها في واقع الأمر لم تقدم أي شيء يذكر، لأن الجميع فرنسيين كانوا أو جزائريين يعلمون علم اليقين أن تصفية المناضل المناهض للاحتلال الفرنسي، موريس أودان، واغتيال المناضل ومحامي الثورة التحريرية، علي بومنجل وكذا الشهيد بن مهيدي، قام به الجيش الفرنسي.
وكان من المفترض أن تجتمع اللجنة المختلطة المعنية ببحث ملف الذاكرة، في شهر جويلية المنصرم، غير أن تورط الرئيس الفرنسي في دعم أطروحة النظام المغربي في الصحراء الغربية، أدى على توقف عملها فعليا وإن لم يعلن عنه رسميا، وقد أوردت “الشروق” نقلا عن مصادر مطلعة، غياب أية نية لدى اللجنة في شقها الجزائري من العودة إلى جلسات المباحثات، كما رفضت سياسة التقطير التي يمارسها ماكرون في التعاطي مع هذا الملف.
وبرأي الكثير من المراقبين، فإن الرئيس الفرنسي يعمل جاهدا من أجل إرساء استراتيجية في التعاطي مع الجزائر، قوامها فصل ملف الذاكرة عن بقية العلاقات الثنائية، حتى لا تتضرر العلاقات الثنائية عندما يرتكب “حماقات”، كما فعل الصائفة المنصرمة بالارتماء في أحضان النظام العلوي في الرباط، وهي الاستراتيجية التي يكون قد تفطن لها الطرف الجزائري ولفظها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
2024-11-22