فلسفة الحكم وهدم المقابر!
بقلم ياسر رافع
في عام 1874 قام المهندس الفرنسى هوسمان بناءا على توجيهات الخديوي ” إسماعيل” بشق شارع ” محمد علي” على غرار شارع ريفولي ليحاكى نفس طراز الشارع الباريسى.. ولكن واجهتهم مشكلة ففي أول الشارع القديم كانت هناك مقابر معروفة باسم ترب الأزبكية وترب المناصرة، فقامت الحكومة آنذاك بنقل الرفات إلى مقابر أخرى، واشترت محال ومبانى كانت موجودة فى المنطقة من أصحابها وهدمتها لإنشاء الشارع.. ( نقلا عن المصري اليوم).
في العام 2023 الحالي قامت الحكومة المصرية بهدم بعض المقابر وأضرحة ضمن خطة التحديث والتطوير في البنية الأساسية للطرق والكباري.. وتم تعويض أصحابها ونقل الأضرحة إلى مكان آخر..ولكن ثارت ضجة كبيرة لا زال صداها مستمرا عند كل مقبرة توضع عليها علامة الإنذار بالهدم.. لماذا؟!
هل لأننا نتكلم عن حرمة الأموات؟ من هم الأموات أشخاص من صفوة القوم أم من عوامهم؟ هل ندافع عن قبر أثري؟ أم ندافع عن شكل معماري يحمل الماضي بين طياته؟
هل نرفض التحديث أم نرفض سلوك السلطة وفلسفتها في الهدم والبناء؟
أسئلة لن نجد لها إجابة محددة نستطيع بها أن نرد على كل هذة التساؤلات لسبب بسيط وهو أن هناك سؤال يجب أن نطرحة على أنفسنا ونكون صرحاء في الإجابة عليه وهو ” ما هي فلسفة الحكم في مصر فيما تقوم به من هدم وبناء؟”.. الإجابة على هذا السؤال حتما ستأخذنا إلى مساحات جدلية وربما نتراشق بالسباب.. وننقسم إلى حزبين كبيرتين متضادين.. كلا منهما يناصر وآخر يعارض ولن نصل لنتيجة فالهدم مستمر ما دامت رؤية الدولة ذاهبة في طريقها الذي تراة مناسبا لإحداث نهضة معمارية وإنشائية.
وعليه فلنقف ونصارح أنفسنا ونقول لماذا نتفاخر بإرث الخديوي إسماعيل المعماري الذي قام على إزالة المقابر الآن.. هل لإننا لم نكن حاضرين في هذا الزمن لنعترض !! أم أن تلك المقابر كانت لعوام الشعب ولم يكن من بينهم أحدا يشار له بالبنان لعلم أو لمنصب سلطوي !! ولذلك صمت الجميع.
إن كل المعترضين لهم وجاهة في طرح الإعتراض على الهدم سواء من ناحية أثرية المقابر وما يحتوى بعضها من أشكال هندسية نادرة لحقب زمنية سابقة.. أو أن بعض تلك المقابر لإشخاص أثروا في تاريخنا القديم والمعاصر، سياسيا وإجتماعيا وثقافيا، رأي الكثيرون أن أفضل تكريم لهؤلاء الراحلون هو إبقاء رفاتهم كما هي في مقابرهم دون المساس بها.
وبما أننا وصلنا إلى طريق مسدود لحل تلك الأزمة بطريقة عصرية.. للوصول لحل يرضى الجميع، هنا نستطيع أن نخاطب الدولة على طريقة فلسفة الحكم التي إعتمدها حكام مصر منذ الملك ” مينا” وحتى الآن والقائمة على فلسفة حكم متوارثة وهي ” أنه عندما تريد الدولة شيئا تفعله” بغض النظر عن الإعتراضات الشعبية.. منذ قرار بناء الأهرامات والمعابد.. وقرارات محمد علي باشا التحديثية.. وقرار حفر قناة السويس للخديوي سعيد باشا.. وقرار تحديث القاهرة للخديوي إسماعيل باشا.. و إصلاحات الرئيس جمال عبد الناصر. وتلك المخاطبه يجب أن تكون وفق رؤية غير تصادمية تطرح حلولا بديلة ما دامت تعارضت فلسفة الحكم مع الإعتراضات النخبوية والشعبية، فمثلا في شهر يناير الماضي نشر خبر بتاريخ 21 يناير 2023 في موقع اليوم السابع كالتالي ” تعقد لجنة الإعلام والثقافة والآثار بمجلس الشيوخ، اجتماعا غدا، لمناقشة الاقتراح برغبة المقدم من النائب محمد مجدي فريد بشأن “إقامة مقبرة للعظماء في العاصمة الادارية الجديدة”، وذلك وسط حضور ممثلي الحكومة”
وهذا في ظني إقتراح بديع يجمع بين فلسفة الحكم وضرورات التنفيذ والمعترضين على أرضية مشتركة.. حيث يتم الموافقة على بناء تلك المقبرة على غرار مقبرة العظماء في باريس” البانثيون ” وننقل رفات كل العظماء التاريخيين في كل المجالات.. وهذا سيكون أفضل تكريم للجميع ولا يقتصر على أصحاب مقابر معينه شاء حظهم العثر أن يقعوا في طريق فلسفة الحكم المصرية. أما المقابر ذاتها إذا كانت تتميز بالطابع الأثري فلا ضير من تفكيكها وإعادة بناؤها في أماكن أخرى تليق بها.. كما فعل مع معبد أبي سمبل سابقا وغيره..
دعونا لا نهدر الوقت في مناطحه لن تغير شيئا، خصوصا وأن فلسفة الحكم في التنفيذ أسرع من حركة المعترضين، لهذا دعونا نبحث عن حلول مبتكرة لتفادي ماهو قادم.. نراعي فيها الحفاظ على التوازن بين القيمة التاريخية والأدبية لمن رحلوا، وبين إحتياجات الناس الأحياء للتطوير.
سؤال أخير يؤرقني ولا أجد له إجابة وسط هذا الزخم من الإعتراض، وتسويد الصفحات دفاعا عن مقابر الشخصيات العامة الراحلة. وهو لماذا ندافع عن الشخصيات العامة بحرارة وننسي مقابر الفقراء! هل نذكر مقابر عمال بناة الأهرامات! هل نذكر مقابر من حفروا قناة السويس! هل دافعنا عن مقابر من جاور مقابر المشاهير من الفقراء الذين أخذوا تعويضاتهم التي لن تغنيهم عن الذكريات ورحلوا؟
2023-05-26