فشل في إقامة علاقات نديّة على عهد الرئيس تبون!
ماكرون ينزل إلى محميته المغربية بعد يأسه من الجزائر!
محمد مسلم
تساءل ولا يزال الكثير من المراقبين للعلاقات الجزائرية الفرنسية عن سر التحول في موقف إيمانويل ماكرون، خلال الزيارة التي قادت هذا الأخير إلى المملكة المغربية، وهي الزيارة التي جاءت عكس قناعات وتوجهات نزيل قصر الإيليزي قبل نحو سنة من الآن فقط، لأن ماكرون وقبل نحو سنتين شتم ملك المغرب محمد السادس بعبارات خادشة للحياء، عجز عن ترديدها مثقف البلاط المغربي، الكاتب الفرانكو مغربي، الطاهر بن جلول.
لكن ومع ذلك، زار ماكرون الرباط وكان بجانبه الملك المغربي وهو يترنح متمايلا على عصا بالكاد يستقيم واقفا.
وبينما اجتهدت الكثير من الصحف الفرنسية في البحث عن السبب الذي قاد ماكرون إلى هذا التحول الدراماتيكي، قبل أن يستقر على محميته التقليدية، المملكة العلوية، التي توصف في الأدبيات السياسية والدبلوماسية الفرنسية على أنها مجرد عشيقة للنظام الفرنسي يعاشرها للضرورة، كما جاء على لسان السفير الفرنسي الأسبق بالولايات المتحدة الأمريكية، فرانسوا دولاتر: “إن المغرب يشبه العشيقة التي نجامعها كل ليلة، رغم أننا لسنا بالضرورة مغرمين بها، لكننا ملزمون بالدفاع عنها”.
فما هو السبب في هذا التحول يا ترى؟
كتبت الكثير من الصحف والمواقع عن هذا التحول، غير أن الصحيفة التي يبدو أنها وضعت أصبعها على الجرح، هي يومية “ليبراسيون”، وقد كتبت معلقة على الزيارة: “فضل إيمانويل ماكرون المصالحة مع المغرب على التقارب الشاق الذي بدأ مع الجزائر، والذي لم يُكافأ أبداً بأي تقدم دبلوماسي أو اقتصادي”.
هذه العبارة على قصرها، إلا أنها لخصت بدقة وعمق التحول الذي طرأ على موقف الرئيس الفرنسي، الذي قاوم الضغوط لبضع سنوات قبل أن ينهار بسبب موقف جزائري صارم من بعض المسائل العالقة بين البلدين، أولها المصالح الاقتصادية الفرنسية في الجزائر، وملف الماضي الاستعماري، فضلا عن المصالح الثقافية والهوياتية التي عجزت باريس عن الحفاظ عليها في الجزائر.
لكن وبالمقابل، وعلى الرغم من الإهانات اللفظية (سربها الطاهر بن جلون في حوار مع القناة الصهيونية “i24”)، التي وجهها ماكرون للرجل الأول في المملكة العلوية، خلال المكالمة الهاتفية التي حاول عبرها الملك محمد السادس، تبرئة مملكته من تهم تجسس المخابرات المغربية عن طريق برمجية “بيغاسوس” على هاتف الرئيس الفرنسي، ماكرون، إلا أنه وبمجرد كلمة “ود” من وزير خارجية فرنسا السابق، ستيفان سيجورني، تجاهل النظام المغربي كل شيء وارتمى في أحضان فرنسا، كيف لا، والمملكة العلوية هي بمثابة العشيقة غير الأنيقة، لفرنسا.
وبالنسبة للجزائر، فإن كل ما بناه ماكرون من أهداف في علاقاته مع الجزائر، لم يتحقق منها ولا هدف واحد. ويعترف بهذا حتى غير الفرنسيين، على غرار مثقف البلاط في المملكة العلوية، الطاهر بن جلون، في حوار مع “فرانس إنتر” قبل يومين، قال فيه إن الجزائر “تبتز” فرنسا بملف الذاكرة، في إشارة إلى رفضها التجاوب مع رغبة الرئيس الفرنسي الذي كان يبحث ولا يزال عن مصالحة صورية على هذا الصعيد، تطوى بموجبه قضية الذاكرة نهائيا.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من تودد الرئيس الفرنسي للجزائر منذ سنة 2020، من أجل تطبيع العلاقات والعودة إلى ما كانت عليه قبل سنة 2019، بما يقود إلى استعادة باريس موقعها الريادي في السوق الجزائرية، التي خسرتها في سنة 2013 لصالح الغريم الصيني، ودخول تركيا، العدو اللدود لفرنسا، معاقل المصالح الفرنسية في الجزائر، إلا أن باريس تستمر يوما بعد يوم في خسارة ما تبقى لها من المصالح القليلة التي تعد على أصابع اليد الواحدة.
وباستثناء حضور شركة “توتال إنرجي” في مشاريع محدودة في قطاع الطاقة، فإن بقية المتعاملين الفرنسيين الذين سيطروا على المشهد الاقتصادي في البلاد في عهد الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، لم يعد لهم أثر.
فقد خسرت شركة “سويز” تسيير قطاع المياه في العاصمة وتيبازة، كما خسرت شركة “راتيبي” امتياز تسيير ميترو الجزائر، كما لم تتمكن شركة “ألستوم” من الحفاظ على امتيازاتها في الجزائر، وهي التي عادت من الموت إلى الحياة بفضل مشاريع كهربة السكك الحديدية في الجزائر قبل سنة 2019، وهناك العشرات من الشركات الصغيرة والمتوسطة التي غادرت الجزائر بدون رجعة.
بالمقابل تحافظ الشركات الصينية على مشاريعها الاستراتيجية في الجزائر (مشاريع السكك الحديدية، التعدين، الأشغال العمومية..)، وبجانبها الشريك التركي في مجالات الحديد والصلب والأشغال العمومية والنسيج فضلا عن تدفق السلع التركية ذات الجودة العالية بقوة على السوق الوطنية رفقة نظيرتها الصينية.
وإذا تم إسقاط هذه المقاربة على الجانب المغربي، يمكن الوقوف على حقيقة مفادها أن فرنسا هي من يقرر ما يحصل عليه من صفقات وفضلا عن ذلك يتحكم في تحديد هوية شركاء الرباط ومستوى تنفذهم في السوق المغربية، فالحضور الصيني باهت رغم قوته في جل بلدان العالم، كما أن التواجد التركي المرفوض فرنسيا في مناطق نفوذه، تراجع بقوة في مملكة العلويين، لتسيطر بعدها باريس على الكعكة، وآخرها إنجاز مشاريع سكة حديد القطار السريع وتوفير عربات القطار، ناهيك عن مشاريع أخرى في اقتصاد ضعيف ومتهالك بسبب ثقل المديونية التي فاقت الـ100 مليار دولار أمريكي، أي ما يناهز 2/3 الناتج الداخلي الخام للملكة العلوية.
2024-10-30