لماذا تريد روسيا إقامة كونفدرالية للدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى؟
عميرة أيسر*
عملت روسيا منذ بداية الألفية، على إعادة التموضع الاستراتيجي في العديد من المناطق المهمة في العالم، وخاصة بعد اعتلاء فلاديمير بوتين سدّة الحكم في موسكو، وتعتبر أفريقيا من أهم المناطق الجغرافية الغنية بالمعادن، و الثروات الطبيعية، حيث سعت روسيا لإعادة بسط نفوذها في العديد من البلدان التي تربطها بها علاقات وثيقة منذ الحقبة السوفياتية وخاصة مصر والجزائر وليبيا التي أصبحت من أهم ركائز السّياسة الروسية في القارة السمراء، بعد سقوط نظام معمر القذافي، فعقدت موسكو مجموعة من الاتفاقيات الأمنية والسّياسية مع خليفة حفتر، وأصبحت القوات الروسية متواجدة هناك بشكل دائم، خاصة بعد ظهور قوات فاغنر التي أصبحت تمسى بالفيلق الروسي، بعد التخلص من زعيمها بريغوجين الذي أصبح يشكل خطراً على السّياسة الروسية في أوكرانيا، والذي اعترض على العديد من القرارات العسكرية والخطط الأمنية والتكتيكية، للجيش الروسي في حربه مع القوات الأوكرانية، وازاحة الرجل القوي في قوات فاغنر سمحت لروسيا بتنفيذ مخططها في أفريقيا خاصة في الدول التابعة للنفوذ الغربي تاريخياً، كمالي وتشاد وبوركينافاسو والنيجر ودول الساحل الأفريقي، التي دعمت الانقلابات العسكرية التي تمت في تلك الدول، وقدمت كل الدعم السّياسي واللوجستي والاستخباراتي، وأرسلت خبراء عسكريين وقوات من فاغنر لحماية النظم السّياسية العسكرية الجديدة، و بالتالي تحصينها من أية محاولات فرنسية للإطاحة بها، كما قدمت الدعم لقوات الدعم السريع التي كانت تعرف بقوات الجنجويد، في عهد الرئيس السّابق عمر البشير، وارتكبت فضائع في إقليم دارفور، وهذه القوات هي المسؤولة عن سرقة ذهب السودان، الذي يحتوي على أكبر مخزون استراتيجي من الذهب في العالم، وذلك من أجل تمويل حرب أوكرانيا، إذ أن المصنع الوحيد الذي يعمل هناك لاستخراج الذهب هو مصنع “ميردي غولد”، الذي فرضت عليه عقوبات أمريكية منذ عامين، وهو تابع لقوات فاغنر رغم وجود قانون سوداني يقصر الملكية على السكان المحليين، وبحسب الحكومة السودانية فقد أوقفوا عملياتهم رسمياً لكنهم مازالوا هنا، ومازالوا يتهربون من العقوبات. كما ذكر موقع CNN، بتاريخ 29 يوليو/تموز 2022م، في مقال بعنوان ( تحقيق استقصاءي ل CNN…. روسيا تسلب ذهب السودان لتمويل حرب بوتين على أوكرانيا).
بالإضافة لذهب السودان فإن القوات الروسية شبه عسكرية الفيلق الروسي(فاغنر سابقاً) تقوم بسرقة ذهب بوركينافاسو التي تنتج ما يقارب 400 كلغ يومياً من الذهب الخام عن طريق المصفاة الوحيدة تقريباً الموجودة في هذا البلد، الذي يعتبر من أفقر الدول في أفريقيا، والذي يباع في دولة الامارات العربية المتحدة لوكلاء عصابات اجرامية وشركات عالمية متخصصة في صناعة المجوهرات، وحتى لأنظمة دول كبرى حيث أضحت أبو ظبي واحدة من أهم الأسواق العالمية لتجارة الذهب بطريقة غير شرعية، ويتم ايداع هذه الأموال في حسابات رجال أعمال ومستثمرين مقربين من الحكومة الروسية، وبالطبع يأخذ المسؤولون في كل من الإمارات والسودان وبوركينافاسو عمولات ضخمة جراء ذلك، بالإضافة للنهب المنظم الذي تقوم به الشركات الروسية عن طريق فاغنر لثروات مالي والنيجر، وكل الدول التي تتواجد بها في إفريقيا، والتي أصبحت بمثابة واحدة من أهم الأذرع العسكرية الروسية في هذه القارة التي تنحرها الصراعات الاثنية والعرقية والدينية والطائفية، اذ تعسى الكثير من دولها جاهدة للتخلص من النفوذ الفرنسي الذي دام لعقود من الزمن، وكان السبب الرئيسي في كل ما تمر به من أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، فروسيا تريد تعويض النفوذ الفرنسي في هذه الدول، وهذا ما أشار إليه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عندما اتهم موسكو بالعمل على تشويه صورة وسمعة فرنسا في إفريقيا، عبر تغذية الدعاية المناهضة لباريس هناك بهدف خدمة الطموحات الروسية المتوحشة -حسب وصفه- في القارة خلال السنوات الأخيرة، وذلك رداً على انتقادات وجهت لبلاده على هامش مشاركته في أشغال قمة الدول الفرنكوفونية التي استضافتها تونس في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022م، انها تستغل علاقاتها السّياسية والاقتصادية في مستعمراتها القديمة من أجل تعزيز مصالحها الخاصة قبل أن يؤكد وجود مشروع سياسي ممول من موسكو للإضرار بالمصالح الغربية في القارة الأفريقية. كما ذكر موقع الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، بتاريخ فيفري/ شباط 2024م، في مقال بعنوان (لماذا يتهم ماكرون موسكو بتقويض النفوذ الفرنسي في افريقيا؟).
فروسيا التي تريد التخلص من العقوبات الغربية، وتمويل الحرب في أوكرانيا وضمان حصتها في ثروات أفريقيا عملت على اشغال القوى الغربية في عدة ملفات إقليمية ودولية عن طريق تحالفاتها التي عقدتها مع الدول الوازنة في منطقة الشرق الأوسط كإيران، فالكرملين ليس من مصلحته التوصل لاتفاق هدنة لإيقاف الحرب الدائرة رحاها في المنطقة، بين قوى المقاومة المدعومة من إيران، وبين القوات الأمريكية و البريطانية والصهيونية سواء في غزة أو جنوب لبنان أو البحر الأحمر، لأن ذلك سيؤدي لإشغال هذه القوى الغربية التي تعتبر روسيا جزء من المنظومة الأطلسية الداعمة لحرب أوكرانيا، والمهددة لمصالحها في افريقيا، فانشغال هذه القوى لأطول فترة ممكنة بهذه الحروب يمكّن روسيا من التحرك بكل أريحية لتنفيذ مخططاتها البعيدة المدى في القارة السمراء، وخاصة في تلك الدول الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، فالخبراء السّياسيين الروس يقترحون انشاء دولة كونفدرالية أفريقية في تلك المنطقة تكون بمثابة حليف قوي لروسيا، ومنفذ لسياستها وأجنداتها في المنطقة، ومعرقل للمشاريع الفرنسية والأوروبية وخاصة من الناحية الطاقية، فموسكو بعد حرمت الدول الغربية المنظومة تحت لواء حلف الناتو من الغاز والبترول الروسي، ستعمل هذه الدول جاهدة من أجل تنفيذ مشروع مد خط أنبوب النفط الرابط بين نيجيريا وأوروبا، مروراً بالجزائر لأن ذلك من شأنه أن يضر بالاستراتيجية الروسية الرامية لخنق هذه الدول اقتصادياً، وحرمانها من مصادر الطاقة الأساسية اللازمة لتحريك عجلة الاقتصاد في أية دولة، خاصة إذا كانت دولة غربية متطورة كألمانيا أو فرنسا أو ايطاليا، فالعديد من شركات الطاقة العالمية قد اتجهت صوب الأسواق الأفريقية بعد حرمانها من الغاز الروسي للاستثمار هناك، كشركة ايني الإيطالية و توتال الفرنسية واكسن موبيل الأمريكية، وشال الهولندية، وأكوينور النرويجية، حيث يعتقد بأن أفريقيا تحتوي على 13 بالمئة من احتياطي الغاز العالمي، و 7 بالمئة من احتياطي النفط، إضافة لمصادر الطاقة المتجددة كالشمس والمياه والرياح. كما ذكر موقع SkyNewsعربية، بتاريخ 27 يوليو/ جويلية 2023 م، في مقال بعنوان (شركات الطاقة العالمية تستبدل روسيا بإفريقيا).
فالسّياسة الروسية في أفريقيا يبدو بأنها ستجابه بمعارضة شديدة من طرف الدولة الغربية التي لن تسمح لها بالسيطرة على مناطق نفوذها التقليدية، فالصراع الجيواستراتيجي الذي اشتعل بين هذه القوى في كل من منطقة البلقان وشرق أوروبا والشرق الأوسط، قد انتقل بدوه للقارة السمراء التي يبدو بأنها ستغير موازين القوى الدولية مستقبلاً، في كل المجالات، بما في ذلك المجال العسكري بالنظر لازدياد عدد القواعد العسكرية لهذه الدول العظمى، فالدول الغربية التي تسعى للسيطرة على الممرات البرية والبحرية الاستراتيجية، تريد حرمان روسيا من ثروات أفريقيا وخيراتها من أجل استدامة سيطرتها على النظام الدولي في العقود القليلة القادمة على الأقل.
- كاتب جزائري
2024-02-11.