ماتت معزوزة، قصة: رشاد أبوشاور
تزحف معزوزة على تراب الحوش، بين الدجاج وطيور الحمام التي تهبط وترتفع فوق رأسها، ثم ترفرف وتعود لتهبط من جديد ملتقطة ما تبقى من الحبوب التي رشتها العمة مليحة قبل قليل، لها وللدجاج.
تلتقط معزوزة باصابعها الصغيرة شيئا وتدسه في فمها ثم تبصقه وتبكي..وأنا أتطلع إليها ولا أعرف ماذا أفعل لها. نهضت وانحنيت عليها، وقلت لها: لا يا حبيبتي لا..لا يا أختي، أمنا سا..ولم أعرف ماذا أقول، فأمنا دسوها في ذلك المكان ..المكان المعتم الذي..الذي..قرفصت لصق بابه ومددت راسي لأرى ما في داخله، فرأيت رمادا يشبه رماد الطابون، وعظاما كوّمها واحد دخل من فتحة باب المكان، ثم جذب أمي الملفوفة في قماش أبيض، ومددها ..وخرج على يديه وقدميه، وهو يردد: الله يرحمها..خلاص، راحت.
أمنا سا..يا معزوزة، ووالدنا ..يجلس في بيتنا، هناك، وهو ساكت، ولا يكلم أحدا يا معزوزة.
انقلبت معزوزة على ظهرها وهي تتلوى، وهي تردد: إمبو..إمبو..إمبو. ولم أعرف ماذا أفعل.
ركضت لأخبر أبي، فرأيته يجلس على مصطبة الدار، وهو يواري رأسه ووجهه بحطته، و..عرفت أنه يبكي عندما اقتربت منه: يابا معزوزة بتقول إمبو..و..
نهض وركض، وحين رآها على ظهرها ساكتة صاح: معزو..زة..يا حبيبتي، وحملها بين يديه، وقربها من فمه، ومن أذنه، ومن صدره، وصرخ: يابا يا رشاااد ..معزوزة..مع..زو..زه..آه. ماتت معزوزة ..ماتت..قتلتيها يافطمة، قتلتيها يا لئيمىة، قلت لك تتركيها عند جدتها سارة..سارة أم أمها حنونة عليها، وكانت تعتني بها. ليش جبتيها من عندها..ليش؟! ما بدك ريحة من ريحة زينب تظل في الدنيا..ارتحت يا فاطمة؟!
خرج عمي عبد الرحمن من بيتهم على صراخ أبي. حاول أن يأخذ معزوزة من بين يديهن ولكنه برم جسده، وصاح بيه:
-رح وأخبر أقاربنا…
تبعت أبي وجلست قربه على مصطبة بيتنا. انحنى عليها، وهو يشمها، ويهز جسده وهو يبكي: ماتت عطشانة..خذيها يا زينب عندك واسقيها ..واطعميها..وديري بالك عليها يا زينب. وين رحت يا زينب وتركتينا؟!
مد يده وألصقني بجنبه.
ارتفعت أصوات، وظهر أقاربنا، وانحنوا على أبي، وسحب واحد منهم أختي معزوزة من حضنه. سأله أبي:
وين رايح بالبنت يا حسن؟
-بدنا نغسلها ونكفنها.
– لازم ندفنها عند أمها يا حسن…
– ما رضوش يا محمود. أخو زين الكبير قال: البنت بنتكم، ومش من عيلتنا حتى ندفنها في القبر مع زينب المدفونة مع عظام أهلنا.
نهض أبي وأمسك بيدي، وانحنى على رأسي:
-ما لناش حدا يابا، أنا وأنت..راحت أمك وأختك لحقتها..آخ يا حبيبي آخ.
ضمه عمي عبد الرحمن:
-باطل يا أخوي! كلنا أهلك يا محمود أنت وابنك. أنا ابن عمك، وابن خالتك، وعشنا أخوة في بيت واحد، واتجوزنا فيه.
وبكى بصوت مرتفع.
سبقها صوتها، فعرفت أنها جدتي سارة.دارت في الحوش،وبحثت عن الجدة فاطمة:
قتلتها. قلت لها اتركي البنت عندي. منك لله يا فاطمة..أنت و…
أمسك عمي عبد الرحمن بابي من كتفه، وجرني من يدي، ومضى بنا مع أقاربنا، وواحد منهم يحمل معزوزة ملفوفة بقماش أبيض، وأبي يمسد عليها في كفنها: ماتت عطشانة يا حسرتي..أختك ماتت عطشانة يا رشاد.
وعندما وصلنا حاكورتنا، كانت حفرة صغيرة قرب شجرة تين قد حفرت، فنزل العم حسن ومددها في الحفرة، وغطاها بحجر كبير، وهالوا عليها التراب، فصاح ابي: سلمي على أمك يابا..يا معزوة..وأنا شعرت بالخوف، بأنني لم تعد لي أخت..ولا أم..فتشبثت بيد أبي، فعبطني ورفعني، وبلل وجهي بدموعه.وهو يقول كلاما لم أفهمه..فانفجرت ببكاء لم يستطع أحد أن يوقفه، حتى ولا أبي..وعرفت أن الموت يعني أن ابقى بدون أم وأخت..و..آآآآآآآخ.
*من قصص الطفولة الشقية
“كنعان”
2021-10-22