زيارة المكتبة بعد غياب!

كاظم الموسوي
إنَّ تزور مكتبتك الشخصية في بيتك الأوّل بعد غياب أكثر من ثلاثة عقود من الزمن عنها وتجد أغلب ما اقتنيته من كتب فيها، وتقف عند رفوفها المرتبة حسب الموضوعات، وأن تمسح التراب عنها، أمر يكشف قسوة البعد والمنفى، وفداحة الاغتراب، ليس عن المكتبة وحدها، فهي رمز معبر عن باقي القضايا والمواضيع الأخرى، والأبرز فيها طبعا الأحبة من الأهل والأصدقاء وما تركت من معرفة ومعارف، وما بقي منهم حيا أو احياءً. ولكن هنا تظل المكتبة عنوانا متجددا، يسجل تلك الأيام التي ابتعدت تاريخيا وظلت راسخة في الذاكرة رغم أوجاعها، والغربة وتداعياتها، وظروف السنوات التي تقاطعت بين المحنة والألم، أو بين القسوة والعذاب، رغم كلّ ما حملت أو جنت أو وفرت… فلها بالتأكيد ما لا يمكن نكرانه أو جحده أو بخسه.
تقلب بعض الكتب وتقرأ إهداء الأصدقاء المؤلّفين لها وكلمات المودة والاعتزاز، تسأل عنهم، أو تعرف مصائر بعضهم، ماذا حلّ بهم؟ وأين هم الآن، الأحياء خصوصاً منهم؟ وهذه وحدها قصة جديدة… رواية درامية متكاملة… شخوصها أسماء معروفة مكانتهم ومواقعهم مشهود لهم بها، نجوم رصعوا سماء المشهد الثقافي في العراق، وفي شتى صنوف الثقافة، ومازالوا كذلك… أين هم الآن؟ أما الراحلون فتظل لهم لوعة وحزن دفين، ليس لفقدهم وحسب، وإنَّما خسارة لأدوارهم في مجالات إبداعهم.
لما عدت بعد ذلك الغياب الطويل إلى الوطن، سألت عن كلّ صديق لم أعرف عنه في المنافي العديدة. وعرفت من استشهد في السجون، ومن رحل بأسبابه، ومن بقي غريبا في وطنه… أما المهاجرون فعرفت عنهم ولكل منهم قصته، في كلّ مغترب، أو في مكان ما تحت كلّ نجمة في سماء الله الواسعة… حيث لأول مرة في تاريخ العراق يصبح العراقيون لاجئين في كلّ أركان المعمورة، كلّما تذكر اسم بلد تسمع أسماء عراقيين فيه، حتّى البلدان التي لم تخطر ببال أحد أو في الأحلام سابقا. وأصبحت للعراقيين مقابر وشواهد تذكرهم بمن فقدوه، في أقرب المنافي وأبعدها.
أعود إلى المكتبة وأقرأ في بعض كتبها، ثمة كتب مفقودة، وكانت تحتل رفوفا منها، وقبل السؤال عنها، وقف أخي ساردا القصص، كيف اضطروا إلى حرق أو إتلاف عدد من تلك الكتب لأسباب كثيرة، ولماذا نقلوها إلى الدور الثاني. كان “زوار الفجر” يمرون عليهم ويعبثون في ممتلكاتهم بهدف الإزعاج والتخريب والإلحاح عليهم بالتهديد والإكراه والعواقب الكريهة ومختلف أنواع الضغط عليهم للوشاية بي وعني، متى آخر اتّصال كان مني وهل يرسل لكم مساعدات ما، وماذا يفعل بهذا البلد أو ذاك؟ وغيرها من الأسئلة الروتينية التي باتت معروفة لكلّ من ابتلى بهم… وثمّ إجبارهم للمرور على الدائرة للتوقيع على أوراق مكتوبة لا يسمح لهم إكمال قراءتها، فقط العنوان والإمضاء، وتتكرر هذه القصة كلّ فترة، وربما كلّ شهر، حسب فراغ مدير الدائرة وجلاديه، والذي هو لسخرية القدر زميل دراسي لي ويعرفني جيداً، انتماءً وقناعة ويعرف العائلة جيدا ومكانة الوالد الغالي.
لم تعدّ قصة الكتب رئيسيّة فتعويضها ليس صعباً، لاسيّما الآن حيث أصبحت منشورة على الإنترنت، وبسهولة يمكن تحميلها وقراءتها لمن يرغب بها. ولكن الصعب في كلّ ما جرى وحصل هو تعويض الأرواح التي فقدت، والأضرار النفسية والجسدية التي تكبدتها أخواتي وإخوتي ومن يرتبط بي عائلياً أو اجتماعياً. وتلك محنة السياسة والفكر في بلدنا وغيره، والأحزاب التي حكمتها، والتي فضحت تناقضاتها في كلّ شيء، فلا شعاراتها طبقت ولا برامجها أو وثائقها المنشورة تجسدت في أعمالها وحكمها ونظامها… محنة لا تزال تعيد نفسها كما هو الماء في نواعير عانة أو حماه أو دواليب العاب الأطفال في الحدائق العامة. ما الذي أفقد العقل والحكمة والعبرة والدرس في هذه البلدان؟ ولماذا تتكرر الأخطاء والخطايا دون حساب أو عقاب؟ ومتى يصبح الإنسان وحقوقه أثمن رأسمال ويصبح خليفة الله فعلاً على الأرض؟
2024-08-09