عبقرية الشخصية المصرية حين يبدع الفن في إبرازها : سره الباتع بين يوسف إدريس وخالد يوسف
بقلم د. رفعت سيدأحمد
رغم أن كاتب هذة السطور لا يزعم أنه من نقاد الادب والفن ..الا أنه وقف كثيرا وبتذوق المثقف الذي يفهم و يستمتع أمام بعض الاعمال الفنية الجديدة التي عرضت علي (الشاشة الصغيرة ) مؤخرا وتناولت جوانب من قضايا الوطن وبطولات جيشه وهموم الناس ومشاكلهم الحياتية ..لكن أعترف بأن أبرز ما توقفت أمامه وإستمتعت به ذلك المسلسل الرائع ؛إعداد وإخراجا للفنان والمخرج المتميز والمثقف الواعي ؛خالد يوسف ..مسلسل (سره الباتع ) والذي عرض في ثلاثين حلقة ربط فيها المخرج بعقبرية وسلاسة وإحترافية بين الماضي والحاضر في توليفة فنية وسياسية شديدة الاتقان أضاءت بنور معرفي وصوفي ووطني واسع المدي جوانب مهمة في الشخصية المصرية ..وإنطلق المخرج محركا (كاميراته ) مع مئات من الممثلين وعشرات الاحداث المتداخلة منذ الحملة الفرنسية وحتي ثورة يناير 2011 وما بعدها ..وإنطلق في بناء عمله الدرامي الكبير – حجما وقيمة _ من الرواية القصيرة لعبقري القصة القصيرة المصري الرائع الراحل يوسف إدريس (والذي إستحق قديما أن يطلق عليه (تشيكوف ..القصة القصيرة في وطننا العربية ) إنطلق خالد يوسف من قصة إدريس وأكملها بتخيل وبترتيب وترابط زمني مع أحداث زماننا ليحاول أن يخرج من كل ذلك بصياغة جديدة شديدة الروعة لجمال وعبقرية الشخصية المصرية وقدرتها الفذة علي مقاومة الظلم والعدوان سواء كان عدوانا خارجيا أو إستبدادا داخليا وكان (السلطان حامد ) بطل المسلسل قديما وحديثا ..هوالبطل السري و القاسم المشترك -العلني – في إبراز تلك العبقرية والتميز لشخصية المصريين … لقد نجح المسلسل في تقديم إضاءة فنية جادة لقيم النضال الشعبي المصري وبعيدا عن بعض الاخطاء الفنية الصغيرة (مثل الامساك بمصحف ورقي مطبوع في مطابع حديثة من أحد شيوخ القرية أثناء إحتلال الحملة الفرنسية لقريته التي خرج حامد –البطل القومي -من بين أبنائها في الوقت الذي كانت المطبعة لم تدخل مصر بعد ! ) بعيدا عن هذة السلبيات الصغيرة والتي تربص بها بعض أعداء ومنافسي خالد يوسف ..مع بعض الاخوان وقنواتهم الخارجية الفاشلة ..أو بعض المنافسين له في مسيرة الاخراج والابداع الفني!! كل ذلك لم ينجح في التقليل من القيمة التاريخية والسياسية والفنية لهذا العمل الفني الكبير الذي كان أشبه بموسوعة فنية تاريخية تربط في ثانيا العمل الفني المبدع وشائج الشخصية المصرية عبر التاريخ المصري الحديث وفي هذا السياق دعونا نذهب الي العبقري يوسف إدريس في روايته القصيرة (سره الباتع ) لنفهم سر (حامد ) الذي له عدة أضرحة في أكثر من بلد وكيف أنه عندما أستشهد و قطع المحتل جسده الي قطع لكي يمنع الاحتفال به كيف تحولت كل قطعة من جسده الي ضريح مبارك ..ضريح يخلق الثورة ويقاوم الظلم ليس في زمن الفرنسيين المحتليين فحسب …بل في كل زمان ومكان بما في ذلك زمن ثورة يناير 2011 ..ماذ يقول إدريس في عمله الاصلي (الذي صدر عام 1958)ألذي نجح وعن جدارة (خالد يوسف ) في إستنطاقه وتحديثه وتخليده حتي يومنا هذا (2023) ماذا يقول ويشرح ؟ * بعد عدة صفحات في روايته الخالدة والتي يحاول فيها الطبيب (واسمه حامد)بطل الرواية البحث عن (سر ضريح الشيخ حامد ) الموجود في قريته وفي قري أخري ..إذ بصديقة فرنسية ترسل له كتابا فرنسيا يحتوي علي حل (سر الشيخ أو السلطان حامد) هو عبارة عن خطابات متبادلة بين أحد علماء الحملة الفرنسية وإسمه في الرواية (روجيه كليمان ) الي صديق له في باريس إسمه في الرواية (مسيو دي روان ) وننتقي هنا بعض فقرات الخطاب الاخير في سلسلة المراسلات والتي كشف فيه الفرنسي (سر الشيخ حامد …الباتع ) يقول عن (جوهر الشخصية المصرية التي لم يكن يفهمها)
القاهرة في ٢٠ يونيو سنة ١٨٠١
عزيزي:.
طلبتَ مني في خطابك الذي أرسلتَه منذ أكثر من ستة شهور أن أحدِّثَك عن مصر والمصريين، وذلك الشعب الذي يحيا على ضفاف النيل، ومشكلتي يا صديقي العزيز، هي هذا الشعب!
إنَّني أعترف لك أنني لم أكن هكذا يوم جئتُ، أنا — كما تعلم — حياتي هي فرنسا، وقد اشتركتُ في حمل جمهوريتنا على أكتافي، كنتُ وأنا أضَعُ قدمي على أرض مصر أحسُّ أني مُقْبِلٌ على بلاد أفريقية مظلِمة، أحمل لها شعلة الحضارة وأُذِيقها طعْمَ الجمهورية التي تنهل منها بلادي، فإذا بي اليوم، ماذا أقول؟! لقد شاهدتُ القُوَى الخارِقةَ بعيني يا روان، لقد مسَّنِي سِحْرُها ولكنَّك لن تفهم، لن أجِدَ أحدًا في العالَم، عالَمِكم، يفهم ما أعني، فلماذا أُتْعِب يدي وقلمي؟!
حسنًا، سأصنع كما يصنع مُرْشِدو الآثار، وسأحدِّثك عن مصر، فأظن أن الحديث في هذا هو الذي يستهويك، المصريون يا صديقي ليسوا كما تقول، فهم لا يرقصون حول النيران في الليل، وحَرِيمهم أبعد عن حريم ألف ليلة وليلة، وهم غير المماليك
أمَّا المصريون، فبعضهم يسكن القاهرة والمدن، ومعظمهم يزرعون الأرض ويسكنون قُرَى سوداء مبنية بالتراب في الأرياف واسمهم الفلاحون.
وآهٍ من هؤلاء الفلاحين يا جي!
إذا رأيتَهم عن قرب، ورأيتَ وجوهَهم التي تبتسم لك في طيبة وسذاجة، وأدركتَ خجَلَهم الفطريَّ من الغريب، ربما يدفَعُك هذا إلى الاستخفاف بهم وتعتقد أنَّك لو ضربتَ أحدهم على قفاه لما جَرُؤَ على أن يرفع لك وجهَه، ولتقبل الإهانة بكل سعادة وخشوع.
حذارِ أن تفعل شيئًا كهذا يا جي!
فقد حاوَلَ الجنرال وكليبر وبيلو ذلك وندموا.)
وعن سر السلطان حامد وسره الباتع يقول يوسف أدريس- في موضع آخر – علي لسان الفرنسي (كليمان ) في الصفحات الاخيرة من روايته ومن خلال الخطاب الذي أرسله لصديقه في باريس : (أما قصة حامد، لا أقول: إنها توضِّح ما أريد، ولكنْ فسِّرْها إنْ كنتَ تستطيع، لقد جئتُ هذه البلاد عدُوًّا، ولن أخْدَعَ نفسي وأقول — مثلما يقولون كلهم هنا — إنني جئتُ لأحرِّر المصريين من المماليك، جئتُ عدوًّا يا صديقي، جئْنا كلُّنا عدوًّا قويًّا مسلَّحًا بأحدث ما وصلتْ إليه أوروبا من مخترعات وآلات دمار، جئْنا غُزاةً قادِرين، فإذا بنا اليوم في وَرْطة، وإذا بمشكلتنا هي كيف ننتزع أرجلَنا لننجوَ بأنفُسِنا مِن طمْي هذا البلد وأناسِه الذي نحسُّ بأنفسنا نغوص فيهم ونختفي.
ولا أزعم أني سأُحْسِن الحديث عنهم، فليس في استطاعتي أن أفعل شيئًا كهذا، سأحدِّثك فقط عن حامد؛ فمنذ شهور كثيرة وهو الموضوع المفضَّل للحديث بيننا حين نَمْلِك الحديث، ويكفي أن تعلم أنَّ القيادة قد أصدَرَتْ أمرًا غير مكتوب بمَنْع الحديث عنه.
وحامد هذا ليس زعيمًا من زُعَماء المصريين، بل إنَّه إلى شُهور قليلة لم يكن أحدٌ يهتمُّ بحامِدٍ هذا أو يُقِيم له وزنًا، فقد كان أحد فلاحي قرية شطانوف الواقِعة بين فرعَيِ النيل، وأظنُّك لا يمكن أن تعتقد أن اسم شطانوف هذا اسم فرنسي، ولكنَّه كذلك، فالقرية كان اسمها في الأصل كفر شندي وكان بجوارها قلعة قديمة من قلاع المماليك، وحين غزَوْنا الدلتا، وطرَدْنا المماليك، هدمنا القلعة القديمة وبنينا أخرى جديدة بخامات محلية وأسمَيْناها شاتو نيف (أي القلعة الجديدة)، وكذلك غيَّرْنا اسم البلد وسمَّيْناه باسم القلعة، ولا تحسبْنِي أسخَر حين أقول إن هذا كل ما صارت إليه رسالتنا تجاه بلاد أفريقيا المظلِمة، أن نغيِّر اسمًا باسم، ولكن الفلاحين غيَّروا فيما غيَّرْنا، بطريقتهم الخاصة، فأطلَقُوا على القرية اسم شطانوف بدلًا من شاتو نيف!
حامد كان من فلاحي هذه القرية الذين يزرعون الأرض، ويُصلُّون لله في الجامع، وظلَّ هكذا إلى أن جاءتْ قوَّاتُنا وعسكرَتْ في القلعة الجديدة، وكانتِ القوات بقيادة الكولونيل بيلو الذي عانقْتَه وأنتَ تودِّعُني في مارسيليا، أتذكُر؟ والقلعة كانت بالِغةَ الأهمية إذ كانتْ نقطةَ ارتكازنا الرئيسية في الدلتا كلِّها، وكانتْ في الوقت نفسِه قاعدةً تَخرُج منها الدَّوْريات لتفتيش المنطقة بانتظام.
وكانت سياسية بيلو منذ أن حلَّ في القلعة أن نتجنَّب مُضايَقة الفلاحين أو التحرُّش بهم حفظًا لسلامة القاعدة، وليس لأننا أصدقاء المصريين، كما كان يُحاوِل الرجل الطيِّب أن يُفهِم الفلاحين، ليس هذا فقط، بل كانتْ سياسة الجيش عامة أن يحاول التقرُّب من الوطنيين ويوطِّد علاقته بهم.
ولم نستفِدْ شيئًا من إقامة أمثال هذه العلاقات؛ إذْ كلَّما حاولنا أن نتقرَّب منهم ازدادوا نفورًا، وكلَّما حاوَلْنا إفهامَهم أنَّنا أنْقَذْناهم من ظلم المماليك نظروا إلينا طويلًا وكادتْ نظراتهم تقولُ: جئتم لتنقذونا من المماليك، وجاء المماليك لإنقاذنا من الأتراك، وجاء الأتراك لإنقاذنا من التتر، وجاء التتر لإنقاذنا من الخليفة، وجاء الخليفة لإنقاذنا من البطالسة، وجاء البطالسة لإنقاذنا من الإغريق … لماذا تخصُّونا بشهامتكم أيُّها السادة؟!
وما أقسى نظرات هؤلاء المصريين حين يوجِّهونها إلى عدوٍّ غريب، إنهم، بينهم وبين أنفسهم، يعامِلون بعضهم كالدُّيوك، طول النهار لا يتحدَّثون إلا شتائم، هناك أكثر من مائة لقب للأب تبدأ من المركوب وتمر بكل ما يُلبَس في الأقدام، وتغطي المملكة الحيوانية حتى الخنزير، وأي مكان في جسد الأمِّ ممكن أن يصبح مادة للشتائم شعب ثروة شتائمه لا تجِدُها عند أي شعب آخَر، ولا يتكلَّمون إلَّا زعيقًا ومع هذا فليجسر غريب، أي غريب، ويُحاوِل أن يلمس أحدَهم، ما إنْ يحدث هذا حتى تحدث المعجزة، وإذا بهم يواجهونه وقد نسوا كلَّ ما كان بينَهم من شتائم وخلافات.
وكنَّا دائمًا نحسُّ بنظراتهم تكاد تلتَهِمنا، وما أقسى أن تعيش بين شعب لا يحاول أن يُخفِيَ عداوته! وهكذا ظلَّتِ الهوَّة تتَّسِع حتى حدث عصيان القاهرة الذي حدثْتُك عنه، ومنذ ذلك الانفجار وأعصاب قوَّاتنا في انهيار مستديم.
ورغم تعليمات بيلو وتنبيهاته اليومية، فقد فَقَدَ أحدُ جنودِنا المعسكِرين في شطانوف أعصابَه ذات يوم وأطلق النارَ على فلاح كان يتتبَّعُه بنظراته، فقتَلَه.
وأحدث هذا العمل أسوأ الأثر في القرية.
وذهب الفلاحون الغاضِبون بزعامة شيخ البلد لمُقابلة الكولونيل بيلو، ولم ينتظر الرجل، وذهب لمُقابَلتهم عند الباب، وطلبوا منه أن يَقْتُل القاتِلَ أمامَهم، فحاول بيلو أن يُقْنِعَهم أنَّ القاتِلَ سيُحاكَم وأنَّه سيَلْقَى جزاءَه، ولكنَّهم أصرُّوا على أن يختار بين أمرين، إمَّا أن يقتُلَ القاتل أو يُسلِّمَه لهم لكي يقتصُّوا منه، ورفض بيلو كلا الأمرين، وأمَرَ الأهاليَ بالانصراف.
وصدعوا للأمر وانصرفوا.
ولكنْ في اليوم التالي قُتِل أحدُ جنود القلعة وهو في طريق عودته إليها.
وذهب بيلو على رأس قوة كبيرة وقبَضَ على شيخ البلد وأحضَرَه إلى القلعة، وطاف منادٍ في القرية يقول: ما لم يُسلِّم القاتِلُ نفسَه قبل مغيب الشمس فإنَّ شيخَ البلد سيُعدَم رمْيًا بالرصاص.
وقبل مغيب الشمس توجَّه للقلعة أحد الفلاحين وقال: إنَّه القاتل وطلب الإفراج عن الشيخ، وأخذ بيلو الموضوع كلَّه ببساطة، وقرَّر أن يُشنَق الفلاح بعد محاكمته على مرأًى ومسمعٍ من الفلاحين ليعتبر غيرُه بمصيرِه.
وكان هذا أسوأ قرارٍ اتَّخَذَه بيلو في حياته.) ثم يستطرد المستشرق الفرنسي في خطابه كاشفا ثورية حامد وبطولته :
(في اليوم التالي، سيق المتَّهمُ إلى ساحة القرية الرئيسية، وجُمع كل مَن وُجد في القرية من أهلها وأُوقِفوا في الساحة ليشهدوا المحاكمة، وتكوَّنتِ المحكمة من بيلو رئيسًا، والماجور لاسال والسير جنت جان بروميرجر عضوين، وكان هناك ممثِّل اتهام، أمَّا الدفاع فلا تدهش إذْ قمتُ أنا به، ذلك أنني كنتُ قد وصلتُ في ذلك اليوم بالذات لأقْضِيَ بضعة أيام في ضيافة بيلو، ولأدرس حياة الفلاحين عن كثب.
وكل ما كنتُ قد عرَفْتُه عن المتهم أنَّ اسمَه حامد، وأنَّه لا يختلف عن بقية الفلاحين في المظهَر أو الشكل، كل ما يُمَيِّزه أنَّه كان طويل القامة، طويل الأنف، واسع العينين، إصبع يده اليسرى البنصر مبتور، وعلى وجنتيه عصفورتان موشومتان لتقوية بصره كما قال لي الترجمان، وطبعًا لم أكن أُرِيد أن أشترك في هذه المهزلة، ولكن صديقي بيلو ألحَّ عليَّ لأؤدِّيَ هذا «الواجب» باعتباري الوحيد الموجود الذي يحمل دكتوراه في القانون.
وطبعًا كانتْ مهزلة، الفلاحون جالسون وواقفون في الساحة ينظرون لنا نظرات، كلغتهم، لا نفهمها، والمحكمة تتبادل التعليقات الساخِرة بصوت مرتفع، وثمة مترجم ركيك لا يُجِيد العربية ولا حتى الفرنسية.
وجاء دَوْري لأُدافِع عن المتَّهم، ولستُ أدري ماذا كان رأي بيلو في دفاعي الذي بدأتُه بالحديث عن الثورة الفرنسية وشعاراتها المقدَّسة التي قامتْ من أجلها؛ الحرية والإخاء والمساواة، كم كان مضحكًا أن أتفوَّه بها في ساحة شطانوف، والحكم صادر ولا ينقصه سوى التنفيذ!
ولحُسْنِ الحظ ولسُوئِه أيضًا، لم يُتَحْ لي أن أكمل مرافعتي، فقد هجموا علينا، لم نكن ندري من أين جاءوا، ولكن امتلأتِ الساحة بتلك العِصِيِّ اللعينة التي يسمُّونها النبابيت وبالحناجر المتوحِّشة الرهيبة التي تصرخ: لهكبر لهكبر، ولن أحدِّثَك عن الرُّعْب المجنون الذي انتابَنا محكمةً واتهامًا ودفاعًا وحُرَّاسًا، فقد كنَّا لا نزال نُعانِي من فوبيا الفلاحين التي تكوَّنتْ لدينا، فقد حدَثَ بعد الاستيلاء على القاهرة أن أرسل نابليون جيشًا بقيادة مارتن ليحتلَّ المنطقة الشرقية من الدلتا، وخرج الجيش في الفجر، وما انتصف النهار حتى كانتْ قوَّاتُه عائدةً في حالة يُرثَى لها، الجنود يرتجفون وعيونهم تنطق بالرعب المجنون، وملابسهم في حالة تمزُّق كامل، وكلٌّ منهم يروي قصةً مختلِفةً غريبة عن قوم متوحِّشين خرجوا عليهم مسلَّحين بالنبابيت والعِصِيِّ والفئوس والمناجِل وكانوا يصرخون كأَكَلة لحوم البشر وتخرج صرخاتهم كالرعد وهي تردِّد: لهكبر لهكبر (ومعناها أن الإله أكبر من كل الأعداء) وجنودنا كما تعلم هم صفوة الجيش الفرنسي المختارة، الصفوة التي فتح بها قائدنا العظيم نابليون النمسا وإسبانيا وبولندا وانتصر بها في سالزبورج وإيطاليا، الصفوة التي شتَّتَتِ المماليك الشُّجْعان الأقوياء في معركتين، تصوَّر هذه الصفوة المسلَّحة بالبنادق والمدافِع تواجِه قوةً مسلَّحة بالعِصِيِّ والمناجِل فتفِرُّ مفزوعة هالِعةً لا تملك حتى أن تُطْلِقَ بنادِقها أو تتجمَّع صفوفها «ولماذا أُخْفِي عليك أنَّ بعض جنودِنا تبوَّلُوا على أنفسِهم من شدة الرعب؟!» ولم يستطيع أحدٌ أن يفسِّر هذه الظاهرة أبدًا، وهل هي راجعة لوحشية هجوم الفلاحين أو لأسباب أخرى غير معلومة.
وكانتْ لهذه الحادثة نتائج رهيبة، فقد كان لرجوع جنود مارتن بهذا الشكل الدرامي أسوأ الأثر على الرُّوح المعنوية لجيشنا كلِّه.
ومنذ ذلك التاريخ أُصِيب جنودنا بمرض الخوف من الفلاحين إلى درجة جعلتْ أحد أطباء الجيش يُطلِق على هذه الحالة: «فلاحين فوبيا»
**** ثم يشرح المستشرق (كليمان ) شارحا كيف تحول حامد الي بطل قومي ثم بعد قتله تحول جسده الي ضريح ..فقام المحتل الفرنسي بهدم الضريح وإخراج الجثة وتقطيعه وتوزيعها في أرجاء مصر .حتي لا يحتفلول به لان الاحتفال يتحول الي ثورة وذاكرة حية للمقاومة تنطلق من (الاضرحة ..من تحت الرماد الذي دفنت فيه أشلاء حامد )وفي هذا يقول (كليمان :.أدركتُ أنَّ ما تحت قبة الضريح ليس هو المهم، المهم هو الأجساد الخشنة الغليظة الملتفَّة حول الضريح، المهم هو النداء الواحد الصادر عن عشرات الآلاف من الأفواه الواسِعة الجائعة، المهم هو الوجه الآخَر للوحش الخرافي الذي خلع قلوب جنودنا بضربةٍ واحدةٍ من يدِه، المهم هو ما تُفْرِزه هذه الجموع ويتصاعَد منها ويتجمَّع ويتداخَل ويتبلْوَر ويختلط بأضواء المشاعل وأنوار الشوارع وقرعات الدفوف واهتزازات الأجسام!
لقد وقفتُ مشدوهًا، يا صديقي، وكأنِّي أرى هذا المزيج الهلامي المعلَّق بين الأرض والسماء، كأني أرى الإرادة المتجمِّعة، كأني أرى كل ما لدى الناس من حب وقد ضمَّتْه صرخة واحدة، كأنَّ تلك الأجساد الخشنة الملوَّثة بالطين والتراب تُفْرِز مادة أكثر سموًّا من الأجساد الحية، أكثر سموًّا من الحياة، خلاصة الحياة، جماع كل ما هو قادرٌ فيها وقاهرٌ، وجماع كل ما لا يمكن مقاومته، القوة العليا الخارِقة، سر الحياة!
وضريح حامد كان هو البؤرة التي تتجمَّع حولَها الإرادات وتلتقي، بؤرة تركز الإرادة في الخلود وتسوِّيها لتُصْبِح إكسيرًا سحريًّا قادرًا على تحقيق الخلود، ماذا أقول؟! لقد وقفتُ خاشِعًا واجفًا أُراقِب الجموع وهي تُفْرِز الإيمان وتشترك في خلقِه لتعود تؤمن به، ويتصاعد النداء الواحد من القلب الواحد فيُصبِح حين يلتقي بغيره مادةً سامية حيةً تعود تنسكب في كل قلب، تطهِّره وتقوِّيه وتغذِّي فيه رُوح البقاء!))
***
تلك عبقرية يوسف إدريس في روايته ..التي إستطاع خالد يوسف وببراعة وإحترافية الفنان والمخرج أن يقدمها لنا في هذا العمل الذي خلد فيها مقاومة الشعب المصري وربط بين حلقاتها في سلاسة وذكاء وعمق معرفي وأدبي …شكرا لخالد يوسف ..وللفريق الكبير الذ وقف خلف هذا العمل الرائع :إنتاجا وتمثيلا ورعاية ..وفي الاول والاخdر ..شكرا يوسف إدريس المبدع الخالد
2023-05-26