فرنسا/المغرب، نموذج التبادل غير المتكافئ!
الطاهر المعز
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المغرب سنة 2017 خلال بداية ولايته الأولى، ثم قام بزيارة ثانية، سنة 2018 لتدشين خط القطار فائق السرعة بين طنجة ( أحد أهم موانئ إفريقيا) والدار البيضاء ( العاصمة الإقتصادية للمغرب) وعاد خلال ولايته الثانية يوم الإثنين 28 تشرين الأول/اكتوبر 2024 في زيارة رسمية تستمر ثلاثة أيام، يرافقه خلالها وفد من السياسيين يضم وزيرَيْ الداخلية والحرب، ومجموعة من رجال الأعمال لبحث مشروعات استثمار مُرْبِح، وللمشاركة في احتفال توقيع اتفاقيات في مجالات الطاقة والمياه والتعليم والأمن الداخلي، ويُشير حضور وزير الدّاخلية الفرنسي، وذِكْر “التعاون في مجال الأمن” إلى اهتمام فرنسا بالمُهمّة القَمْعِية التي تنفّذها الدّولة المغربية ضد فُقراء إفريقيا الذين يرغبون الهجرة إلى بلدان الإتحاد الأوروبي بحثًا عن القُوت، بعدما ساهمت جُيُوش وشركات أوروبا في تدمير وتخريب ونَهْبِ بُلدانهم…
تأتي زيارة ماكرون بعد نحو ثلاثة أشهر من إعلان فرنسا دعمها للموقف المغربي الذي يُحاول شَرْعَنَة ضم الصحراء الغربية، وهو ما ترفضه جبهة البوليساريو والجزائر والعديد من الدّول الإفريقية وغيرها، لأن حكومات المغرب عرقلت مُهِمّات الأمم المتحدة ورَفَضَت تطبيق قراراتها بدعم من الولايات المتحدة ومعظم دول الإتحاد الأوروبي، أما المَوْقف الفرنسي فقد جاء بعد أزمة دبلوماسية بين البلدين وبعد مفاوضات في الكواليس لِحَلّها، لأن المغرب هو الشريك التجاري الأول لفرنسا في أفريقيا، إذ يطمح الرّأسماليون الفرنسيون إلى دَعْم العلاقات مع المغرب وتعزيز استثماراتهم فيها، خصوصًا في مجالات صناعة السيارات والطيران، وشبكة السكك الحديدية، وترغب فرنسا في إنشاء “نظام بيئي مشترك” في مجال ألعاب الفيديو…
لم تُقدّم فرنسا أي تنازلات لحكومات المغرب العربي وإفريقيا بشكل عام، والحكومات المنتمية للمجموعة الفرنكفونية، بل عَسَّرت فرنسا الحصول على تأشيرة الدّخول لأراضيها ومنعت – بشكل غير رسمي، ولكنه نافذ عمليًّا – تدريس اللغة العربية ( بذريعة إنها لغة القرآن) وخفضت عدد المنح الدّراسية وعدد الطّلاّب العرب والأفارقة في جامعاتها، وسبق أن خفضت عدد تأشيرات دخول مواطني المغرب العربي بنسبٍ مُعْلَنَة بلغت 50% وفي الواقع انخفض عدد التأشيرات بنسبٍ تراوحت بين 70% و 90% والدّاخلون هم من أصحاب المهارات الذين اختارتهم الشركات الفرنسية ( بعد خمس أو سبع سنوات من الدّراسة التي تُسدّها شعوب بلدانهم الأصلية) أو من أفراد أُسَر يحمل أحد مُعيليها الجنسية الفرنسية، وتُلوّح الحكومة الفرنسية الأخيرة ( أشدّ يمينِيّةً من سابقاتها) بتقييد إصدار التأشيرات، غير إن حكومات المغرب العربي لا تُعير هذه القضية اهتمامًا كبيرًا، وتشترط فرنسا رَبْطَ التأشيرات بإصدار حكومات المغرب العربي تصاريح قنصلية، وهي مستندات أساسية لترحيل المهاجرين وإعادة الأجانب إلى بلدهم الأصلي، وهدّد وزير الدّاخلية الفرنسية – في بداية تشرين الأول/أكتوبر 2024 – الدّول المعنية: “إذا لم ترسلوا إلينا تصاريح قنصلية لتسهيل طرد مواطنيكم الجانحين، سنُصدر من جانبنا تأشيرات أقل لجميع مواطنيكم”، وأشار إلى المغرب بشكل خاص، إذ إنّه تمّ منح 238 ألف تأشيرة لمواطنيه مقابل 1680 إعادة قسرية إلى أراضيه، وخلقت هذه التهديدات ذات الصبغة الإستعمارية والإستعلائية والمُهيِنَة بعض التّوتّر في العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا ودول المغرب العربي، واعتادت الأحزاب السياسية الفرنسية إحياء الجدل بشأن الهجرة والمكُهاجرين، خلال أي حملة انتخابية، مهملة المشاغل الحقيقية للمواطنين، ويزيد الجدل بشأن ترحيل مهاجرين غير نظاميين، بعد أي حادث قد يكون المهاجرون طرفًا فيه، وغالبا ما يتم تلفيق التّهم بدون أي حجة أو دليل…
تحاول حكومة فرنسا الحالية (يمينية جدًّا) الحفاظ على جَوْهر السياسة المُعادية للعرب والمسلمين وشعوب بُلْدان الأطْراف بشكل عام، مع تغيير الأسلوب، على أمَل تحسين صورتها لدى الرأي العام الخارجي وزيادة نصيبها من نهب ثروات هذه البُلدان، خصوصًا بعد إقصاء فرنسا من مالي والنّيجر وبوركينا فاسو…
يُولي النّظام المغربي أهمية خاصة إلى مسألة الصّحراء، ولذلك فهو مستعدّ لتقديم الكثير من التنازلات الجديدة، امتِنانًا منه لموقف فرنسا حيال الصحراء الغربية، وهي منطقة تعتبرها الأمم المتحدة “غير متمتعة بحكم ذاتي” بينما يتواجه بشأنها المغرب منذ نصف قرن مع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذّهب (جبهة بوليساريو) التي واجهت الإستعمار الإسباني ولم تدعمها المغرب، فيما دعمتها الجزائر، وتعتبر المغرب إن الإعتراف بهيمنة المغرب على الصحراء هو أهم معيار لتمتين العلاقات مع الدّول، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع الكيان الصهيوني الذي اعترف – بعد الولايات المتحدة – بشرعية الإحتلال المغربي للصحراء، وينطبق هذا المعيار على العلاقات مع فرنسا التي لها مخططاتها الخاصة خدمة للشركات الإحتكارية الفرنسية، وتعويضًا لفقدانها نفوذها التقليدي في المستعمرات الفرنسية السابقة الواقعة غربي إفريقيا، مما يُفسّر ضخامة الوفد الذي يرافق إيمانويل ماكرون، والذي يتصمن ما لا يقل عن تسعة وزراء بينهم وُزَراء الداخلية والاقتصاد والتعليم والثقافة، ورؤساء مجموعات مثل “إنجي” و”ألستوم” و”سافران” و”توتال إنرجي” و”سوييز”، فضلا عن ممثلين لشركات مثل “إيرباص” و”فيوليا” و”تاليس “، ويضمّن البرنامج توقيع اتفاقيات في مجالات الطاقة والمياه والتعليم والأمن الداخلي، وتُشير هذه النقطة الأخيرة في جدول الأعمال إلى عمليات تنصت من جانب المغرب على هاتف ماكرون والعديد من الشخصيات الأوروبية، لصالح الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وهي الحادثة التي كانت سببًا في توتير العلاقات وفي إرجاء زيارة الرئيس الفرنسي التي كانت مقررة مطلع 2020، بعد زيارة أولى سنة 2017 وثانية سنة 2018، وضغط الرأسماليون الفرنسيون على مُمثّلِهم (إيمانويل ماكرون ) بهدف تحسين العلاقة مع المغرب بفعل حيث المصالح الإقتصادية الفرنسية الكبيرة في المغرب التي يأمل مَلِكُها وحكومته أن تُؤَدّي هذه الزيارة إلى زيادة الإستثمارات الفرنسية في منطقة الصحراء ( المُحْتَلّة من قِبَل المغرب) التي تزخر بموارد سمكية ضخمة وبالفوسفات والمعادن الأخرى، ويمكن استغلال الطاقات البديلة كالطاقة الشمسية والرياح وتأمل شركة “إيرباص هليكوبترز” إنجاز صفقة مُؤَجَّلَة لبَيْعِ 12 إلى 18 مروحية “كاراكال” للجيش المغربي خلال الزيارة، كما تأمل فرنسا الحصول على عقود توسيع خط القطارات السريعة بين طنجة وأغادير بعد تدشين الجزء الأول ( طنجة – الدّار البيضاء) سنة 2018، ويمكن الإستنتاج إن التصريحات من نوع “تعزيز العلاقات القائمة على المصالح المشتركة” هي في الواقع تعزيز المصالح الفرنسية، مقابل الإعتراف “بشرعية” احتلال الصحراء الغربية
احتلت فرنسا المغرب من سنة 1912 إلى سنة 1956، ولا يزال المغرب جنة الشذوذ الجنسي والفرنكفونية وملاذًا للمُجرمين الأوروبيين الأثرياء الذي يملكون عقارات في أحياء مُخصّصة لهم، كما في مراكش أو بعض المُدُن السياحية الأخرى، ويَتَصَدّرُ المغرب قائمة وجهات الاستثمارات الفرنسية في القارة الأفريقية، إذ ثمة حوالي أَلْف فرع للمنشآت الفرنسية في المغرب، ومن بينها نحو 30 شركة من المؤسسات الأربعين ( وهي الأكبر في فرنسا) المُدْرَجَة في مؤشر كاك 40، وسجلت المبادلات التجارية بين فرنسا والمغرب “مستوى قياسيا” سنة 2023، إذ بلغت 14 مليار يورو، في وقت تستمر فيه فرنسا في صدارة قائمة المستثمرين الأجانب بالمغرب، فيما تأمل شركات قطاعات الطاقة “النظيفة” أو تقنيات تحلية المياه أو مشاريع البنية التحتية الكبيرة مثل توسيع الموانئ والمطارات، الإستفادة من هذه الزيارة، وتأمل شركة “الستوم” (Alstom) الفرنسية، المُتَخَصّصة في بناء قطارات وخطوط السكك الحديدية، الفَوْزَ بعقد توريد قطارات جديدة للخط فائق السرعة الجديد بين مدينَتَيْ مراكش والقنيطرة.
تتبجّح السلطات المغربية بتأديتها دَوْرَ حارس الحُدُود الأوروبية، وأعلنت زيادة عدد المهاجرين الذين تم إيقافهم ومنعهم من الوصول إلى أوروبا، من حوالي 56 ألف مهاجر بين كانون الثاني/يناير و آب/أغسطس 2022 إلى حوالي 87 ألف مهاجر خلال نفس الفترة من سنة 2023، وسوف يُساهم اعتراف فرنسا بشرعية احتلال الصحراء الغربية في زيادة عدد الفُقراء الموقوفين في المغرب، وتسهيل ترحيل المغاربة الذين صدرت بحقهم قرارات طرد من فرنسا التي تأمل حكومتها الإعتماد على المغرب كبَوّابة نحو إفريقيا ومنطقة الصحراء الكبرى، حيث فقدت فرنسا الكثير من نفوذها، كما تأمل الشركات الفرنسية زيادة استثماراتها وأرباحها، رغم منافسة شركات الصين وإسبانيا…
2024-10-30