في أعماق الشتاء، وأعماق المخيم!
الكاتبة: إسراء الموافي
في أعماق الشتاء القاسي، حيث يلفح البرد الأرواح قبل الأجساد، تتكدس العائلات النازحة في خيامٍ مهترئة لا تقيهم صقيعًا ولا تحميهم من قسوة الطبيعة. تتحول تلك الخيام الهشة إلى جدران من عجزٍ يعجز حتى الهواء البارد عن إخفاء قسوته. يدخل الصقيع بين ثناياها كأنما يحمل رسائل شقاءٍ من عالمٍ لا يكترث لمعاناتهم.
هنا، في تلك البقاع المنسية، يختبر الشتاء صبر اللاجئين. تلمح أطفالًا بأقدامٍ حافية تخطو فوق أرضٍ تجمدت، فيبدو كل حجرٍ تحتها وكأنه سكين يغرس في أرواحهم قبل أقدامهم. عيونهم الصغيرة تبحث عن أملٍ دافئ، لكنها لا تجد سوى نظراتٍ زائغة من آبائهم، الذين يتحولون تدريجيًا إلى تماثيل من العجز، يراقبون معاناة أحبائهم دون أن يملكوا القدرة على التخفيف منها.
وفي الليالي الباردة، حينما يعانق الصقيع الخيام، تصبح الرياح كأنها نواح أرواحٍ فقدت دفء الحياة. الأمهات يحتضن أطفالهن كما تحتضن الأشجار جذورها في عاصفةٍ عاتية، يحاولن بث الدفء والحب في صدور صغارهن، وكأن دفء الأجساد وحده قادر على مواجهة قسوة الطبيعة. لكن البرد دائمًا يكون أقوى، يتسلل من بين الثقوب، فيصيب الأرواح بالخدر كما يصيب الأجساد بالتجمد.
إنه فصل الشتاء، لكنه بالنسبة لهؤلاء النازحين ليس مجرد موسمٍ عابر، بل معركة مستمرة ضد جوعٍ لا يُشبع وبردٍ لا يُحتمل. الطعام، الذي يصل بالكاد، هو مجرد وعودٍ فارغة تسكت أصوات الجوع دون أن تمنحهم القوة. والنار، التي يشعلونها من بقايا الحطب، تبدو كشعلة صغيرة تخجل من مواجهة زمهرير الشتاء. حتى البطانيات الرقيقة التي تغطي أجسادهم هي أشبه بذرّة أمل في بحرٍ من الألم.
في كل زاويةٍ من المخيم، ثمة قصةٌ تنبض بالألم والصبر. في خيمةٍ ما، أم تحاول تهدئة صغيرها الذي يبكي من البرد، وفي أخرى رجلٌ يجلس على الأرض يحدق في الفراغ وكأنما يلوم نفسه على عجزه عن حماية عائلته. هذه الخيام ليست فقط مأوىً مؤقتًا، بل شاهدة على أحلامٍ تحطمت، وأرواحٍ تحاول النجاة وسط طوفانٍ من الصعاب.
ومع ذلك، ورغم كل هذا الألم، يظل الأمل ينبض في قلوبهم. كأنما يرفض أن ينطفئ، مثل نجمةٍ بعيدة تتلألأ في سماءٍ حالكة السواد. يحلمون بالعودة إلى أوطانهم، إلى منازل كانت يومًا مأوىً دافئًا فتحولت إلى أطلال، إلى شوارعٍ كانت تضج بالضحكات وصارت صامتة من وطأة الحرب. إنهم يتمسكون بذلك الحلم، لأن التخلي عنه يعني الاستسلام نهائيًا لقسوة الواقع.
لكن هذا الأمل لا يمكن أن يبقى وحده وقودًا للصمود. العالم الخارجي مطالب بأن يسمع صرخاتهم الخافتة، تلك الصرخات التي تحملها الرياح إلى أبعد مدى. اللاجئون ليسوا مجرد أرقام في تقاريرٍ رسمية، ولا صورًا عابرة على شاشات الأخبار، بل هم بشرٌ يعانون في صمت، يواجهون كل يومٍ تحدياتٍ تفوق طاقاتهم.
وفي مواجهة هذا الواقع، يبقى السؤال: هل ستظل الإنسانية متفرجة؟ الشتاء لن ينتظر تحركاتٍ بطيئة، والبرد لا يعرف التأجيل. المساعدات ليست فقط مسؤولية، بل هي واجب أخلاقي وإنساني لا يحتمل التهاون. هؤلاء اللاجئون بحاجةٍ إلى أكثر من مجرد خيامٍ ومواد غذائية، هم بحاجةٍ إلى دفء، ليس دفء النار فقط، بل دفء القلوب التي تمنحهم الأمل.
إذا كان البرد يقتل الأجساد، فإن التجاهل يقتل الأرواح. العالم، بكل صخبه واهتماماته المتشعبة، مطالب بأن يلتفت إلى هؤلاء المظلومين الذين يواجهون الموت بصمتٍ، وكأنما صمتهم وصبرهم جريمة لا تُغتفر.
في النهاية، تبقى أصوات النازحين واللاجئين أصداءً تبحث عن آذانٍ تستمع، وقلوبٍ تتحرك. إن البرد قد يكسر الجسد، لكنه لا يمكن أن يكسر الروح التي تتشبث بالحياة، مهما كانت الظروف قاسية. في خيامهم، خلف جدرانٍ باردة، هناك حكايات تستحق أن تُروى، ووجوهٌ تنتظر نظرة رحمة، وأرواحٌ تتمنى أن تجد دفئًا يُعيد لها إيمانها بالإنسانية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
2024-11-21