فاطمة لن تنتظر حتى الثانية صباحًا*
محمد ابو عريضة
مرت الدقائق والثواني ببطىء شديد .. كأن عقارب الساعة أدركت شغف صاحبة الدار بالوقت، فأرادت أن تعبث معها، فأخذت ترفع من صوت تكاتها رويدًا رويدًا، وتُخّفِّض من سرعة جريانها باتجاه الساعة الثانية صباحًا.
جلست فاطمة في ركن مظلم بباحة الدار، تنتظر زوجها محمود، الذي خرج منذ ساعات ولم يعد بعد، هي تعلم أنه ذهب في مهمة خاصة بتكليف من القائد، شعرت بذلك من توترة، ومبالغته في التحوط.
كان الأطفال قد ذهبوا في سبات عميق، حينما اقترب منها، وهمس في أذنها: أبلغي الرفيق “أبوالعدل”، إن لم أعد قبل الساعة الثانية صباحًا.
بعد أن قبَّل الأطفال، نظر إليها، وأشاح بوجهه عنها وغادر مسرعًا، ودت فاطمة لو تستطيع مرافقته.
فاطمة تعرف أن زوجها، حينما يصنع هدوءً على محياه، فإن ثورة عارمة يخفيها خلف وجهه الوديع، ثورة تكاد تفجر جسده من هول براكينها.
أدركت منذ اللحظة الأولى أن زوجها سينحاز إلى عالم خاص، يذوب الشرفاء في تفاصيله، وحينما احتلت بغداد، مكث يومين لا يكلم أحدًا، وفي مساء اليوم الثالث غادر الدار، يحمل معه حقيبة، جمع فيها أسرارًا تخص عالمهم الغامض.
صَمْتُ الليل أشعر فاطمة بالعجز، فرغم أن لها مع الظلمة حكايا كثيرة، لم يسمح مرور السنين بعد لذاكرتها أن تنساها، إلا أن الأمر في هذه الليلة مختلف.
انتفضت فرائصها لمّا لاح في وجدانها خاطر استشهاد محمود .. حينما خرج عن صمته بعد سقوط بغداد، قال لها: يُحرَم عليَّ الاقتراب منك ما دام على أرض العراق جندي أمريكي.
شعرت فاطمة في تلك اللحظة أن يدًا فجت الأرض من تحت قدميها، وغاصت بعيدًا داخل مزيج لزج بارد يلتهمها، ولولا جملة أخرى أضافها محمود، وهو ينظر إلى أطفاله النائمين:
وصيتي يا فاطمة أرض العراق، لا تساومي عليها، أرضعي أبنائي حب العراق قبل حب الحياة.
لولا هذه الجملة لذهبت فاطة في المزيج إلى عالم آخر.
الساعة تجاوزت الواحدة صباحًا، ومحمود لم يعد بعد، وفاطمة تبحث بين ثنايا ضلوعها عن صبر تحتاجه للوصول إلى الساعة الثانية، حاولت أن تلملم من وجدانها معاني تعينها على احتمال حياد عقارب الساعة، وبرودة لحظات الانتظار.
فاطمة منذ أن شعرت أن ثدييها ينهضان بهمة، قبل أن تبلغ الثانية عشرة من عمرها، فهمت كلمات جدتها، التي كانت ترعاها بعد وفاة والديها، قالت لها الجدة:
الأرض يا فاطمة مثل الرحم، إذا لم تُفلحِ في رعايتها، وتحافظي عليها، لا تحبل وتنجب أطفالًا.
فاطمة تناجي طيف محمود:
يا محمود اقبض على أرضك، فلن يلتصق بجدران رحم فاطمة إلا ذريتك.
صَمْتُ الليل يقطعه سعال أحد الصغار .. لحظة ألق تسرق من قلق فاطمة ابتسامة عذبة، تعيد إلى ثغرها بهاءه، بعد أن تلحظ وجه صغيرها قصي، وهو غارق في أحلامه الصغيرة.
الساعة تقترب من الثانية صباحًا .. محمود لم يعد، وفاطمة ما زالت تقبع في ركنها المظلم تنتظر، ولكي لا تستحوذ تكات الساعة على وجدانها، تدخل الدار، وتتجه إلى المذياع وتفتحه.. المذيع يذيع:
رتلًا من الدبابات الأمريكية وقع في كمين شرقي الفلوجة، وشهود عيان أفادوا بوقوع العديد من القتلى في صفوف الجنود.
تذهب فاطمة في خيالاتها إلى حيث التقت محمود أول مرة في الفلوجة .. تذكر كيف لفت نظرها بقامته الممشوقة، وسمرته المائلة إلى الحُمرة، وصدره النابض، وكيف وكيف وكيف.
فاطمة تعود إلى المذياع، فتسمع:
قائد المجموعة التي كمنت لرتل الدبابات اقترب من الناس، وقال لهم: أنا الثائر محمود، لن أغيب عنكم طويلًا، سنعود ونطرد الغزاة، ونحرر الأرض.
فاطمة، لمّا سمعت ما قاله المذيع، شعرت أن رسالة محمود موجهة لها، فأطفأت المذياع، ووقفت كالطود وسط باحة الدار، واتجهت إلى أطفالها توقظهم:
يا أبنائي لن أنتظر لإبلاغ الرفيق “أبوالعدل” حتى الثانية صباحًا، فالصبح لا يأتينا، بل نحن من يذهب إليه، ومحمود هناك ينتظرنا، ينتظر فاطمة لا تُشعرها تكات الساعة بالعجز.
آب 2003
2024-09-03