على ماكرون إعادة النظر!
عبير بسام.
في حين يرى البعض أن تقريع السيد إيمانويل ماكرون لجميع الأطراف اللبنانية لإفشال مبادرته بعد تفجير مرفأ بيروت أمر جيد، فإن البعض الآخر في لبنان يأبى على نفسه القبول بلغة التخاطب التي تحدث بها وكأن الجميع تلامذته في لبنان، وجاء من يقول له: انتظر سيد ماكرون! إن شريكك ومديرك الأميركي لم يكن قادراً على فرض شروط تفاوضه في لبنان، وأشهر القحط التي عاشها لبنان لم تستطع أن تغير المبادئ والأولويات التي وضعها، ليس فقط على المقاومة وقيادتها، وإنما على الشعب المقاوم أيضاً.
هناك جزء من اللبنانيين، ورغم سوء أوضاع البلد وعدم انتظام شأنه، وقبل الإعلان عن قيامه، قاوم وجود الفرنسيين في لبنان، وهم أنفسهم من قاوموا الاحتلال الأطلسي في العام 1982، وأخرجوا جنوده وأرجلهم تتخبط برؤوسهم، فهل سيرضى أحفاد هذا الفريق من اللبنانيين بقبول الفرنسيين كمحتلين جدد ولو بالسياسة والقيادة؟ إن هذا أمر مرفوض.
نصف الخطاب الذي “فقعنا” إيّاه ماكرون كان حول دور المقاومة ودور حزب الله وحركة أمل كمعطلين للمبادرة. وكأنّ هذين الحليفين اللذين يمثلان أغلبية منتخبة لها نوابها في الجنوب والبقاع وبيروت وجبل لبنان يعد دورها أمراً ثانوياً في تشكيل الحكومات. لقد حان الوقت لكي تقوم مراكز الدراسات في لبنان بإجراء استفتاء حول مناصري هذين الحزبين ليس في مناطقهما الانتخابية ولكن في لبنان، كي يتعلم ماكرون كيفية مخاطبة المقاومة وأهلها ولكي يستيقظ من سباته هو والأميركي من خلفه. وتحميل مسؤولية الإخفاق بتشكيل الحكومة لهاتين الجهتين فعل يدفع للشك بنوايا الفرنسي، الذي جاء مسايراً للحزب وملاطفاً له في زيارته بعد تفجير مرفأ بيروت.
والنصف الآخر من الخطاب جاء مهدداً ومتوعداً بوقف المساعدات للبنان مهمشاً دور رئيس الجمهورية والأغلبية النيابية التي يمثلها هذا الرئيس. يؤكد ذلك أن هناك من يريد بناء البلد بناءً على عقد جديد، ولكنه عقد يهمش الأغلبية النيابية التي عبرت عنها الانتخابات الديمقراطية في لبنان في العام 2018، والتي يسعى الأميركيون إلى تقويضها والانقلاب عليها منذ أعلنت نتائجها. كلام ماكرون تناغم واضح مع الأميركي، الذي لم يغب عن الساحة اللبنانية ويعمل سراً وجهراً على محاربة المقاومة وأهلها في لبنان.
في الحقيقة، لم يكن غريباً أن يقرر السيد حسن نصر الله توقيت خطاب يوم الثلاثاء 29 أيلول/ سبتمبر، لأن السيد يعرف أن جمهوره كان بانتظاره ليوضح الأمور وليرد على ما جاء في اتهامات ماكرون وتهجماته وإعادة الأمور إلى نصابها. خاصة وأن السيد نصر الله قد قرأ حجم الاستفزاز الذي حمله خطاب ماكرون لكل ذي نفس حرّة وليس فقط لقيادة المقاومة. وفي القراءة، كلام ماكرون يعتبر جزءًا من الحملة التي تشن على المقاومة وأنصارها وأصدقائها وحلفائها في لبنان. والغريب أن تكتمل الحملة وبعد يومين فقط، بخطاب رئيس الكيان العبري بنيامين نتنياهو في الجمعية العمومية بمناسبة تأسيس الأمم المتحدة.
عودة نتنياهو لادعاءاته الكاذبة حول صواريخ للمقاومة قد تنفجر بقدرة قادر في منطقة الجناح المكتظة بالأبنية العمرانية السكانية، وبمصالح وأعمال مروحة واسعة من اللبنانيين أمر مثير للجدل، وهو محط الكثير من التساؤلات. هل يأتي الخطاب النتن الذي وجهه نتنياهو كمبرر لضربة للبنان؟
الأمر الثاني، الذي يلحظ في الخطاب النتن، هو الوقاحة التي يقف فيها صاحبه في معقل الأمم المتحدة ليتحدث عن مواقع خططه الهجومية على لبنان، وكأنه يحضر لحرب جديدة على لبنان تباركها الأمم المتحدة بشكل مباشر، بدلاً من أن يتحدث عن الدور الذي يجب أن تلعبه في حماية السلام العالمي، والذي من أجله تأسست بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد لعبت الصدفة الإلهية دوراً كبيراً في أن يكون الخطاب النتن قبل خطاب السيد بقليل، ليكون على الملأ وأمام وسائل الإعلام: الإعلان عن الزيارة إلى المكان أو المنشأة التي تحدث عنها الكذاب نتنياهو، التي ستبنى عليه استفزازات في الشوارع لتشعله. لقد كانت دعوة الزيارة خطوة متقدمة وفاعلة والتي جاءت على الهواء، خطوة بينت حقيقة ثابته أن صواريخ المقاومة هي حتمًا في قلوب اللبنانيين ولن يعرف العدو اليها سبيلًا.
الكلام الذي انتظرناه من السيد، كان رداً ذا دبلوماسية ملفتة. لقد كان السيد هادئاً في وقت تغلي فيه النفوس، ورصيناً في وقت تبجح به ماكرون بلغة متكبرة، ومؤكداً على السيادة الوطنية في وقت أراد به ماكرون بطاقة بيضاء في تعيين وفصل من يريد في الحكومة القادمة. والأهم من ذلك كان كلاماً مقاوماً يرفض الإملاءات في وقت كان يراد فيه تحقيق سلسلة من المطالب الإسرائيلية والأميركية برعاية فرنسية، اذ فند السيد النقاط التي هاجم من خلالها ماكرون، وجوقة الردادة الأميركية، من قبله حول تعطيل كل من حزب الله وحركة أمل للحكومة، واتهام الحزب بأنه جزء من الفساد وهي سابقة تجاوزت بها فرنسا نفسها، واتهام الكتل النيابية التي تشكل الأغلبية بتعطيل تأسيس الحكومة ودعم كتلة نيابية ضمن الأقلية النيابية لتسليمها زمام الأمور في لبنان. والأهم من ذلك عزل رئيس الجمهورية وتقويض دور الرئاسة الثانية في لبنان في إدارة الحياة السياسية فيه، وبالتالي فهي محاولة لعرقلة الدور المسيحي في لبنان.
إن أهم ما جاء في الموضوع هي المقاربة التي أجراها السيد بين حكومة فريق هو جزء من الأقلية، أسماها حكومة “5 أيار 2008″، وأنها حكومة سعودية – أميركية، كانت ستؤدي إلى صدام بين الجيش والمقاومة، وبين الحكومة التي دفع باتجاه تأليفها “نادي الرؤساء السابقين”، والذين تحكموا بالبلد خلال عهود الفساد، وأن فرنسا تطرح الخيار ما بين حكومة 5 أيار جديدة أو الاتهام بالتعطيل والتلويح بالعقوبات القادمة، في وقت تنهال العقوبات الاقتصادية الأميركية على اللبنانيين من فوقهم ومن تحتهم.
لقد حدد السيد نصر الله أن المطلوب من “الكتل السياسية ورئيس الجمهورية تسليم البلد”! ولكن ذلك لن يحدث أبداً. فالحزب يدعم المبادرة، ولكنه لم يلتزم بحكومة: “كيف ما كان”، ورفض استغلال المبادرة والأسلوب الاستعلائي على البلد، وقال: “رحبنا بماكرون وبالمبادرة، ولكن ليس على أن يكون مدعياً عاماً ومصدراً للأحكام، ولكن التغير في المقاربة فهو ليس مدعياً عاماً ويجب أن يغير أسلوبه، ونحن لسنا جزءاً من الفساد”.
هذا الأسلوب في حديث السيد ماكرون لم يكن مفاجئاً بعد ما سمعه وما طلبه منه جزء من اللبنانيين، الذين طالبوا فرنسا بتسلم زمام الأمور. لقد كان طلباً بإعادة الانتداب، فلماذا لا يأمل بالعودة منتدباً؟ إن ما يحكم ماكرون اليوم قلقه من فشل مبادرته أمام الأميركيين والفرنسيين أيضاً، وفي هذا كلام آخر.
2020-10-01