ماذا يكمن وراء التركيز المفاجئ على منطقة كردستان العراق في الصحافة العالمية؟
وهل تبخر “حلم” الاستقلال ومعه الاستعانة بالقوى الخارجية؟
د. سعد ناجي جواد
في الايام القليلة الماضية، وبفارق يوم واحد تم نشر مقالتين مهمتين حول كردستان العراق، الاول جاء كمقال افتتاحي في مجلة الإيكونوميست البريطانية الاسبوعية الشهيرة (2023/8/17) بعنوان (حلم الاكراد في الاستقلال اصبح الان ابعد من اي وقت مضى)، وبعنوان ثانوي اكثر دلالة يقول ( بينما يتشاجر الاكراد تستعيد الحكومة العراقية الفدرالية سيطرتها)، والكل يعلم ان هذه المجلة لا تنطق عن الهوى. والثاني كُتِبَ من قبل كاتب امريكي معروف بسعة اطلاعه في امور الشرق الاوسط والعراق والشؤون الكردية بالذات، (مايكل روبين)، وبعنوان مثير ايضا هو (ايام برزاني كقائد كردي اصبحت معدودة) [ويقصد السيد مسرور رئيس حكومة الاقليم]. وجاء كذلك كمقال افتتاحي نشره على موقع (معهد المشاريع الامريكية) واسع الانتشار (2023/8/18). (وقبلهما نشرت مقالات اخرى في صحف بريطانية وامريكية كبيرة عديدة حول نفس المواضيع تقريبا).
المقالتان الاخيرتان تحدثتا بالأساس عن الازمة او الازمات التي تعيشها حكومة الاقليم منذ فترة ليست بالقصيرة، ازمات تتمثل بالأساس واولا في الخلافات المتصاعدة (بسبب مسالة تقاسم السلطة)، بين الحزبين الكرديين الرئيسين، الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تسيطر عليه عائلة السيد مسعود البرزاني والذي يحكم منطقتي اربيل ودهوك، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي تهيمن عليه عائلة المرحوم جلال الطالباني، والذي يحكم منطقة السليمانية، وثانيا عن الفساد المستشري في المنطقتين المستقلتين الواحدة عن الاخرى اداريا وعسكريا، حيث يمتلك كل حزب حكومته الخاصة وقوات عسكرية مسلحة (بيشمركة) واجهزة امنية مختلفة. كما اكدت المقالتان على حقيقة ان فترة الرفاه الاقتصادي والانفتاح السياسي وعمليات البناء التي شهدتها المنطقة ذات الغالبية الكردية قد بدأت بالانحسار والتلاشي شيئا فشيئا، وكذلك الحريات العامة وحريات التعبير عن الراي. المقال الاول يذكر ان منطقة اربيل التي كانت تعتبر ملاذا امنا للمعارضين العراقيين قد فقدت هذه الصفة بسبب التقييدات الامنية، حتى وصل الامر بان قامت اجهزة اربيل الامنية بإلقاء القبض على باحث عراقي يعمل في مؤسسة ثقافية اجنبية وتسليمه الى حكومة بغداد. ويعزو نفس المقال هذه الحالة الى حقيقة تدهور واردات الاقليم من تهريب النفط، نتيجة القرار الذي صدر عن محكمة تحكيم دولية في باريس لصالح العراق والقاضي باعتبار ما يقوم الاقليم بتصديره دون الرجوع للحكومة المركزية عبر تركيا امر غير قانوني، وفرض غرامات مالية بمقدار مليار ونصف دولار على الاطراف المخالفة.
ويوكد المقالان على حقيقة عودة الاعتماد المالي المتزايد للإقليم على بغداد، والذي اصبح كبيرا جدا وهو ما اعطى السلطة المركزية اليد الاعلى ونفوذا اكبر حتى داخل الاقليم. ويستدل على ذلك بالقول ان رئيس الاقليم السيد نيجرفان البرزاني زار بغداد عشرة مرات خلال الاربع سنين الماضية في سبيل الحصول على المال، في حين ان عمه السيد مسعود البرزاني لم يصل الى هذا العدد من الزيارات خلال وجوده في نفس المنصب لمدة 15 عاما. كما يوكد الكاتبان على الخلافات المتصاعدة بين الحزبين والتي اضعفت الطرفين، ووصلت الى حد عودة موجة الاغتيالات فيما بينهما . وتذكر الايكونوميست ان حزب الاتحاد الوطني، الاضعف من بين الاثنين، اصبح اقرب الى بغداد منه الى حكومة الاقليم، وربما يلجا الحزب الى الخروج من ادارة الاقليم والارتباط ببغداد مباشرة. وبسبب الخلافات اصبح النواب الاكراد يصوتون في البرلمان الفدرالي بصورة متضاربة. اما برلمان الاقليم فلقد انتهت اخر جلسة له بمشاجرة متلفزة على الهواء، ثم علقت على اثرها اعماله. وما تزال الانتخابات المحلية في الاقليم، والتي كان من المفترض ان تجري في العام الماضي، مؤجلة رغم الضغوطات الدولية والمطالبات بالإسراع في إجرائها. هذه الخلافات جعلت الادارتين الكرديتين تلجاءان الى التضييق على الحريات واسكات الاصوات المعترضة بصورة اكبر.
في المقالة الثانية يوكد الكاتب إن كردستان العراق ليست آمنة ولا مستقرة كما يعتقد رئيس وزراء الاقليم. بالاضافة الى سوء الإدارة والفساد والانكماش الاقتصادي، فان الاستراتيجية القديمة المتمثلة في شراء الأصدقاء والموالين بدأت تتعثر بسبب نفاد الأموال. ويسهب الكاتب، الذي نشر مقالات عديدة عن الفساد في الاقليم، في تعداد السلبيات في الادارة، والتي تسببت في اجبار الشباب الكردي على الهجرة الى اوروبا عن طريق المهربين، وكيف ان العديد منهم فقد حياته بسبب خطورة هذه الطريقة. الخلاصات المهمة التي اكدتها المقالتان، (والتي يمكن لاي قاري ان يخرج بها بسهولة ايضا)، هي: اولا ان مسؤوليه ما يحدث تقع على عاتق قادة الحزبين الرئيسين بالذات وفشلهما في تثبيت نموذج تنموي ناجح لمصلحة ابناء الشعب الكردي، وليس نظاما يخدم الحزبين كالموجود الان، وثانيا ان الفساد المستشري والهائل في الادارتين قد حرم عامة الناس من فوائد فائض الاموال الكبيرة التي انهالت على الاقليم منذ بداية الاحتلال حتى صدور قرار محكمة باريس. يضاف الى ذلك نجاح الحكومة المركزية في استعادة اغلب الحقول النفطية التي سيطرت عليها الاحزاب الكردية اثناء الحرب مع داعش وبعد القضاء على ذلك التنظيم الارهابي. وكما هو واضح من المقالتين فان كاتبيها يتنباءان بأيام صعبة للإقليم وبخسارة كل المكاسب التي حصلت عليها الاحزاب الكردية منذ انسحاب الادارة الحكومية العراقية في عام 1991 ولحد الان.
ومع كل المؤشرات والانتقادات والملاحظات المثبتة في المقالتين، والتي جاءت من معايشة واحاديث دبلوماسيين وافراد من داخل الاقليم، وهي كثيرة جدا وصادمة، تصر الادارتين الكرديتين على نهجهما في عدم محاربة الفساد والاصرار على التوسل بالعامل الخارجي لحل المشاكل الداخلية ومع السلطة المركزية، بل والاصرار على ان تكون العلاقة مع المركز مبنية فقط على ما يمكن الحصول عليه من مكاسب مادية.
ويمكن القول ان محتويات المقالتين لابد ان تعيد الى الاذهان مرة اخرى الحقيقة القديمة والثابتة والتي يصر القادة الاكراد على التغافل عنها، والتي سببت لهم في السابق ماسي وكوارث كبيرة، والمتمثلة بالاعتماد على والاستقواء بالاطراف الاجنبية، متناسين ان الابتعاد عن العراق لا يمثل حلا لمشاكل الاقليم وشعبه. وانه مع كل التجارب المؤلمة القديمة لازال العديد من قادة الاقليم يعتقدون ان الولايات المتحدة والغرب واسرائيل وايران وتركيا وغيرهم، يمكن ان يكونوا حماة لهم ولحقوقهم. في حين ان الحقيقة الثابتة تظل تقول ان حضن العراق هو الادفأ، وحب شعب العراق هو الاصدق وان خير العراق هو اكبر، وان العراق هو البلد الوحيد الذي منح الشعب الكردي كل حقوقه، وان العمل عل بناء عراق ديمقراطي حقيقي ومحاربة الفساد والفاسدين ونبذ سياسات المحاصصة وتقاسم المغانم هي الضمان الحقيقي لمستقبل افضل تصان فيه حقوق العراقيين جميعا ومن ضمنهم الاكراد.
لقد فات القيادات الكردية السابقة والحالية مسالة مهمة جدا وهي ان القوى الكبرى والاقليمية، وفي سبيل تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية تبقى تهتم وتركز على علاقاتها مع الحكومة المركزية العراقية التي تتحكم بثروات العراق. نعم الكثير من هذه القوى استفادت في احيان كثيرة من علاقاتها مع الاقليم عندما ضعفت السلطة المركزية، وخاصة بعد الاحتلال، ولكن كل التجارب التاريخية تقول ان في اية لحظة تستعيد فيها بغداد زمام الامور يتحول اهتمام الخارج الى المركز الذي يمتلك الميزانية العامة وموارد تصدير النفط الهائلة والثروات الاخرى. ولهذا نجد الدول الكبرى اليوم، وفي ظل ازدياد الحاجة للطاقة وزيادة اسعار النفط وتكاثر فرص الاستثمار في العراق، تعمل على استرضاء بغداد وليس الاقليم، خاصة بعد القرار الدولي بمنع الاقليم من تصدير النفط دون موافقة بغداد. ولا اعتقد ان هناك حاجة للتذكير ان كل الاطراف الاقليمية المجاورة (باستثناء اسرائيل) لن تقبل بفكرة قيام كيان كردي مستقل، وان اغلب الاطراف الدولية وصلت الى نفس النتيجة، وما على القيادات الكردية سوى تذكر ردود الفعل الاوربية، وحتى الامريكية على عملية الاستفتاء التي جرت عام 2017. اما بالنسبة الى اسرائيل فان من غابت عنه ذكرى اتفاقية الجزائر (1975)، او لم يواكب نتائجها المأساوية على القضية الكردية في العراق، عليه ان يتذكر ايضا كيف تخلت اسرائيل عن القيادة الكردية آنذاك وسحبت كل قواتها ومعداتها ومستشاريها من شمال العراق استجابة لأوامر شاه ايران، والكل يعرف نتائج ما حصل آنذاك.
خلاصة القول ان المقالتين، وما احتوت عليهما من حقائق ميدانية، تحملان اشارات تحذيرية كثيرة، فهل ستثير انتباه ولاة الامور من اجل تصحيح المسارات الخاطئة، اما سيتم التنبه لها بعد فوات الاوان؟
أضغط على الرابط ..لقراءة الخبر
https://www.aei.org/op-eds/barzanis-days-as-kurdish-leader-are-numbered
2023-08-26