مفهوم التنمية السياسية!
الدكتور عادل عامر*
تطور مفهوم التنمية السياسية ليرتبط بالعديد من الحقول المعرفية. فأصبح هناك علاقة بين التنمية السياسية والتنمية الثقافية والتنمية الاجتماعية. كما تبلورت علاقة محددة بين التنمية السياسية بمفهومها الخاص والتنمية البشرية كمفهوم عام.
ثم برز مفهوم “التنمية المستدامة ” التي أصبحت هدفا للشعوب في كافة أنحاء العالم حيث برزت الاستدامة باعتبارها رؤية جديدة للبحث عن بناءات اجتماعية ونشاطات اقتصادية وأنماط إنتاجية واستهلاكية وتقنيات تعمل على استدامة البيئة وتمكين الجيل الحالي وتحسين حياته وضمان حياة ملائمة للأجيال القادمة.
ولتحقيق ذلك، كان من الأهمية إعادة صياغة النشاطات الحالية وابتكار وسائل جديدة والعمل على دمجها في البيئة القائمة لخلق تنمية مستدامة على أن تكون مقبولة ثقافيا وممكنة اقتصاديا وملائمة بيئيا وعادلة اجتماعيًا. الأمر الذي من شأنه الإبقاء على التقدم الإنساني وهو ما يتطلب الوقوف عند حدود معينة في التعامل مع الموارد الطبيعية وتوظيفها.
وهنا برزت العلاقة الارتباطية بين مفهومي التنمية السياسية والتنمية المستدامة والتي أدت إلى بروز وجهتي نظر تجاه هذه العلاقة الأولى ترى أنه ليست هناك علاقة ضرورية بين التنمية السياسية والتنمية المستدامة وأنه اذا كانت هناك علاقة فهي في اتجاه أن عملية التنمية المستدامة هي التي تفضي إلى التنمية السياسية فعملية التنمية بشكل عام
يمكن ان تتم في اطار نظام سياسي تسلطي أو ديمقراطي ولكن بمجرد ان يحقق النظام السياسي خطوات على صعيد عملية التنمية بشكل عام والمستدامة بشكل خاص فانه يكون قد كون الأساس المجتمعي الذي يمكنه من مد نطاق المشاركة السياسية تدريجيا إلى فئات اجتماعية أوسع وبالتالي تحقيق معدلات تنمية سياسية أكبر.
بعبارة أخرى فان التنمية المستدامة تؤدي إلى تعقد وتشعب دور الدولة بما يجعل من الصعب أدارته بدون قدر من اللامركزية والديمقراطية. لذلك فالتنمية المستدامة تتطلب في البداية دورا قويا للدولة مما لا يسمح بتعدد مراكز صنع القرار بل ان هؤلاء ذهبوا إلى القول بأن مقرطة النظام ربما تعطل عملية التنمية عموما والمستدامة على وجه الخصوص.
أما وجهة النظر الثانية فإنها تنطلق من تصور وجود علاقة عضوية وثيقة بين الديمقراطية، والتي تعتبر المحور الأساسي في عملية التنمية السياسية، والتنمية المستدامة وأن هذه العلاقة تعمل في اتجاه تأثر التنمية المستدامة إلى حد بعيد بالاطار السياسي
فمن الصعب أن تنجز عملية التنمية المستدامة القائمة على التشاركات المجتمعية أهدافها دون ان تكون الديمقراطية ركنا أساسيا من أركان النظام الاجتماعي، ويرتكز هذا التيار على خبرة التنمية عموماً في الدول التسلطية، حيث يرجع سبب انهيار عملية التنمية عموماً بها الي ذلك الاطار التسلطي للنظام السياسي وبالتالي فإن أهمية الاطار الديمقراطي للتنمية تنبع من كونها تهيئ المناخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي وتشجع روح الابتكار وتخلق من الشفافية ما يمكن معه من أجراء عملية تنمية مستدامة بتعاون مجتمعي بناء.
هناک ارتباطاً وثيقاً ما بين المواطنة والتنمية والاستقرار السياسي، فغياب إحداها يعني غياب الأُخريين، ومن ثم انعدام لمبادئ العدالة، وبدون أن يکون لدينا مواطنة حقيقية يتمتع بها المواطن لا يمکننا الحديث عن تنمية للفرد والمجتمع، ومن ثم الوصول إلى تحقيق أي عدالة، فجوهر عملية المواطنة الوصول بالدولة إلى المساواة والإنصاف والشراکة الحقيقية، وضمان الحقوق والواجبات القائم على الديمقراطية، فتحقيق فکرة المواطنة في جوهرها هو الوصول إلى الاستقرار المطلوب الذي يأتي على أساس تحقيق العدالة الکاملة وفي جوهرها العدالة الاجتماعية , وتحقيق المواطنة هو الاساس الذي نحفظ من خلاله نظام العدالة الاجتماعية, ونضمن من خلاله نجاح التنمية, وتحقيق الاستقرار السياسي داخل الدولة.
إن مفهوم التنمية السياسية من المفاهيم الصعب الإجماع على ضبطها أو تحديد تعريف محدد لها، ويعود سبب صعوبة ضبط أو تحديد تعريف لحداثة مفهوم التنمية السياسية، ولأنه مفهوم مركب من مصطلحين أو مفهومين. وكثير ما يقع الخلط بينه وبين مفاهيم أخرى قريبة منه، وربما رآها البعض مرادفة له مثل التحديث السياسي، والانفتاح السياسي، والإصلاح السياسي، والانتقال السياسي، والديموقراطية. وكذلك لأنه يضم مفاهيم فرعية غامضة بدورها؛
مفاهيم سياسية وأيديولوجية وأخلاقية وفلسفية غير قابلة للقياس الدقيق والملاحظة العلمية، مثل العدل والمساواة والقدرة وغيرها. وقد جذبني للكتابة عن هذا الموضوع الحوار الثقافي مع صديقي وأخي العزيز البروفيسور صدقة فاضل أستاذ العلوم السياسية؛ الذي يعكف حالياً على تأليف كتاب عن التنمية السياسية لأهميتها، إذ يغيب عن بعض من المثقفين والإداريين إدراك ضروراتها.
يذهب ابن خلدون إلى أنه لبداية عملية التنمية، فلا بد من توافر شروط أساسية لبداية عملية التنمية، تحفظ للمواطنين حقوقهم وتفسح المجال لآمالهم، كما تحدث ابن خلدون أيضاً عن وسائل تحقيق تلك التنمية، حيث يؤكد أن الزراعة والتجارة والصناعة تمثل أوجه المعاش الطبيعية، وأن المجتمعات تزاول الزراعة أولاً، فإذا تقدمت نسبياً أضيفت إليها التجارة، فإذا ارتقى عمرانها جمعت إليها النشاط الصناعي الذي يتطور بشكل تدريجي بمرور الزمن. كما رأى ابن خلدون كذلك أن للدولة دوراً كبيراً في تحقيق عملية التنمية والتقدم، يتمثل في إزالة العقبات أمام نشاط الأفراد وتمهيد السبيل لهم لتحقيق العمران.
ان التغيرات الکبرى التي شهدها النظام الدولي في العقد الأخير من القرن العشرين، اکدت أن هناک تراجع في تطبيق التنمية السياسية، الأمر الذي کان له تداعيات علي منظومة عمل التنمية المستدامة، مما يتطلب التصدي من أجل استمرارية المنظومة. ومن ثم تسعى هذه الورقة لإيجاد سياسات بديلة تتسم بالمرونة لتحديث دور نظرية التنمية السياسية فى إطار تفعيل استراتيجية الامن التنموي لتلبية متطلبات رؤية 2050″. الامر الذي کان خطوة نحو تأسيس نظرية جديدة للتنمية السياسية 2050، تحت مسمي”نظرية الأمن التنموي”؛
فلقد جاءت عملية التحديث بمثابة تغيير وظيفي لدور نظرية التنمية السياسية من المنهجية الغربية القائمة علي تحقيق الحکم الرشيد المدعم بالديمقراطية الغربية، والتي تعتبر امتداد لنظريتي التبعية والتحديث إلي منظور تنموي وظيفي قائم علي ان التنمية السياسية هي الأداة الرئيسية للأمن التنموي لإستکمال منظومة التنمية المستدامة و أعلاء الإيکولوجية السياسية الخاصة بالدول عند صياغة المخططات التنموية العالمية. ينظر الى التنمية بمفهومها العام على أنها عملية شاملة ذات مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي انها عملية لا تقبل التجزئة ، وأن أي تحوّل في أحدها يقود دون مناص الى تحوّل وتغيير في البقية، وهذا ما استقرّ على تعريفه معظم الباحثين..
فإن التنمية في دول الخليج لم تبحث سوى في اطارها الاقتصادي والاجتماعي كالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وإيجاد قاعدة صناعية وتوزيع الثروة وما أشبه. لكن التنمية السياسية كنشاط يقوم به المواطن العادي من أجل التأثير في صناعة القرار الحكومي، ظلت الغائب الأكبر لدى صانع القرار، ولدى الباحثين والكتاب، الأمر الذي أدى إلى التشكيك في حتمية (شمولية) التنمية، بالنسبة لبعض الدول، خاصة الريعية منها، أي تلك الدول التي تعتمد على مصادر دخل غير (الضرائب) وتقوم بصرفها على التنمية.
هناك من يجادل أن التنمية في دول الخليج لا تستدعي بالضرورة تضمين الجانب السياسي، أي أنها لا تقترن بالضرورة مع المشاركة الشعبية في صنع القرار ولا مع تحويل الأنظمة السياسية فيها من أنظمة تقليدية تعتمد في شرعيتها وبقائها على معايير وقيم غير متوائمة مع متطلبات الدولة الوطنية الحديثة، إلى أنظمة تحظى من خلال الاختبار، والاختيار الشعبيين بدعم جمهورها وتشرعن نفسها عبر صناديق الاقتراع وإشراك المواطنين في العملية السياسية.
لا شك أن هناك تماثلاً يصل في بعض الأحيان الى حد التطابق بين دول الخليج في توصيف أنظمتها والنسيج الاجتماعي فيها، كما لا شك أن دول الخليج في مجملها تختلف عن بقية البلدان العربية فيما يتعلق بموضوع التنمية السياسية، لكن هذه الفوارق الناشئة من طبيعة الأنظمة نفسها ومن القيم الحاكمة في مجتمعاتها لا تجعلها تصل الى حد اعتبارها نسيجاً خاصاً لوحده لا تنطبق عليها موازين التغيير وسنن الكون. وهي بهذا لن تخط منهجاً معزولاً عمّا يجري في العالم، وتنشئ لنفسها تجربة خاصة بها مقطوعة الصلة ومختلفة إلى حد التناقض مع ما يحدث في بلدان العالم الأخرى.
في الماضي، لم يكن موضوع التنمية السياسية ملحاً في معظم دول الخليج ـ مع تفاوت درجة الحاجة ومقدار الإلحاح في كل دولة على حدة ـ لأسباب وظروف سياسية وثقافية واقتصادية وتاريخية، وهذه العوامل هي ما يجب مناقشته، لمعرفة ما إذا كانت التنمية السياسية أمراً لا مفرّ منه، أي توافر الشروط الموضوعية لتحديث بنى الدولة السياسية.
هناك ثلاث مقاربات لموضوعة التنمية السياسية: أولها يربط التنمية السياسية بمقدار ما يتحقق من إنجاز في مجالي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أي أن التنمية السياسية تبدو هنا كما لو كانت ناتجاً أو مخرجاً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتطور الاقتصادي والاجتماعي وفق هذا الرأي سيؤدي الى تطور في التنمية السياسية والممارسة الديمقراطية.
أما المقاربة الثانية فتربط مؤسسات النظام السياسي بالتنمية السياسية؛ فبناء الأمة، وتطور الهيكل الإداري للدولة من جهة الانسجام والطواعية تجاه التغيير، وتحقيق قدر من الاستقلال لأجزائه وانسجامها مع باقي المؤسسات، مؤشران إلى إمكانية تطور في الممارسة والتنمية السياسية. في حين يربط أصحاب الرأي الثالث بين التنمية السياسية والقيم السياسية السائدة في مجتمع ما. فهل هذه القيم تتواءم مع التغيير والتطور والديمقراطية (أو الشورى)، وهل تعنى بعملية حشد الجمهور وإشراكه في العملية السياسية أم تعتبرها حقاً مقدساً مقصوراً على (نخبة النخب)، وهل إقحام الجمهور في الشأن السياسي مرتبط بإرادة النخبة الحاكمة؟
دكتور القانون العام والاقتصاد
2024-02-12