ساقية سيدي يوسف + حلف بغداد!
الطاهر المعز
ساقية سيدي يوسف 08 شباط/فبراير 1958
حصلت تونس والمغرب على الإستقلال الشكلي سنة 1956، وأعلنت فرنسا إنها سوف تتفرّغ للجزائر، غير إن جيش التحرير الوطني كان يحصل على دعم الجيران المغاربة والتونسيين، وعلى السلاح من مصر ومن أوروبا الشرقية والإتحاد السوفييتي، وكان العديدج من اللاجئين الجزائريين يعيشون في تونس، كما كانت قيادة جبهة التحرير والحكومة الثورية المؤقتة بتونس، واتهمت هيئة الأركان العامة للجيش الفرنسي حكومة تونس بالتّواطؤ مع من كانت تُسميهم “المتمردين الجزائريين” وشنت القوات الجوية الفرنسية غارة يوم 8 شباط/فبراير 1958 على قرية ساقية سيدي يوسف التونسية الصغيرة القريبة من الحدود، بذريعة ممارسة “حق المطاردة”، وكان الهدف الحقيقي محاولة وضع حدّ للتضامن الجزائري-التونسي، وتُظْهِر الوثائق والشهادات إن السلطات الإستعمارية الفرنسية صَمّمَت العدوان منذ مدة وبقيت تنتظر الفرصة لتنفيذ هجوم تعتبره عقابًا للشعب والدّولة التونسية ولجبهة التّحرير الوطني واللاّجئين الجزائريِّين، لأن الجيش الفرنسي يعتبر تونس، وخصوصًا المناطق الحدودية قواعد خلفية لجيش التحرير الوطني الجزائري، وحصل العدوان يوم السوق الأسبوعية للقرية…
شارك في غارة ساقية سيدي يوسف سرب مكون من 25 طائرة (أحد عشر قاذفة قنابل وستة قاذفات مقاتلة وثمانية مقاتلات) بقصف المدينة، وقُدِّرَ عدد القتلى في منجم مهجور لجأ الناس إليه للإحتماء بنحو 600 إضافة إلى ما لا يقل عن ثمانين ضحية من الفلاحين التونسيين الذين أتوا من المناطق المحيطة للتسوق، وعشرين طفلا وأُصيبَ خلال الغارة 150 من السكان المدنيين، ودُمِّرت معظم منازل القرية ومدرستها، لأن الطائرات أطلقت القذائف والقنابل على حشود القَرَوِّيِّين في السوق المُكتظّة بالناس وعلى المباني، بداية من الساعة الحادية عشر صباحًا حتى الظُّهْر، وكان الضرر كبيرًا، وفق شهادة موظفي الصليب الأحمر الدولي، الذين كانوا موجودين في مكان المأساة مع اللاجئين ودمر العدوان تدمير شاحنتين تابعتين للصليب الأحمر، وحصل العدوان قبل شهرَيْن ونصف من انعقاد مؤتمر طنجة من 27 إلى 30 نيسان/ابريل 1958 بشاركة وفود من تونس والمغرب ووفد كبير من جبهة التحرير الوطني، وكان المؤتمر بمثابة التحذير الرسمي لفرنسا، بأن أي عدوان سيلاقي ردّا جماعيا من البلدان الثلاثة …
بعد العدوان، شرع الجيش الاستعماري في تركيب خطين مكهربين عملاقين على طول الحدود الجزائرية التونسية بهدف مَنْع التّسلّل وخنق الثورة الجزائرية لوجستيا.
المُقدّمات
في 2 كانون الثاني/يناير 1958، وقع اشتباك عنيف على الحدود التونسية بين الجيش الفرنسي وقوات جيش التحرير الوطني الجزائري التي كانت منشآتها داخل الأراضي التونسية، وتمكن جيش التحرير الوطني الجزائري من أَسْر أربعة جنود فرنسيين وعاد بهم إلى منطقة الكاف، مركز الولاية التي تنمتمي لها قرية ساقية سيدي يوسف، وتذرعت فرنسا بهذه الحادثة لإثارة موضوع استخدام “حق المطاردة”، واحتجت الحكومة التونسية على التهديدات الفرنسية، وبعد تسعة أيام، يوم الحادي عشر من كانون الثاني/يناير 1958 انطلق 300 مقاتل جزائري من ساقية سيدي يوسف وهاجموا دورية عسكرية فرنسية مكونة من خمسين جنديًا على الأراضي الجزائرية فقتل أربعة عشر جنديًا فرنسيًا وجرح اثنان وتم أَسْر أربعة جنود، وأعلن الجيش الفرنسي أن “إن المهاجمين الجزائريين يعبرون الحدود التونسية بمساعدة قوات الحرس الوطني (الدّرك) التونسي، واتهمت القيادة العسكرية الفرنسية السلطات التونسية بتقديم دعمها لـ “المتمردين” الجزائريين من خلال تزويدهم بالمركبات الاحتياطية والبنية التحتية، وبالتّورّط في قَتْل الجنود الفرنسيين.
أما ذريعة عدوان الثامن من شباط فبراير فكانت تَعَرّض طائرة استطلاع عسكرية فرنسية إلى طلقات نار من مدفع رشاش بقرية سيدي يوسف بالأراضي التونسية، وأُصيبت الطائرة واضطرت للهبوط في تبسّة، وقرر الجيش الفرنسي الإنتقام من القرية وأهلها ومن اللاجئين الجزائريين ومن الشعبَيْن التونسي والجزائري لأنه يعتبر تونس قاعدة خلفية، تقدم الدعم اللوجستي، عبر عبور الأسلحة، وتستضيف قوات جيش التحرير الوطني
حلف بغداد
تم التوقيع على معاهدة منظمة الشرق الأوسط، والمعروفة أكثر باسم حلف بغداد، في 24 شباط/فبراير 1955 ( سنة تأسيس حركة عدم الإنحياز في باندونغ بإندونيسيا) من قبل العراق وتركيا وباكستان وإيران وبريطانيا ( المؤسس الحقيقي) وانضمت الولايات المتحدة إلى اللجنة العسكرية للحلف سنة 1958، وتم حَلّ الحلف رسميا يوم 26 أيلول/سبتمبر 1979، بعد حوالي ستة أشهر ونصف من انهيار نظام شاه إيران.
نَفّذ الجيش العراقي، بقيادة عبد الكريم قاسم، انقلابا على النظام الملكي وأعلن الجمهورية، بدعم من الأحزاب القومية العربية والشيوعية، يوم 14 تموز/يوليو 1958، وأقَرّ النظام الجديد تأميم النفط ومنظومة الحماية الصّحّية والإجتماعية ومجانية التعليم والمُجَمّعات السّكنية للعمال والفقراء، بإيجارات منخفضة، وانسحب العراق من معاهدة حلف بغداد، الذي تم تغيير اسمها إلى “منظمة المعاهدة المركزية” أو “CenTO” يوم 24 آذار/مارس 1959، بعد انسحاب العراق، وكانت المعاهدة (الجديدة والقديمة) جزءاً من سياسة الحرب الباردة الأمريكية لعرقلة تأثير الشيوعية والإتحاد السوفييتي في المنطقة، بعد موقف الإتحاد السوفييتي من العُدْوان الثلاثي على مصر، سنة 1956، وكان حلف بغداد أو معاهدة “سنتو” جزءًا من الطّوق الذي صَمَّمَهُ حلف شمال الأطلسي لمحاصرة الشيوعية والإتحاد السوفييتي…
بدأت سياسة التّطويق الأمريكي، مُبكِّرًا، وبالتّوازي مع إنشاء حلف شمال الأطلسي (الخاص بالدّول الإمبريالية والرأسمالية المتقدّمة، باستثناء تركيا)، شجّعت الولايات المتحدة الأنظمة الرّجعية بآسيا والمشرق العربي على توقيع اتفاقيات بين الأنظمة المُوالية لها، ففي ربيع سنة 1953 تحادث وزير خارجية الولايات المتحدة مع رئيس الحكومة التركية عدنان مندريس ( رائد الإخوان المسلمين في تركيا والمدافع العنيد عن الإنتماء إلى الحلف الأطلسي وتطوير العلاقات مع الكيان الصّهيوني) بشأن إقرار “ميثاق مناهضة الشيوعية” الذي يجمع دول المنطقة بهدف “احتواء التقدم السوفييتي في الشرق”، كما وقّعت تركيا (عضو حلف شمال الأطلسي) وباكستان “اتفاقية المساعدة المتبادلة” يوم 02 نيسان/ابريل 1954، وهي اتفاقية عسكرية قبل أن تكون اقتصادية ودبلوماسية، وكانت هذه الإتفاقيات الثنائية مُقدّمة لدَمْج العراق لما كان “نوري السعيد” يحكم البلاد بالحديد والنار، فيما كانت الولايات المتحدة بصدد إعادة السيطرة على إيران، بعد الإطاحة – سنة 1953 – بحكومة محمد مصدّق الذي أمّم النّفط سنة 1951، بدعم الحزب الشيوعي “توده”، وبعد عودة الشاه، تم توقيع اتفاقية عسكرية واقتصادية بين تركيا والعراق يوم 24 شباط/فبراير 1955، وهي مُكَمّلة للمعاهدة التركية الباكستانية وللمعاهدة مع إيران التي التحقت بحلف بغداد يوم 12 تشرين الأول/اكتوبر 1955، بعد انضمام بريطانيا يوم الأول من نيسان/ابريل 1955، وبنهاية سنة 1955 أصبح حلف بغداد يضم بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان والعراق، بمساندة السعودية والأردن اللتَيْن لم تنتميا رسميا إلى الحلف الذي أثار غضب الشعوب العربية التي عبرت عن رفضها بالمظاهرات العنيفة والمتكررة، كما رفضت حكومات مصر وسوريا هذا “الإستعمار الجديد”، قبل أن تَنْضَمّ الولايات المتحدة سنة 1958، وحصلت بذلك على تسهيلات للتجسس على الإتحاد السوفييتي، انطلاقًا من إيران وتركيا وباكستان…
أثار إنشاء حلف بغداد ــ الذي أعقب إنشاء حلف شمال الأطلسي وسياتو ــمعارضة شعبية كبيرة في الوطن العربي، وخاصة في مصر وسوريا، فكانت هذه المُعارضة الشعبية وتحفّظات السعودية (التي تُعارض تطلعات الهيمنة التركية) وخصوصًا قيام النظام الجمهوري التقدّمي في العراق من الأسباب الرئيسية لتغيير طرق عمل الحلف على مستوى الشّكل، وكانت حرب انفصال بنغلادش – بدعم الهند – عن باكستان سنة 1971 واحتلال تركيا للجزء الشمالي من قبرص، سنة 1974، ولا تزال تركيا تحتله دون متابعة أو عقوبات، ولانهيار نظام الشاه في إيران (شباط/فبراير 1979) الدّور الأكبر في إنهاء عمل الحلف، رسميا، يوم 26 أيلول/سبتمبر 1979، ليصبح الكيان الصهيوني (وتركيا الأطلسية) قاعدة ومحمية تقوم بدور الشرطي في المشرق العربي…
إعادة تدوير مشاريع الأحلاف القديمة
دعت كندا ( الحليف المُطِيع للولايات المتحدة)، بواسطة معهد “جيوبوليتيكال مونيتور” ( كانون الثاني/يناير 2023) الى اعادة احياء فكرة “حلف بغداد للتعامل مع تحديات الحرب الباردة الجديدة القائمة في المنطقة والعالم، وخصوصا مع النفوذ الروسي المتزايد، على أن يضم الحلف الجديد كلا من الولايات المتحدة وتركيا وبريطانيا ومصر، بالإضافة إلى اسرائيل”
ذكر التقرير الكندي إن “حلف بغداد” كان احد اكثر الهياكل فعالية في التعاون الإستخباراتي والعسكري لمواجهة مخططات الاتحاد السوفيتي وحركة عدم الانحياز، ومن الضروري تصميم “تحالفات جديدة لجعل منطقة الشرق الأوسط موالية للغرب ولحلف شمال الأطلسي – ناتو (…) ومواجهة روسيا في سوريا وليبيا والتصدّي للحركات المُعادية للنظام الدّولي القائم حاليا… كما وجب تطوير الردع النووي الاستراتيجي…”
تندرج “اتفاقات ابراهيم” ضمن هذا الإطار، وبالإضافة إلى ازدهار العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني، ازدهرت العلاقات بين دُوَيْلات الخليج والعدو الصهيوني في كافة المجالات، وأهمها التجارة والأمن والإتصالات والتّجسّس، بذريعة مواجهة التهديد الإيراني، ويُشير التقرير الكندي إلى ارتفاع مخزونات منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسط من الغاز، والتي يعمل التحالف العسكري التركي الصهيوني على حمايتها، “حماية للأمن القومي الامريكي، ومساهمة في استقرار أسواق الطاقة العالمية”
يُشير التقرير إلى مُشاورات تجري منذ مدّة بين الولايات المتحدة وتركيا وبريطانيا ومصر والكيان الصهيوني، لاستقطاب مزيد من الدّول ولتعزيز “أمْن واستقرار البحر المتوسط وأمن الطاقة ومواجهة النفوذ الروسي وصعود الصين…”، ويقترح التقرير تمويل دُوَيْلات الخليج لهذا الحلف وإشراف تركيا (حلف شمال الأطلسي) على التنسيق العسكري، ونقل تجربة تحالف “العيون الخمس” (التحالف الاستخباراتي الذي يضم الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا واستراليا ونيوزيلندا)، “وهو سيتيح للدول المتحالفة مواجهة التهديدات الداخلية المتبادلة والتركيز على التصدي لجهود روسيا والصين لتعطيل النظام العالمي القائم”.
… أعلن ملك الأردن ( شبكة سي إن بي سي – 06 تموز/يوليو 2022) دعمه إنشاء “تحالف عسكري في الشرق الأوسط على غرار حلف شمال الأطلسي بين دول لديها نفس التفكير” وصرح إن النظام الأردني يعتبر نفسه شريكا في هذا الحلف برعاية الولايات المتحدة أو “الناتو العربي” الذي يضم مصر والسعودية والأردن والإمارات وقطر والكويت والعراق، بهدف تشكيل قوة دفاعية لحماية الدول العربية من التهديدات الأمنية الخارجية وحفظ الأمن القومي العربي، وتجميع الدول العربية المُطبّعة مع الكيان الصّهيوني تحت لواء واحد ( أمريكي-صهيوني؟)، وتُشكل أنْظمة مصر والأردن والإمارات محور هذا الحلف الذي تُديره الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، والمُوَجّه ضد إيران، وفق صحيفة “نيويورك تايمز” التي ابتهج مُحرّرها لتأسيس “تحالف إقليمي لمواجهة إيران بقيادة أمريكية ومشاركة إسرائيل وبعض الدول العربية” وأشار موقع نفس الصحيفة الأمريكية (06 تموز/يوليو 2022) “يُشبه هذا الحلف، حلف الناتو الأوسطي أو العربي حلف بغداد الذي انضمت إليه إيران وباكستان تحت إدارة بريطانيا لضمان أمن وسلام منطقة الشرق الأوسط ككل، ولمواجهة الخطر الشيوعي…”
أسقطت الجماهير العربية وأنظمة سوريا ومصر حلف بغداد، فمن يُسقِطُ حلف الناتو العربي؟
تستمر الحركة الصهيونية في إبادة الشعب الفلسطيني، بدعم من القوى الإمبريالية (الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي) ومن الأنظمة العربية، وخصوصًا المُطَبِّعَة عَلَنًا والمُنْضَوِيَة تحت “الناتو العربي” وفي ظل صَمْت قادة الأنظمة التي لم تُطَبِّع علنًا، وفي ظل ضُعف الحركة الجماهيرية والأحزاب التقدّمية والنقابات. لقد شارك المُتطوّعون العرب في كفاح الشعب الفلسطيني، أثناء ثورة 1936 التي كان أحد قِيادِيِّيها المشهورين (عز الدين القسام ) سُوريًّا، لأن الشعوب العربية كانت واعية بأن الحركة الصهيونية (ثم الدّولة منذ 1948) لا تهدد شعب فلسطين فقط بل تهدد الشعوب والبلدان العربية.
2024-02-10