صناعة التاريخ.. الحرب الروسية – الأميركية في أوكرانيا!
عبير بسّام
في انتظار انتهاء الحرب بين روسيا وأميركا في أوكرانيا، فإننا ننتظر في الحقيقة صناعة حقبة جديدة من التاريخ. وفي انتظار من سيكتب التاريخ قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أشهر “لا يمكنني أن أرى العالم بدون روسيا”، كان يقول تحديداً أن هناك من يسعى بعد تفكك الاتحاد السوفيتي من أجل انتهاء روسيا كما نعرفها، وبالتأكيد فإن لا روسيا ولا رئيسها ولا شعبها سيمكّنان العالم كله من ذلك.
في حين أن الحرب بالنسبة لروسيا هي حرب وجود مصيرية، فإن الحرب بالنسبة لأمريكا هي حرب سلطة وقوة وأحادية قيادة العالم، والتي أنتجتها نهاية الحرب الباردة في التسعينيات، وقطفت أميركا أكلها في حرب مولتها لأكثر من عشر سنوات بعد وقوع الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، قبل أن ينهار الاتحاد كقوة قطبية عظمى. وعند المقارنة بما يحدث مع روسيا في أوكرانيا اليوم، فمن الواضح أن الأميركيين يعيدون نسخ التجربة في أوكرانيا. ولكن ما نسيه الأميركيون أن الأراضي الواقعة شرق نهر الدينيبر والتي ابتدأ الروس بتحريرها تباعاً، هي أراضٍ تتبع القيصرية الروسية وسكانها روس منذ أكثر من خمسة قرون، وهي ليست “احتلالاً روسياً” في أفغانستان.
اليوم، أهم ما قامت به روسيا هو عزل الدول العربية الخليجية عن الحرب في أوكرانيا، عندما دخلت في معاهدات واتفاقيات تجارية وخاصة مع السعودية والإمارات ومبادرات للعلاقات فى مصر وعدد كبير من الدول العربية.
تقوم الحرب في أوكرانيا تحت شعار: “حرب الديمقراطية الغربية ضد الديكتاتورية الروسية”، ولكن في حقيقة الأمر أن أسباب هذه الحرب هي التالي:
– أولاً، هناك قلق أميركي كبير من صعود كل من الصين وروسيا مما يهدد أحاديتها القطبية، وكما قال الكسندر دوغين، المفكر السياسي والاجتماعي الروسي المقرب من بوتين في لقاء على “العربية” منذ أيام أن الأحادية القطبية لم تنته بعد، وهذا الكلام دقيق، ولكنها مهددة بالزوال، وهذا أحد أهم أسباب القلق الأميركي. والحرب الأميركية بالوكالة بسلاح النازية الأوكرانية لا تختلف بشيء عن حرب “داعش” و”النصرة” في سوريا أو “القاعدة” في أفغانستان سوى عبر تغيير الواجهة التكفيرية. وبالتالي عندما ندرس التاريخ، سيكون هناك تعداد للاتفاقيات التي تمت مخالفتها بين أوكرانيا وروسيا، وأهمها اتفاقية منسك، وبتحريض من الأميركي، والتي أدت إلى إعلان العملية العسكرية من قبل روسيا. فمحاولات الأميركيين ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو ونشر منظومة صواريخ باتريوت في اوكرانيا، اعتبره الروس نقضاً لمينسك وتهديداً للأمن القومي الروسي.
– ثانياً، محاولة إثارة الخوف لدى الصيني اذا ما هزمت حليفته روسيا، فعندها قد تخضع الصين للإملاءات الأميركية وأهمها وقف التسلح، وبذلك تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار في سياساتها في منطقة المحيط الهادئ وأهمها دفع تايوان للانفصال عن الصين، وحرمان الأخيرة من الاستفادة من مصانع التقنيات الدقيقة المتواجدة في تايوان، وبالتالي حصار الصين اقتصادياً وعسكرياً من خلال إقامة قاعدة أمريكية قريبة أو في داخل تايوان. فالعقل الأميركي لا يمكنه التفكير بإقامة العلاقات السلمية مع الدول من خلال بناء قاعدة اقتصادية وثقافية وانسانية معها، ولا يستطيع إلا التفكير بمنطق القوة العسكرية الاستعمارية المفرطة حتى الهمجية، وهو الأساس الذي قامت عليه أميركا من قتل للأميركيين الأصلين ونهب الأراضي الخصبة والغنية بالثروات الطبيعية والمعدنية.
– ثالثًا، فك الارتباط بين الصين وروسيا، وهما حليفان ملتزمان ببعضهما البعض، حتى أن هذه العلاقة باتت من أكثر التحالفات المرعبة، وليس المقلقة فقط، للولايات المتحدة كقوة مهيمنة. وقد ثبت عمق هذا التحالف من خلال العلاقات الاقتصادية والإستراتيجية التي تنامت بصورة مطردة بين البلدين ووصلت حد إقامة المناورات العسكرية المشتركة، خاصة بعد بدء العمليات العسكرية الروسية في اوكرانيا.
– رابعًا، قطع طريق “الحزام والطريق” والذي يشكل أزمة حقيقية للولايات المتحدة ولذلك فقد حاولت الولايات المتحدة بناء تحالف الإندو- باسيفيك في منطقتي المحيط الهندي والمحيط الهادئ في آسيا مقابل تحالف شنغهاي. فأهم أهداف تحالف الإندو – باسفيك تعد أمنية وعسكرية تهدف للحفاظ على مضيق تايوان كمنطقة حرة. كما قامت الولايات المتحدة بانشاء تحالف استخباراتي في أساسه وهو تحالف اوكوس، الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، وانضمت إليه في مرحلة لاحقة كل من اليابان والهند.
– خامسًا، وهو الأهم إعادة تقسيم روسيا والاتحاد الروسي بما يتناسب ومصالح الولايات المتحدة، والتخلص منها كقوة كبرى في أوروبا، وذلك استكمالاً للخطط التي تشمل إعادة تقسيم دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، والذي تعمل روسيا على إعادة تجميعه ضمن الاتحاد الروسي.
عندما نعود لدراسة هذه المرحلة من التاريخ، فسنجد أن الحرب في أوكرانيا هي حرب أميركية بامتياز تقاد بالمال الأميركي والسلاح والاقتصاد الأوروبي والدم الأوكراني والروسي. حتى اليوم لم تمنح الولايات المتحدة منظومة الباتريوت لأوكرانيا خوفاً من وقوعها بيد الروس والاطلاع على أسرارها، ولكن الولايات المتحدة دفعت بالمانيا لتسليم دباباتها لأوكرانيا. وأول المتأثرين بانقطاع الغاز الروسي هم الأوروبيون الذي يضطرون لدفع مبالغ مضاعفة من أجل تأمينه لمعامل أوروبا وتفعيل بنيتها التحتية، الأمر الذي انعكس تضخماً مالياً في أوروبا طال أسعار السلع الحياتية واليومية، ومن ثم رفع نسبة البطالة، خاصة مع هجرة المعامل الأوروبية التي تعتمد الطاقة النظيفة في تشغيل منتجاتها إلى الولايات المتحدة.
وبالتالي، أهم نتائج الحرب: أولاً، تعليق مشاركة روسيا بمعاهدة نيوستارت للحد من الأسلحة النووية، وهذا ما أعلنه الرئيس فلاديمير بوتين خلال خطابه في 20 شباط، فبراير. وثانياً، ما أعلنه الرئيس الكرواتي “زوران ميلانوفيتش” علناً أمام حاضري قمة ميونيخ، ومنهم أوكرانيا، في 20 شباط، فبراير بأن: شبه جزيرة القرم وأقاليم دونيتسك ولوغانتسك وخيرسون وزابوروجيا وغيرها لن تعود إلى أوكرانيا أبداً. وهدد بأن روسيا مستعدة إذا ما خسرت الحرب التقليدية الحالية لإطلاق 6 آلاف رأس نووي انتقاماً وحفظاً لهيبتها وحينها سيبكي الجميع. والنقطة الأخيرة التي أكد عليها ميلانوفيتش، أنه مع استمرار المعركة وتدفق السلاح ستقوم روسيا بضم المزيد من الأراضي الأوكرانية بهدف زيادة المسافة الآمنة بينها وبين حلف الناتو ولن يتمكن أحد من إيقافها، ولإيقاف الحرب عليكم التوقف عن مد أوكرانيا بالسلاح. وقد نشهد في القريب ضم مولدوفا، التي يدعم بايدن سيادتها الإقليمية.
وسنقرأ أخيراً، أن الزيارة الاستعراضية التي قام بها بايدن بالتنسيق مع روسيا في 21 شباط/ فبراير، لن يتأتى منها شيء، اذ يبدو أن بايدن أراد تقليد سلفه ترامب عندما زار القواعد الأميركية في شمال شرق سوريا وفي أفغانستان، ولم يثبت بايدن بذلك سوى أن كييف الحالية هي قاعدة أميركية. وكما نسق سلفه مع الروس ليستطيع الذهاب إلى سوريا، فهو بحاجة للتنسيق معهم لدخول أوكرانيا. وهي زيارة هامشية لم تستطع حتى رفع معنويات المرتزقة في اوكرانيا والدليل أخبار المعارك اليوم في باخموت، وهذا أيضاً ما ستخبره كتب التاريخ.