كلُ البجعِ أسودُ..!
وليد عبد الحي
تطلق الدراسات المستقبلية على المتغيرات غير المتوقعة وذات التأثير الكبير مصطلحات عدة احدها هو “البجعة السوداء” اي الحدث غير المتوقع(فكل البجع ابيض، والمفاجأة ان تجد بجعة سوداء)، وهذا المتغير قليل الاحتمال للغاية لكنه عظيم التأثير في حال وقوعه.
أولا:
من خلال الرصد الدقيق لتطورات الفترة من السابع من اكتوبر 2023 الى الآن ، فأنني أزعم – استنادا لمتابعتي الدؤوبة لعشرات مراكز الدراسات الغربية والصينية والاوروبية والاسرائيلية والعربية – أن السمة العامة لهذه التطورات7 هو غلبة البجع الاسود ، ويكفي ان اشير الى نماذج منها:
1- لم تتوقع الاستخبارات الاسرائيلية او الحكومة الاسرائيلية بفروعها المختلفة هجوم طوفان الاقصى في 7 اكتوبر من العام الماضي، لكن باحثا هو ييغال كارمون, Yigal Carmon مؤسس معهد : Middle East Media Research Institute (MEMRI) نشر في 31 اغسطس 2023 (أي قبل الهجوم بحوالي 37 يوما) مقالا عنوانه حرفيا: ” اشارات لحرب ممكنة في سيبتمبر/اكتوبر” “Signs of Possible War in September-October ، ويتوقع فيه وقوع الهجوم، لكن توقعه لم يكن مبنيا الا على مؤشر واحد هو احتمال اقتحام المستوطنين للمسجد الاقصى .
2- لم يتوقع احد ان يحقق الهجوم في بداياته ضربة ناجحة بهذا الحجم.
3- لم يتوقع احد ان يتمكن انصار الله من اغلاق البحر الاحمر وصولا الى اعلان احد اهم الموانئ الاسرائيلية الإفلاس وشله تماما.(كنت توقعت ان يكون البحر الاحمر موضع صراع بعد هجوم الطوفان مباشرة لكني لم اتوقع ان تكون نتائجه بهذا القدر من التأثير)
4- لم يتوقع احد ان تدوم المعركة كل هذا الوقت ، فالجيوش العربية التي فاق عددها ربع مليون جندي في عام 1967 انهارت خلال ست ساعات بينما يقاتل بضعة آلاف محاصرون منذ 17 عاما كل هذه المدة في قطاع غزة الضيق جدا ، بل وما زالوا يقاتلون، وكان اعلى توقع لاستمرار المعارك هو ستة شهور والذي توقعته شركة تامين اسرائيلية في الشهر الاول للمعركة، بينما توقع مركز دراسات ايراني تابع لوزارة الخارجية ان الحرب قد تمتد شهرا واحدا، وان الهجمات الاسرائيلية ستكون اقل استهدافا للمدنيين ، وهو ما ثبت عدم دقته تماما.
5- لم يتوقع اي باحث اسرائيلي او مركز دراسات اسرائيلي ان تتحمل اسرائيل كل هذه الخسائر البشرية والاقتصادية بل وفي سمعتها وصورتها الدولية الى حد صدور احكام باعتقال قادتها من اهم الهيئات القضائية الدولية ، ناهيك عن التشققات التي وقعت في البناء السياسي والاجتماعي الاسرائيلي، وارتفاع نسبة الهجرة المعاكسة بمعدل 285% طبقا لأرقام المركز الاحصائي الاسرائيلي.
6- لم يتوقع احد أن مقتل وجرح ما يقارب 200 الف فلسطيني ولبناني على يد القوات الاسرائيلية لن يكون له اي رد فعل على العلاقات الدبلوماسية العربية الاسرائيلية خارج حدود الشجب العلني والتآمر السري، بل ان بعضها ارتفع تبادله التجاري مع اسرائيل بعد الطوفان.
7- لم يتوقع احد الارتجاج الضخم داخل حزب الله بقتل الصف الاول من قياداته بشكل جماعي تقريبا وخلال فترات قصيرة سواء بالهجمات الجوية او بكارثة البيجر، وهو ما ترتب عليه تداعيات لها طابع استراتيجي كان اولها الانكفاء الكبير لتضميد الجراح وبكيفية أقرب للانقلاب، وهو نفس ما فعله نيتنياهو عند تبريره لقبوله بوقف القتال في لبنان.
ثانيا:
دعونا نتخيل اسرابا أخرى من البجع الاسود، فماذا لو:
أ- وفاة المرشد الايراني على خامنئي في وقت قريب للغاية وفي ظل الظروف القائمة حاليا
ب- غياب نيتنياهو عن المشهد السياسي لسبب أو لآخر
ت- اتساع الاضطراب في سوريا والذي بدأ بمجرد وقف اطلاق النار في لبنان وبعد تهديدات نيتنياهو لسوريا مباشرة.
ث- تغير في القيادة في أحد دول الجوار العربي لفلسطين او ما كان يسمى دول الطوق او الجبهة الشرقية
ج- بدء عمليات تهجير قسرية للفلسطينيين من الاراضي المحتلة
ح- نشوب صراعات اهلية في اسرائيل بين اليهود
خ- احتمال عودة حزب الله للمعركة مرة اخرى
ثالثا:
السؤال الآن هو: لماذا كل هذا البجع الاسود في منطقتنا؟
لو عدنا الى مجلة ” Futurist ” التي تصدرها World Future Society في بعض اعدادها بخاصة التي ترصد التنبؤات المستقبلية في قطاع العلاقات الدولية، سنجد ان نسبة الدقة في رصد الاتجاهات الاعظم والاتجاهات والاتجاهات الفرعية(Mega-trends, Trends- Subtrends) تصل الى 85% في الدراسات المستقبلية التي تتناول الدول المستقرة وبخاصة الكبرى منها(امريكا ،دول الاتحاد الاوروبي، كندا ،اليابان، الصين،روسيا …الخ)، بينما في منطقتنا الشرق اوسطية بشكل عام والعربية بشكل خاص والتي تصل نسبة عدم الاستقرار السياسي فيها الى أكثر من ضعف النسبة العالمية تنحدر مصداقية التنبؤات الى ما دون 30%، لان فكرة “انتظام الحركة استنادا لقواعد محددة بقدر كافٍ” غير موجودة، فلو حشرت 10 مجانين في غرفة واحدة ،فهل يمكن توقع نمط سلوكهم مع بعضهم؟ وإلا لماذا تحتل المنطقة العربية النسبة الاعلى بين اقاليم العالم التسعة في معدل عدم الاستقرار، وهي الاعلى في نسبة الاستبداد السياسي ،والاعلى في معدل العسكرة؟ والاقل في نسبة الانفاق على البحث العلمي، وقد احصى مركز بحثي تابع لجامعة Uppsala السويدية 285 حربا منذ 1946 وحتى يوليو 2023(يضاف لها حرب الطوفان ولبنان واليمن)، وأظهر القياس أن نسبة الحروب في الشرق الاوسط (اهلية ودولية )تشكل 40% من هذه الحروب خلال الفترة الماضية، طبقا لGlobal Peace Index ، ويكفي – على سبيل المثال- مراقبة نسبة الانفاق العسكري في المغرب العربي ،حيث يتصاعد هذا الانفاق في كل من المغرب والجزائر بشكل خطي(Linear)، فهل ينبئ ذلك عن شيء؟ إذا قبلنا نموذج ريتشاردسون لسباق التسلح فنحن على موعد ساخن، ولكن هل تُطل البجعة السوداء هناك فتفسد علينا الارتكان لنموذج ريتشاردسون؟…ربما.
خلف كل هذه الاسراب من البجع الاسود، هناك اتجاه يعيدنا الى سرب البجع الابيض، إنه ” استمرار عدم الاستقرار في منطقتنا” وهو ما سينعكس علينا عربا في المشرق والمغرب، وعلى اسرائيل وتركيا وايران ، ولعل هذا المتغير هو البجعة البيضاء الوحيدة..اي التي يمكن الارتكان لدلالاتها المستقبلية…ربما.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
2024-11-30