عواقب وخيمة لمهرطقي غلاستونبري!
سعيد محمد*
من بوابة فلسطين، وعلى منصة غلاستونبري، مهرجان الموسيقى الأهم في المملكة المتحدة، وجدت (أم الديموقراطيات الحديثة) نفسها في قلب عاصفة سياسية شرسة، أشعلتها عروض فرقة البانك راب “بوب فيلان” وثلاثي الراب الأيرلندي (الشمالي) “ني كاب”. فما بدأ كمظاهر تضامن من فنانين تقدميين مع قضية شعب يتعرض للإبادة الجماعية وسط صمت العالم وتواطؤ الحكومات الغربيّة، تصاعد سريعاً إلى جدل سياسي وثقافي واسع النطاق، استدعى تحريضاً علنياً من السفارة الإسرائيلية في لندن، وإدانة من أعلى المستويات الحكومية، وتقريعاً علنياً للإعلام، وأطلق تحقيقات جنائية، ودفع جهات مؤثرة تبدأ من حكومة الولايات المتحدة ولا تنتهي عند وكالات المواهب إلى اتخاذ إجراءات عقابية صارمة ضد الفنانين المهرطقين بما لا ترغب السلطات بسماعه ترقى في مجموعها إلى حرب ساحرات عصرية مكتملة الأركان.
يتركز الجدل بشكل أساسي حول استغلال فرقة بوب فيلان نقل هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي المباشر فعاليات غلاستونبري لتمرير رسائل ذات مضمون سياسي، حيث قاد بوبي فيلان هتافات “الموت، الموت للجيش الإسرائيلي” و”فلسطين ستكون حرة من النهر إلى البحر” فيما بينما كانت تُعرض على الشاشة خلفه رسائل تصف جرائم إسرائيل في غزة بأنها “إبادة جماعية”.
وقد سارعت وزيرة الثقافة ليزا ناندي إلى توبيخ بي بي سي، مشيرة إلى “مشكلة قيادة” داخلها وطالبت بإجابات فورية حول سبب عدم قطع البث المباشر. ونددت الوزيرة – المكلفة بحماية الثقافة والمثقفين وحقوق التعبير الفني – بـما وصفته “المشاهد المروعة وغير المقبولة”، وأكدت أن الحكومة لن تتسامح مع معاداة السامية – في خلط تام ساذج بين انتقاد الإبادة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في قطاع غزة ومظاهر كراهية اليهود في أوروبا التاريخية -. والتحقت بي بي سي من جانبها بالوزيرة لتشير إلى أن “المشاعر المعادية للسامية التي عبر عنها بوب فيلان كانت غير مقبولة على الإطلاق” وأعربت عن أسفها لعدم وقف البث في حينه، وقامت منذ ذلك الحين بإزالة العرض من خدماتها لمشاهدة التسجيلات. وأعلن في لندن عن محادثات مع هيئة تنظيم الإعلام (أوفكوم) بهذا الخصوص، ما يشير إلى مراجعة رسمية لطريقة تعامل بي بي سي مع الحادثة، لا سيما بعدما أن أدانها رئيس الوزراء، كير ستارمر.
بدوره حظي حفل فرقة ني كاب باهتمام كبير، رغم أن بي بي سي تعمدت عدم بثه مباشرة. وقد واجهت الفرقة، المعروفة بتعليقاتها المؤيدة للفلسطينيين والسياسية، دعوات سابقة من كل أطياف النخبة الحاكمة في السلطة والمعارضة لمنعها من المشاركة في المهرجان بحجة اتهام مو تشارا، أحد أعضائها، بالإرهاب إثر رفعه علم حزب الله خلال حفل سابق. وقادت الفرقة هتافات “فلينكح كير ستارمر”، رددها جمهور عريض تكراراً في تحدٍ مباشر للسلطات بينما غرقت الساحة أمامهم في بحر من أعلام فلسطينية.
وبينما كانت السلطات تكافح لإرضاء السفارة الإسرائيلية واللوبي الصهيوني في المملكة أعاد المغني الأمريكي مارك ريبلليت نكأ جروحها بعدما استغل حفلته (أمس أول) لرفع علم فلسطيني وقيادة جمهوره للهتاف بالنكاح لنتانياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) وللجيش الإسرائيلي كليهما!
مطاردة مهرطقي غلاستونبري التي بدأت بالإدانات الرسمية وتأنيب ال بي بي سي انتقلت إلى حيز التحقيقات الجنائية عندما فتحت شرطة أفون وسومرست مراجعة للحفلات، مع تدقيق في اللقطات الصوتية والمرئية لتحديد ما إذا كانت أي هتافات فيها تشكل مادة ترقى إلى جرم جنائي، بما في ذلك جرائم الكراهية والتحريض.
بالإضافة إلى الملاحقة القانونية، واجهت فرقة بوب فيلان عواقب مهنية وخيمة: فقد أُلغيت تأشيرات دخول الفرقة إلى الولايات المتحدة بعد تدخل مباشر من ماركو روبيو وزير خارجيّة الإمبراطوريّة شخصياً، وتخلت عنهم الشركة الأمريكية التي كانت تمثلهم فنياً – الوكالة المتحدة للمواهب – فألغت عقودها معهم بعد أن كان من المقرر أن تقدم الفرقة عروضاً في شيكاغو وبروكلين وفيلادلفيا الخريف المقبل.
وقد رد فيلان على هذه الحملة من خلال مقطع فيديو على إنستغرام، قال فيه إن السياسيين البريطانيين يجب أن يخجلوا كثيراً من موضع “ولاءاتهم”، مشدداً على أن “الدعوة لإنهاء ذبح الأبرياء ليست خاطئة أبداً”، وأن غضبه موجه نحو الجيش وليس الشعب الإسرائيلي. على أن شركة ميتا (مالكة فيسبوك وانستغرام وواتس أب) سارعت إلى إزالة الفيديو من التطبيق، ما اضطر فيلان إلى إصدار نص مكتوب تداوله النشطاء كصورة عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي قال فيه: “إن تعليم أطفالنا التحدث عن التغيير الذي نريده ويحتاجونه هو الطريقة الوحيدة التي نجعل بها هذا العالم مكانا أفضل. ومع تقدمنا في السن ونيراننا بالتلاشي تحت ضغوط حياة الكبار الخانقة ومسؤولياتها، من المهم للغاية أن نشجع ونلهم الأجيال القادمة لالتقاط الشعلة التي نقلت إلينا.”
لقد تحول مهرجان غلاستونبري هذا العام – وبعكس رغبات منظميه – إلى منصة السياسة الشعبيّة الأهم في بريطانيا بعد تغوّل الصهينة على السياسيين، وغلبة الخنوع على الإعلام الرئيسي، وتردي مستوى الجدل الثقافي العام. وبفضل هذا النوع من الفنانين المنحازين بحكم فنهم وثقافتهم للإنسان ضد الإمبريالية ولحريّة التعبير ضد القمع والمقتلة، صار للناس العاديين من الأغلبية في هذا البلد منصة تطلق منها مواقفهم الصريحة الواضحة ضد جرائم الإمبريالية والحرب الطبقية التي تشنها النخب – وإن بهتافات بذيئة تبدأ بنكاح الحكام ولا تنتهي عند تمني موت جيوشهم -.
– لندن
2025-07-05