ألم الفراق صعب وطويل.. وقسوة التذكر او الذكرى او التذكير تضاعف الحزن وتعيد الصور والأياموالدموع وتخنق العبرات والآهات..
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ
فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ
الأرْضِ إلاّ مِنْ هذه الأجسادِ
ويظل السؤال ويرد الجواب وتبتعد الكلمات او تغرق في الصمت والصبر والتسليم..
تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْـجَبُ
إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُزناً في ساعةِ المَوْتِ
أضْعَافُ سُرورٍ في ساعةِ الميلادِ
وتمضي السنون وتدور الدوائر وتبقى رفة العين وشهقة الحزن ماثلة في الفراق والغياب والفقدان..
خطف المرض اللعين اصدقاء اعزاء واشقاء غالين على عجل ودون موعد وانتظار.. كنا نلتقي ونبني صروح احلام ومشاريع مستقبل زاهر، ونجدد العهد لامال مفتوحة الآفاق لشعبنا ووطننا في معمورته الممتدة بين مائين.
هكذا في ليلة ظلماء رحل الصديق صباح جواد..في غرفة المستشفى وعلى سريره الاخير ودعنا كما كتب لي الصديق سامي الرمضاني وهو يغمض عينيه مع ابنته وابنه، في اخر لقاء وداع.
وفجعنا فايروس الكوفيد 19 في بداياته برحيل اصدقاء لم يحسبوا له حسابه.. ولم ينتظروه موعدا للغياب.. صرخات زوجته، ام رونق، على الهاتف هزتني؛ رفيقك صباح علي الشاهر لم نعد نراه.. وبعده جاء خبرالصديق جودت القزويني، وكل يوم خبر اخر عن جائحة اغلقت ابواب العالم وسورت كرته الأرضية بدائها ورفعت رايات السواد الأليم. وطوى المحيطات خبر غياب شقيقة الروح، الاستاذة فاطمة، فزعت بامالي الى تكذيبه ولكن بلا جدوى.. خطفتها المنون. وبين حصار الكورونا واجراءات السلطات التي منعتنا حتى اننحمل الجثمان الطاهر الى مثواه الاخير بنظرة وداع، وشرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي، كما قال صاحبنا ابو الطيب المتنبي.
في المنفى والمغترب، في هذه الغربة الطويلة والانتظارات المتأملة تاتي اخبار الموت، الوداع، تشاركا فياحزان المهجر القسري وتعزية في الاغتراب الاضطراري محملة بما يضاعف في شجنها وحزنها وعبرها.. فتصدم كل من تصله ويردد حروفها وكأنها هجوم مباغت دون استعداد او تحسب له رغم كل ما يقال عنه. اخبار تتوالى.. وفاة الدكتور جعفر هادي حسن والرفيق عبد الرزاق الصافي والصديق سعد الياسري(ابو سعود) في لندن، ودفنهم في مقابرها.. والدكتور صادق البلادي، في المانيا ودفنه في مقابرها. ووفاة الصديق منذر الاعظمي في تونس ودفنه فيها، تلحقها وفاة الصديق الطبيب نظمي عبد الصاحب العبيدي في اسبانيا ودفنه في مقابرها. اية فاجعة هذه؟!.. حتى القبور اصبحت بعيدة عن السماوات الاولى، وغريبة عن تراب الوطن الذي كان حديث الروح وهاجس المنافي. غربة واغتراب في الحياة وفي الممات.
قائمة الاصدقاء تطول وسجل الرحيل يمتد ودموع الوداع تحرق الاجفان. لكل ذكراه ولكل مكانه ولكل حسرة ولهفة وبقايا سؤال ..
عند بحيرة في حديقة قريبة من سكني امارس المشي فيها في زمن الكورونا والحصارات والممنوعات، كان ابن العمة، سميي، القائد العسكري المؤتمن في عمله، اللواء كاظم ابو رغيف الموسوي، يتصل هاتفيا كل فترة وبالصدفة المدهشة حين اكون عند تلك البحيرة وانا ادور حولها، فاجلس على كرسي يطل عليها واواصل الحديث معه.. وقبل اسابيع وصلني خبر رحيله فجأة، تاركا خلفه عائلة كبيرة، وذكريات وأسئلة كثيرة. والآن كلما امر بالبحيرة اتوقف متذكرا كلماته وسلاماته واشواقه.. هكذا نودع الاحبة بعيدا عنهم، نوجع لهم وهم يرحلون، لا لقاء بعد ولا عتاب الزمان ومسافات المكان.. ويتركوننا بعدهم بفراغ السؤال عنهم وقسوة الغياب ووحشة الفراق..
ايها السابقون وداعا.. تظل ذكراكم وما تركتموه من طيب حيا يعيد بسماتكم المرسومة على الوجوه ويجدداستعادة لكم.. حضوركم قائم رغم الغياب، ونوركم مشع طارد للظلام، ويبقى سؤال المتنبي وفاء لكم وعنكم في القلب والعقل والوعي..