فتاح هنا *والآن عيد ميلاد مجيد عبد الفتاح إسماعيل، عيد ميلاد مجيد لوفاء وعمد وصلاح وكل أنجال وأحفاد فتاح في منافيهم المتفرقة بمناكب الأرض، ولرفاقه وعشاقه الذين يتضاعفون ويتكاثرون، على نحو لا يصدق، مع مرور الأيام والأعوام.عيد ميلاد مجيد لفتاح في مثواه المجهول والذي لم ينقطع بعد التكهن في مكانه، هل مازال في بيت الجريمة، أم نقل إلى البحر، في النفق أو تحت الجسر، أم في جبل شمسان، في صهاريج الطويلة أم في منحدرات معاشيق… ولم تتوقف بعد رحلة البحث التي يتفاقم ويتضخم معها حجم اللعنة التي تطارد القتلة الذين قتلوا فيما بعد أو أولئك الذين مازالوا أحياء بلا حياة ولا حياء بعد أن شاركوا في اقتراف جريمة لا تنسى ولا تغتفر في تاريخ اليمن.لقد قتلوك وما قتلوك، فأنت لم تمت وما زلت تشتعل في غرف ودهاليز الذاكرات والذكريات، وفي الأذهان وتستعاد وتمارس حضورك البهي، الرشيق والجميل.هو لم يمت فقد كان شاعراً حين تزوره تخرج منه بكتاب أو قصيدة أو بتوصية لمنحة دراسية وليس بحوالة مالية أو مسدس، وإذا ما كان لديه متسع فسوف يدعوك لمشاركته وليمة الغداء الباذخة: “العصيدة” التي تشبعك وأنت تستطعم معها فاكهة شجرة المعرفة في حضرة البستاني “فتاح”.لقد كان حالماً بإفراط وتطير إلى الدرجة التي تخيل معها أن بوسعة أن يعيد المجانين إلى رشدهم، وكان لكل ذلك سياقه ومبرراته.كان يتشوف إلى إقامة فردوس للفقراء على الأرض بزهد ناسك، وقد حاول وكابد كثيراً من أجل تسليط ضوء شمس العقل على الكهوف التي لم تشرق عليها شمس العقل والإنسانية وبدا في ذلك وكأنه استفز بدائيتها وعدائيتها فيما كان يتطلع إلى حفز تفكيرها وتنويرها وتحريرها ومن هنا كانت محنته ومأساته كحال غيره من الكبار الذين سبقوا عصرهم، وحال معظم الأفذاذ الأسطوريين مع أولئك الذين لا يعرفون في هذه الدنيا غير الجحيم، ولا يمارسون غير الجحيم: تكرار القيام بنفس الفعل دون احتمالية للنهاية، وعلى ذلك تتكرر وتتناسل الارتكابات والفظائع ويسود صوت الحل بالقتل بلا كلل ولا ملل.كان يمارس الكتابة الفكرية والسياسية ويكتب القصيدة الجديدة والنصوص الغنائية، ويبذل الكثير من الوقت والجهد لتحصيل المعرفة والتفاعل مع مستجدات وقضايا العصر، ويسهر حتى مطلع الفجر مع كبار المثقفين والمفكرين والساسة اليمنيين والعرب والأجانب، حيث يخوض معهم نقاشات عميقة حول آخر مستجدات المشهد الثقافي والإبداعي في اليمن وبلاد العرب والعالم، ويسألهم عن آخر الإصدارات والترجمات التي طالما وجدت طريقها إلى مكتبته في مقر عمله وفي منزله وكان مصيرها الحرق والسرق والتمزيق والرمي إلى الشارع في أعلى مراحل الهمجية التي انزلقت إليها البلاد مؤخرا.وكان من شأن ذلك الاحتفاء بالمعرفة والرهان عليها وعلى حملتها أن يثير عليه غضب بعض “حمران العيون” في المكتب السياسي واستنكارهم وزمجرتهم ووعيدهم: كيف يقضي الرجل الأول في الحزب الليل مع البردوني وأدونيس والجاوي ودرويش وأيمن أبو الشعر والمرشدي ومروة وغيرهم فيما جمرة القضية تحتاج لزعيم ينهض مع ديك الصباح ليجدد إشعالها كل يوم بالمزيد من الحرائق والخرائب وأعمال “السحل” وقطف الرؤوس… لقد كانوا على يقين بأن في مجالسة المثقفين “ميوعة” وخلل وخطر و… الخ.من هنا كانت كل محاولات تبديد أثره، وتوزيع دمه بين القبائل، وتزوير جثمانه، وتشفير قبره، وتقصد التعمية عليه بالفرقعة المجلجلة، وحمم النيران وكتل اللهب والأدخنة الكثيفة، وفي ذات المنحى كان القصف الذي روع المدينة حين استهدف منزله بالقذائف المحرقة لمدافع البوارج البحرية التي لم تخض أي معركة ضد الأعداء وقراصنة البحر الأجانب بقدر ما أدخرت ذخائرها لقصف منزل فتاح وأسرته في جبل الساعة وفي تلك الساعة كتب الفصل الختامي لشيء اسمه القوات البحرية بصورة مهينة وعلى وقع اللهب في قمة جبل أريد لها أن تكون مسرحا لحدث مشهدي في زمن غير مشهدي.عيد ميلاد مجيد فتاح، وليس لدينا من جديد أو مفيد فقد تواصل مسلسل سفك الدماء واتسعت رقعته لتشمل كل الأرجاء، وأصبحت الاغتيالات رياضة يومية ومعها حرب الجميع على الجميع والاختطافات وسموم الكراهية والطائفية والقروية، ولم يعد أحد يجرؤ على الحلم أو الجهر بـ”الاشتراكية”.عيدك سعيد ومجيد أيها الرائع الذي حاول أن يعلمنا كيف نهذب أطراف أصابعنا ونقاط تلامسنا مع العالم، وحاول أن يساعدنا على اكتشاف أنفسنا من خلال القراءة، وكان حريصاً على تكرار القول إنه بالقراءة يزداد المرء معنى ولباقة وأناقة ونوراً وفرحاً وانفتاحا على العالم. ليس ثمة جديد لدينا، مع الأسف، كل شيء له محتوى وصفة الكابوس، فقد تكاثر المجرمون والقتلة الذين لا يكتفون بالنهب والسلب والاغتصاب بكل بساطة، بل ويتطيرون ويرقصون طرباً على أشلاء مدينة ذبيحة. ويدمرون حتى الآلهة التي تحميهم، ويبيدون معالم الذاكرة وعلاماتها وآثار الثقافة والمدنية.ذلك ما كنت تحذر منه وتدعو إلى قطع دابره بالمراجعة ونقد الذات وإماطة اللثام عن جذور الجريمة وأسباب تكرارها وكل ما أفضى بنا إلى هذا العدم.عيد ميلاد مجيد فتاح.. مع أحر التحايا وأكاليل القبلات والمحبة.