النفط في العراق بين استراتيجية الاحتلال والسياسة الداخلية…
عرض كتاب: من برج التكرير ثانية (ذكريات، كتابات ومواقف)… المهندس الخبير النفطي سعد الله الفتحي
د. سوسن إسماعيل العسّاف
مع قرب حلول الذكرى العشرين المؤلمة لإحتلال العراق 9/4/2003 والتي مازالت آثاره مستمرة بعد عقدين من الزمن، حتى وصلنا الى قناعة بأن عراقنا ذاهب الى المجهول، نستذكر نحن من مررنا بهذه التجربة البشعة، اصعب وأقسى اللحظات التي عشناها آنذاك. في الايام الأولى للإحتلال كان التجوال في شوارع بغداد وحزامها زاخر بمشاهد تعتصر القلب الماً وتدمي العين، مثل مشهد فوضوية تحرك الارتال العسكرية لقوات الاحتلال وانتشار الجنود المدججيين بالسلاح، وانتقالهم بين الازقة والشوارع الضيقة وهم متوترون، وكأنما كانوا هم الذين تُشن عليهم حرب (الصدمة والترويع) وليس الشعب العراقي. ثم انتقلت الفوضى، وهذا الأمر كان أكثر إيلاما، لتشمل عمليات سرقة دوائر الدولة الرسمية من قبل عصابات او جماعات منفلتة، وقد زاد من الطين بلة عمليات اتخاذ المؤسسات الحكومية مقرات عسكرية لقوات الإحتلال ومن أتى معها، بطريقة همجية، وغاب القانون ومن يطبقه بصورة كاملة. إلا اننا كنا في جدالاتنا ومناقشاتنا نستذكر المكانة المتميزة التي تمتعت بها وزارة النفط ومؤوسساتها، وكيف أنها لم تتعرض لأية أعمال تخريبية او سرقة. فقد تولت قوات الاحتلال الامريكية ومنذ الساعات الاولى مسؤولية حمايتها بجنود متأهبين للرد على كل محاولة للإقتراب منها، بينما في نفس الوقت تغاضت هذه القوات وحلفائها عن سرقات البنوك والمتاحف ومخازن العتاد العسكرية، لا بل انها كانت تتفرج على الإسلحة المسروقة والذخائر وهي تباع على قارعة الطرق. ذكريات ما جرى لوزارة النفط واسباب هذه الحماية الاستثنائية آنذاك، عادت للذاكرة بعد ان قرأت كتاب الخبير النفطي المهندس سعد الله الفتحي: “من برج التكرير…ثانية ً: ذكريات، كتابات ومواقف”، (دار الأيام للنشر والتوزيع عمان، نهاية 2022، 492 صفحة). من الممكن أن يُعد هذا الكتاب، وفق التسلسل الزمني ومعالجة المواضيع الرئيسية، الجزء الثاني لكتابه الاول “من برج التكرير…أكثر من ذكريات وأقل من تاريخ” الذي صدر في 2014 عن دار النشر ذاتها. الكتابان هما عصارة خبرة علمية-عملية وفنية-مهنية لمؤلفها، استقاها من عمله لما يقارب اربعين عاماً في دوائر ومناصب قيادية متعددة في وزارة النفط ومنظمة اوبك للدول المصدرة للنفط، ناهيك عن المساهمة في بناء أهم المصافي النفطية والاشراف والتخطيط والمتابعة لكل ما يتعلق بالصناعة النفطية العراقية. هذا الدور الذي لم يتوقف حتى بعد إحالَتهِ على التقاعد، حيث استمر عبر تقديم الاستشارات للعديد من الشركات العربية والدولية والكتابة البحثية (حاز مرتين على جائزة البحوث لمنظمة أوابك) في الصحف والمراكز والمشاركة في العديد من المؤتمرات عن العراق بعد مغادرته 2002. تقديم عرض للكتاب الثاني تطلب تقليب صفحات الكتاب الاول لربط الاحداث، حتى بدى لي عموماً ان الكتاب الاول ركز على ما جرى في مرحلة ما قبل الإحتلال، ذكريات المؤلف وانجازاته (التي يفتخر وزملائه بها) وأرائه وانتقاداته، والتي اعتبرها مرحلة العمل-الميدانية في وزارة النفط. أما الكتاب الثاني والذي نحن في صدد عرضه فإنه يتحدث عن مرحلة الإحالة على التقاعد والتي تزامنت مع حدوث الاحتلال الذي وضعه في غربتين قاسيتين الاولى مثلت صعوبات العيش في المهجر والثانية الخوف من القادم في العراق بعد مشاهدة الاحتلال وهو يدمر كل ما تم تحقيقه أو تشييده أو التخطيط له بقرارات وسياسات غير مدروسة.
غلبت على هذا الكتاب الروح الوطنية-العروبية وحرقة الالم المكتومة في صدر الكاتب، مزجها بإسلوب سلس ومشوق لسرد الاحداث، وربما كان من الصعب على غيره بعد هذه السنين وتشابك الوقائع استذكارها، إلا ان تمتع المؤلف بذاكرة حديدية نظيفة مع المقالات التي نشرها المواكبة لمجريات الامور جعلته يرويها وكأنما حصلت في الحاضر القريب، (ومع ذلك فأن الكاتب يلوم نفسه بأنه لم يكن يسجل الاحداث!). إجمالاً طغى المنهج الشخصي-السردي والتاريخي نوعاً ما على كتابة المؤلف مع الاستعانة بالمنهج البحثي التحليلي والمقارن الى حدٍ بعيد، فمثلاً قارن بين عملية اتخاذ القرارات وفق ما يلائم الواقع والمصلحة العامة، وبين الطريقة المبنية على التعنت بمواقف وقرارات اعتباطية لا تخدم تلك المصلحة، وكذلك المقارنة بين تجارب الدول وسياساتها في مجال الطاقة واستثماراتها. ويبدو أن الذكريات الشخصية تؤكد ان الكاتب عاصر الكثير من الازمات وصناع القرار سواء في العهد الملكي أو الجمهوري، ولكنه ركز على الثاني بإعتبار انه غادر العراق من اجل الحصول على شهادة جامعية من المملكة المتحدة، وعند عودته تسلم وظيفة للعمل في القطاع النفطي الحكومي، وعاصر العديد من وزراء النفط وفي حكومات مختلفة، وساهم في اقتراح وتنفيذ قرارات حيوية بحكم المناصب الادارية العليا التي تسنمها.
أهمية الكتاب تُكمِن في: أولاً كاتبه شاهد عيان على مسيرة السياسة النفطية في العراق قبل 2003 ومتابع حريص ودؤوب على كل ما يتعلق بها بعد هذا التاريخ. ثانيا: الخبرة وكفاءة العمل داخل وخارج العراق نتج عنها تضمين الكتاب لجملة حلول ومقترحات حول الوضع النفطي والاقتصادي الحالي، وكان يحدوه أمل (او امنية) ان تساهم في تطوير السياسة النفطية. ومن اجل توثيق رؤية الكاتب تضمن الكتاب بعض البحوث والدراسات والمقالات المهمة التي كتبها ونشرها في الصحف ومراكز الأبحاث العربية والغربية ويمكن إعتبار غالبيتها بأنها كانت مقترحات استراتيجية إما للمعالجة أو للتحذير من سياسات غير مدروسة واثارها المستقبلية. ثالثاً: وتأسيساً على ما سبق يمكن اعتبار هذا الكتاب مصدراً مهماً لطلبة الدراسات العليا ومرجعاً للعاملين من ذوي الاختصاص، ناهيك عن العامة للاطلاع وفهم الواقع. رابعاً: على الرغم من ان الكتاب عموماً فني-مهني إلا إنه يحمل الكثير من الرؤى السياسية والاستراتيجية الاقتصادية-النفطية الداخلية والخارجية وانعكاساتها على الوضع العام وبناء الدول واستقرارها.
لقد أثار الكتاب العديد من المواضيع المهمة في مجال الطاقة والنفط. ففي المباحث الاولى من الكتاب يشرح المؤلف عملية (إنفتاح شهية العالم) على الثروة النفطية بعد الإحتلال مباشرة مستغلين الاضطرابات والقلاقل التي عمت فيه. وبدأت الشركات العاملة في هذا المجال، سواء تلك ذات الخبرة او الطارئة التي تشكلت (بالاتصالات الهاتفية بين ليلة وضحاها) بالتهافت لجني الأرباح في وقتٍ قصير وبأقل جهد، ومن خلال العلاقات مع جنرالات الإحتلال الأمريكي. وكان واضحا أن نية نهب هذه الثروة كانت أكبر من التفكير بتطويرها من قبل تلك الأطراف. قراءة هذه الصفحات تُثبت بوضوح أن المصلحية-النفعية بعيدة عن شخصية الكاتب، فهو رفض فرص قُدِمَت له لسببين اساسيين: أولهما الروح الوطنية وسمو المبادئ والايمان بأن المحتل لا يريد خيراً لبلده، وثانيهما أن المشاريع المطروحة كانت اما وهمية او ستوفر ارباح هائلة للشركات وليس للعراق. وفضل المؤلف أن يراقب الوضع عن بعد، ويكتب متألماً كيف أن بعض أصدقائه تنكروا لمبادئهم وظهرت معادنهم الحقيقية بسبب الروح الانتهازية وحب الذات.
يشرح الكاتب وبشكل تفصيلي الانفتاح الدولي على النفط العراقي، والأسباب التي دعت الولايات المتحدة والغرب للحديث عن إعادة تأهيل خط أنابيب النفط العراقي (موصل–حيفا)، والذي يمثل (حلماً إسرائيلياً) على حد تعبيره، توقف منذ عام 1948، على اساس انه سيوفر للكيان الغاصب تدفق نفطي دائم وخزين إحتياطي. واعاد نشر بحث كتبه سابقاً وثق فيه كل جوانب الموضوع، موضحا صعوبة، بل إستحالة تحقيق ذلك من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة التي رفضته بناءا على الرفض الشعبي. إلا إن المؤلف يستدرك ويذكر تصريحات صدرت وزيارات رسمية، علنية وسرية، قام بها بعض العراقيين (حسب تعبير المؤلف) للترويج لهذا الموضوع (تصدير النفط الى اسرائيل)، ليكشف عن أن حكومة اقليم كردستان بسرية كان لها رأي وموقف أخر وصفه المؤلف “متحدية مشاعر العراقيين”!
ظل المؤلف حريصاً على متابعة النشاطات العلمية والمشاركة بأوراق بحثية في المؤتمرات والندوات التي عقدت حول الصناعة النفطية العراقية مستعينا بقدراته وخبرته، وساهم في مناقشات علمية لاوراق تقدم او مشاريع تقترح من قبل شخصيات وطنية أخرى لها باعٍ طويل في وزارة النفط، على أمل ان يتم استثمارها بالشكل الصحيح، مع انتقادات بناءة للقرارات التي إتُخِذت وتم الأصرار عليها، رغم وجود كل الادلة والبراهين بأنها لا تخدم المصلحة العراقية، (مثل ما يطرح حول قانون النفط والغاز، جوالات التراخيص، تطوير المصافي، وتوقيع الاتفاقيات مع شركات النفط العالمية، الفساد وسرقة النفط، وغيرها). ويشير المؤلف بهذا الصدد الى أنه وعلى الرغم من صعوبة اسماع صوته وامثاله لأرائهم وكتاباتهم، إلا إنهم لم يستسلموا وما زالوا يطرحون مقترحاتهم وانتقاداتهم الواقعية بإستشرافات مستقبلية.
يفرد المؤلف مبحثاً خاصاً لمصفى الدورة منذ انشاؤه وحتى الان، وبطريقة ترد على الاسئلة التي غالباً ما تثار عن سبب إنشاء هذا المصفى في وسط العاصمة بغداد واثاره السلبية الصحية والبيئية على الرغم من اهميته النفطية. الاجابة التي تعمق المؤلف في شرحها فنياً وجغرافياً، لخصها بموقفه ومنذ عام 1983، حينما وضعت مجموعة خبراء فنيين بطَلَبَ منه بحكم منصبه كمدير عام، تقريرا عن مستقبل المصفى. توصل الى توصيات عديدة اهمها عدم اجراء اية توسعات إضافية في هذا المصفى والسعي التدريجي لايقافه بعد اكتمال مصافي اخرى تعوض قدراته التشغيلية. إلا ان المؤلف يعترف بقصور قد تم من دون عمد يخص هذا الامر وهو عدم وضع هذا التقرير او التصور موضع التنفيذ، ربما بسبب الحرب العراقية الإيرانية او الحصار الذي تلاها. علماً ان كل اجهزة الوزارة، حسب المؤلف، كانت متفقة على ضرورة العمل على انهاء تشغيل هذا المصفى بأقرب فرصة ممكنة. السؤال الذي يطرح هنا هل ان الخبراء المهنيين والفنيين الذي استمروا في العمل بهذا المصفى بعد الاحتلال قد اطلعوا الوزارة على هذه التوصيات من اجل العمل على تنفيذها بسسب المخاطر البيئية أولا؟ ثم كيف تم توزيع اراضي ما تسمى (محرمات المصفى) على منتسبيه دون الاهتمام بموضوع الخطورة وسلامة الانسان ثانياً، (وأضيف هنا مسألة بيع الاراضي الزراعية الجارية حالياً في المنطقة وتحويلها الى عقارية سكنية بدون رقابة ثالثاً). كما يضع المؤلف جملة من المخالفات البيئية لهذا المصفى، والمتعلقة بالسلامة العامة، بين يدي القارئ من خلال طلب مُقدم عن طريق المفوضية العليا لحقوق الانسان الى الادعاء العام في حزيران 2021 للتحقيق فيها وخاصة بالنسبة للعاملين في المصفى نفسه. كنت متشوقة لقراءة وجهة نظر المؤلف بهذه المخالفات وهل هي صحيحة أم مبالغ فيها؟ وعلى الرغم من أن المؤلف لم يدخل في التفاصيل ولكنه من الواضح جداً انه مع فكرة انهاء القدرة التشغيلية لهذا المصفى خصوصاً (حسب المؤلف) أن معداته قديمة جداً واية معالجة لن تكون كافية ولا شافية، وطرح إمكانية الاستفادة من معداته الصالحة في اماكن اخرى بعيدة عن مراكز المدن. من الضروري الاشارة الى أن الحيادية والامانة العلمية دفعت المؤلف لانتقاد مقربين منه مازالو يعملون في العراق، على قرارات إتخذوها اما شخصية او غير محسوبة أو لا تنسجم مع تاريخهم السابق.
يشير المؤلف الى بعض من حالات الفساد التي بدأها الإحتلال مع بدايات الغزو، حينما ناقش مثلاً موضوع استيراد المنتجات النفطية، في بلد يعوم على بحر من النفط، من خلال شركات امريكية عالمية مثل هاليبرتون وكي بي أر لتشغيل محطات توليد الكهرباء. ويذكر المؤلف بتفاصيل فنية عدم حاجة لذلك لان العراق يمتلك ما يكفية من المحطات للقيام بهذه المهمة، حتى يصل الى نتيجة ان الفساد الذي شاب التعاقد مع هذه الشركات كان من اجل زيادة ارباحها فقط. كما يذكر أن الولايات المتحدة استخدمت النفط في معاقبة الدول التي رفضت المشاركة في الغزو عن طريق حرمانها من أية إستثمارات في العراق. ومن كل ذلك كانت النظرة غير التفاؤلية ملازمة للكاتب. ويذكر بهذا الصدد ان تنبؤاته لامست الواقع، ففي احدى المؤتمرات الدولية ذكر بأن “الاحتلال لا يبشر بالخير بالنسبة لصناعة النفط في العراق بدليل الدعوات الى الخصخصة واستيراد المنتجات النفطية في وقت كان العراق يصدر-يهرب- كثيراً منها قبل الاحتلال”. وحسب المؤلف أنه بعد 19 سنة من الاحتلال ، فإن وزراء النفط الجدد، ولو بدرجات متفاوتة، يعتبرون المصافي عالة عليهم ويسعون الى خصخصتها.
من الاشياء الملفته للانتباة في هذا الكتاب هو ربط المؤلف بين ادب الرحلات ومجال اختصاصه، فقد تمكن في مباحث متعددة من وصف الدول والعواصم التي زارها حول العالم، وحرص على إلاطلاع على تجاربها في مجال النفط والغاز الطبيعي والطاقة الشمسية والكهرومائية وغيرها. ويخلص الى نتيجة أن نجاح تجارب هذه الدول هو ليس وفرة او قلة مصادر الطاقة وثرواتها الطبيعية بل هو في الاعتماد على سياسات واستراتيجيات ناجحة في إدارتها حتى مكنتها ومجتمعاتها من التطور والازدهار والإكتفاء الذاتي.
في المبحث المعنون “مصافي بيجي: بين المطرقة والسندان” يعيد الكاتب نشر مقال كان قد نشره سابقاً تحت عنوان “يجب انقاذ مصفى بيجي” بعد الاحداث المؤلمة والتخريبية التي طالت المصفى على يد عصابات داعش الإرهابية، والتدمير الاضافي الذي اصاب المصفى في مرحلة ما بعد التحرير. ويطالب الكاتب في المقال من كل من يهمهم الامر الى التحقيق في كل ما كُتِب حول نهب محتويات المصفى وتهريبها. ويُذكر ان الكلفة الاستبدالية لهذا المصفى قد تصل الى 12 مليار دولار، ويضع على الحكومة مسؤولية استعادة المعدات المسروقة.
تطرق المؤلف الى موضوع دولي مهم يخص البيئة والمناخ ودور العراق فيه، ومدى اهتمام سكرتارية منظمة أوبك بهذا الامر منذ وقت طويل نتيجة قناعتها بأن ذلك بالتأكيد سيؤثر على مستقبل سوق النفط. افرد المؤلف ونتيجة عمله ممثل العراق في أوبك مبحث خاص لمناقشة اسهامات المنظمة ومشاركتها في الاجتماعات والمفاوضات التي كانت تجري في الامم المتحدة حول الاتفاقية الاطارية المتعلقة بالتغيير المناخي 1992، في ظل تصاعد الدعوات الدولية بتخفيض استهلاك الوقود الاحفوري وخصوصاً النفط لتقليل انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون. كما وأعاد نشر مقال له كتبه في 2005 عن المشتقات النفطية وقضايا البيئة، متطرقاً الى المنتجات النفطية العربية وغير العربية وكيفية معالجة مواصفاتها لتقليل أثارها السلبية على الصحة العامة والسلامة. معرجاً على اتفاقية باريس 2015 وصولا الى مؤتمر غلاسكو 2021، كما ناقش التوجهات المستقبلية الداعمة لتخفيض استهلاك النفط، ومنها توقعات الوكالة الدولية للطاقة على المدى الطويل، حيث يذكر أن انتاج النفط في منطقة الشرق الاوسط سينخفض من 30 مليون برميل 2020 الى 28 مليون برميل في اليوم بحلول 2040 وقد يكون اسوأ على المدى البعيد. النقطة المهمة التي يثيرها هذا المبحث هو سر الحرب على النفط، حيث يطرح ويناقش بشكل فني-مهني تساؤل مهم للغاية وهو لماذا تحث الوكالة الدولية للطاقة (التي تحارب كل الدول المنتجة للنفط حسب المؤلف) دول العالم على ترك هذه الثروة الهائلة في باطن الارض، في الوقت الذي تطورت فيه تكنولوجيات تسمح بمعالجة الانبعاثات المصاحبه له وتصنيعه أو خزنه في مكامن النفط والغاز المستنفذة؟ ومع ذلك دعا المؤلف دول اوبك وتلك المعتمدة على ايرادات النفط ان تسعى جاهدة الى تنويع اقتصادها وموارد دخلها حتى ولو بشكل تدريجي. اين يقف العراق من ذلك؟
خصص المؤلف مبحث لدراسة علاقة العراق بوكالة الطاقة الدولية، ليناقش تقارير الوكالة الصادرة عن العراق بعد 2003 ورؤيتها المتفائلة عن وضع الطاقة من النفط والكهرباء في حين أن الواقع يشير الى عكس ذلك، فبالاعتماد على مناقشة التقارير التي استند عليها المؤلف فإنه يرى ان حالة الركود التي تنتاب المصافي العراقية مع عدم ادخال الجديدة الى الخدمة قد يفضي الى الاستمرار في استيراد المنتجات النفطية، وهو ما سينعكس على حالة الكهرباء، التي تؤكدها تقارير الوكالة بشكل غير مباشر بأنها لن تشهد هي الاخرى اي تحسن على المديين القريب والمتوسط ايضاً. كما تطرق المؤلف الى منظمة أوبك وأسعار النفط، ومن مسيرتها التاريخية الى قممها ومواقفها، كي ينتقل الى دراسة مفصلة عن موضوعين مهمين قد يضاعفان ويدعمان من قوة اوبك الاقتصادية ومكانتها السياسية الدولية وهما الاتفاق الايراني النووي لعام 2015 واتفاق تجميد انتاج النفط مع روسيا لعام 2016.
كنت على وشك إنتقاد الكتاب على عدم تطرقه الى الحرب الاوكرانية-الروسية وتأثيراتها على العراق في مجال النفط والغاز. الا انني تفاجئت ان خاتمة الكتاب تطرقت لهذا الموضوع برؤى مستقبلية واقعية اصاب المؤلف في الكثير منها. ولعل من اهمها تأثر الغرب بمقاطعة روسيا وفرض العقوبات عليها، وكذلك بحث روسيا عن اسواق جديدة لصادراتها النفطية وعدم قدرة اوروبا على التخلي عن الغاز الروسي. حتى وان فكر الغرب بالبدائل فإنها بحاجة الى المال والوقت للتنفيذ، في وقت تمر اوربا بأزمات اقتصادية لم تكن الحرب وقودها فقط بل ما ورثته عن أثار جائحة كورونا ايضاً. قد تكون هذه رؤية المؤلف المستقبلية كافية لفهم نتائج الحرب على الاقتصاد العالمي ولكن كنت اتمنى ايضاً ان اقرأ توقعاته عن اثر هذه الحرب على نفط الشرق الاوسط، وكذلك اثرها على العلاقات الروسية الايرانية في موضوع النفط، ومحاولات الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا الضغط على السعودية ودول الخليج الاخرى لضخ النفط لاوروبا كبديل عن النفط الروسي، وهل هناك اثار على اسعار النفط؟ وكيف من المفترض ان يستفيد العراق من هذه المرحلة بلغة اقتصادية-نفطية؟ وماهو موقف أوبك؟ كما كنت اتمنى ان يتطرق الكتاب الى التحالفات الاقتصادية العربية التي سعى العراق الى عقدها مثل الاتفاقية العراقية-الصينية وتحالف الشام (العراق ومصر والاردن)، واثرها على قضايا الطاقة والنفط والكهرباء، مع معرفة مدى اهمية تحقيقها على ارض الواقع. وبما أن عامل الوقت لم يعط المؤلف المجال للإجابة على هذه التساؤلات، فقد يكون هذا مشروع لكتاب او بحث جديد (مع أن المؤلف أختتم كتابه بالقول بأنه الاخير، ولكن قد تجبر المتغيرات والتطورات الدولية والعراقية على الكتابة وطرح الاراء والمقترحات لا سيما وان الروح الوطنية هي الدافع اللاارادي لذلك). اخيراً لا بد من القول أن الكتاب يمثل إضافة نوعية الى المكتبة العراقية والعربية وحتى الاجنبية، ليس في موضوع النفط والطاقة فحسب، وإنما ايضا في علاقة هذه المادة الحيوية بالسياسة الدولية والاقليمية والبيئية، والتي غيرت من تصنيف الدول الى نفطية وغير نفطية، بعد ان كانت تصنف الى دول كبرى وصغرى. بالاضافة الى تقديم الكتاب صورة عامة مقارنة عن واقع النفط والطاقة عربياً ودولياً، فإن المؤلف قد أجاد في الإجابة على الكثير من التساؤلات التي نطرحها نحن العراقيون عن الصناعة النفطية الداخلية التي اعتمد ويعتمد عليها اقتصاد البلد الريعي، والذي من المفترض ان يجلب النفط لاهله كل الخير، اذا ما وجدت استراتيجية وسياسة نفطية صحيحة وصحية تعمل لصالح مستقبل افضل يسوده السلام وتقل فيه نسبة الفقر والجهل والامية وتزيد من فرص العمل لتطوير البنى التحتية مع رفاهية وانتعاش اقتصادي واستقرار سياسي.
*أكاديمية وكاتبة عراقية