روسيا بلد الحضارات والشعوب المنصهرة في بوتقة الوطن!
د. نواف إبراهيم*
روسيا بلد الدروس والعبر في تاريخ البشرية وإحدى أجمل الصور للتآلف والتآخي الإنساني الراقي، الكفيل ببقاء البشرية بعيداً عن سفك الدماء والحروب والنزاعات.
روسيا بلد الحضارات والشعوب المنصهرة في بوتقة الوطن روسيا بلد الدروس والعبر في تاريخ البشرية وإحدى أجمل الصور للتآلف والتآخي الإنساني الراقي، الكفيل ببقاء البشرية بعيداً عن سفك الدماء والحروب والنزاعات.
تعيش روسيا على مدى قرون طويلة منذ ما قبل عهد القياصرة ومروراً الإمبراطورية الروسية والإتحاد السوفييتي وصولاً ليومنا هذا حالة ملفتة من التآلف بين القوميات . يعيش في روسيا 190 قومية في جو من الوئام وحسن الجوار والتآخي، يجمعهم الوطن الروسي من أقصاه إلى أقصاه ولم يعهد التاريخ أن يوماً ما، كانت هناك حروب أهلية بين هذه القوميات بالعموم، وهذا كان أحد أهم العوامل التي ساهمت في كثير من الانتصارات التاريخية ليس أولها الانتصار على نابليون عام 1812 عندما غزا موسكو و ليس آخرها الانتصار في الحرب الوطنية العظمى على النازية 1941-1945 . التكوين الوطني لروسيا آخر إحصاء سكاني لعموم روسيا 2020-2021. أشار إلى ارتفاع إجمالي عدد سكان الاتحاد الروسي إلى 147,182,123 نسمة، بينما بلغ عدد السكان في عام 2010 143,436,145 نسمة. التوزيع العرقي: 81.5% روس، 3.9% تتار، 1.4% أوكرانيون ومثلها بشكيريون، إضافة إلى قوميات أخرى مجموعها 195 عرقية مختلفة. الديانة: الغالبية العظمى من السكان الروس يعتبرون أنفسهم مسيحيين أورثوذكس، ويشكل المسلمون 5%، وهناك نسبة من الروس ملحدون كما في أي بلد في العالم ارتفعت هذه النسبة من 7% إلى 14% في القرن الحادي والعشرين بسبب التأثير الشيوعي في عهد الاتحاد السوفياتي السابق” حسب المركز الروسي للاستطلاعات الاجتماعية”. يتكون الاتحاد الروسي من 89 كياناً فدرالياً (وحدة إدارية)، منهم 24 جمهورية، هذا ولاتزال جمهورية القرم رقم 22 وجمهورية دونيتسك الشعبية رقم 23 وجمهورية لوغانسك الشعبية رقم 24 محدودة الاعتراف دولياً. بحسب الدستور تقسّم روسيا الاتحادية إلى 89 كيانٍ اتحاديٍّ (وحدات مكونة)، 22 منها هي «جمهوريات». تمثّل معظم الجمهوريات مناطق إثنية غير روسية، برغم أنه ثمة العديد من الجمهوريات بأغلبية روسية. يشار إلى المجموعة العرقية الأصلية التي تمنح جمهورية ما اسمها بـ «الأمة ذات اللقب». بالنظر إلى عقود من الهجرة الداخلية (قرون في بعض الحالات) داخل روسيا، لا تمثّل كل قومية بالضرورة غالبية سكان الجمهورية. بعد هذا العرض المقتضب عن روسيا، وفي ظل الكثير من المتغيرات الجيوسياسية الراهنة وخاصة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وتقسيمه عاشت جملة من هذه القوميات خلف حدود اصطنعها التغيير الجيوسياسي ، لكنها لم تكن يوماً عائقاً في الحفاظ على العادات والتقاليد المشتركة واحترام الجميع للجميع والإلزام بتقدير وحماية مشاعره وتقاليده ولغته وتاريخه، وهذا بالطبع ليس فقط بجهد ورغبة من الشعوب وإنما أيضا كانت القيادات الروسية على مر التاريخ تفعل كل ما هو لازم للحفاظ على هذا الفسيفساء الجميل، واشتد الاهتمام بذلك منذ وصول الرئيس بوتين إلى سدة الحكم في روسيا عام 2000،إذا اتخذت الكثير من القرارات والإجراءات الفعلية من أجل الحفاظ على الإرث الحضاري والتاريخي لكل مكونات القوميات والإثنيات التي تعيش على هذه الأرض، وهذا الاهتمام على الصعيدين الرسمي والشخصي للمواطن قبل الرئيس فلاديمير بوتين كان لها وقعاً وتأثيراً هاماً في الحفاظ على هذا الإرث الحضاري الثقافي النادر. في كل وقت وزمان ومكان تنظم مهرجانات واحتفالات وفعاليات وندوات ودراسات حضارية وثقافية وتاريخية مشتركة لإظهار هذا النسيج المتماسك بين أبناء أرض الروس بمختلف انتماءاتهم، فعاليات كثيرة تبدأ من المدارس وتمر بالجامعات وإلى المؤسسات والإدارات على مبدأ حوار الثقافات والحضارات وليس على مبدأ صراعها كما روج له البروفيسور وعالم السياسة الامريكي صموئيل فيليس هنتغتون وغيره من منظري العولمة وغزو الثقافات للأخرى عبر الحدود ليس للتلاحم معها وإنما لمحوها والقضاء عليها، مثل هذا النهج لم يستطع أن ينل من روسيا ولا أن يخترقها جغرافياً أو فكرياً . اليوم نرى أن السياسة تلعب دوراً مهماً في توسيع رقعة النزاعات والصراعات بين الشعوب والإثنيات والدول في العموم في ما بين الدول وبين شعوب الدول أنفسها في دواخلها ، لكن لم تؤثر في روسيا ولا في القوميات التي عاشت فيها وتعيش معها وبقي الكثيرين منها يعيشون على أرضها، من بين هذه القوميات الأرمن، الذين تربطهم بالشعب الروسي السلافي علاقة تاريخية متينة وجميلة تستمر منذ عهود طويلة. من بين هذه الفعاليات الدائمة والدورية أقيم مهرجان “حوار الثقافات” في الأكاديمية الرئاسية، إذ استضاف معهد شمال القوقاز التابع للأكاديمية الرئاسية ( الأكاديمية الروسية للاقتصاد الوطني والإدارة العامة للدولة “خدمة الدولة” لدى الرئيس الروسي) مهرجان “حوار الثقافات”، الذي جمع ممثلي الشعب الروسي المتعدد الأجناس بأكمله، هذا المهرجان يعتبر أحد أكبر المهرجانات التقليدية فهو يجمع الطلاب والمعلمين وممثلي الشتات الوطني في منطقة شمال القوقاز الفيدرالية في معهد شمال القوقاز التابع للأكاديمية الرئاسية. رئيس قسم السياسة الوطنية للدولة في الإدارة الأقاليمية في روسيا لمنطقة شمال القوقاز الفيدرالية وجمهورية القرم ومدينة سيفاستوبول، سيراي لوكيانوف، رحب بالمشاركين والضيوف معبراً عن أمله في أن يبذل الطلاب جهدهم الراقي في توثيق العلاقات والتآلف بين الأعراق. في هذا النشاط الرائع ، أعدت وفود “الأباظة والشركس”، “أرمينيا”، “البلقار والقراشاي”، “اليونان”، “داغستان”، “روسيا”، “أوسيتيا الشمالية-ألانيا”، “الشيشان وإنغوشيتيا” عروضاً مختلفة غنية بكل أنواع التراث، حيث إمتدت طاولات بأطباق المطبخ الوطني عند مدخل الأكاديمية، ومن ثم استمتع الضيوف بقضاء وقت جميل بحفل موسيقي في جو احتفالي مخصص لتاريخ ظهور واستيطان وثقافة شعوب روسيا. “الأبازين والشركس” أظهروا كيف رقصت شعوبهم وتحدثوا عن آداب الرقص الشعبي، وقدم وفد “بلقار وكراشايس” للجمهور رقصة “أوزاي” التي ترمز إلى وحدة الشعوب الشقيقة، وتمكن الجمهور من رؤية تاريخ ضم أوسيتيا إلى روسيا في خطاب وفد أوسيتيا الشمالية وألانيا. أظهر وفد “الشيشان وإنغوشيا” حقيقة مثيرة للاهتمام في الثقافة – وهي أن المرأة، ما إن ترفع منديلها، يمكن أن توقف أي عداء، وتحدث الوفد “اليوناني” عن تاريخ اليونان، وقدم وفد “داغستان” رقصة فتاة الآفار والليزغينكا النارية، وتحدث وفد “أرمينيا” عن حركة عائلات من أرمينيا إلى بياتيغورسك، وعرض وفد “روسيا” كيف إنتشرت القبائل الروسية عبر الزمن وعن ثقافتهم وتقاليدهم وعاداتهم، وفي كل عدد كان العرض مصحوبا برقصات وأغاني ملهبة للمشاعر . مدير معهد شمال القوقاز – فرع الأكاديمية الرئاسية، وعضو الغرفة الإجتماعية للاتحاد الروسي تليسوف عظمات باريسوفيتش قال: “يعد الحوار بين الثقافات أحد أبرز الأحداث في حرم الأكاديمية الرئاسية في شمال القوقاز. إنه يوضح جيدًا تنوع شعوب روسيا. لقد طال انتظار العطلة من قبل طلابنا، فهم يريدون التحدث عن التراث الثقافي الغني لبلدنا ومدى احترامهم له، ومن الرمزي للغاية أنه في عام الأسرة على وجه التحديد، الذي أعلنه الرئيس، كجزء من الاحتفال بيوم الثقافات الوطنية، سنتحدث عن كيفية الحفاظ بعناية على التراث الثقافي الغني ونقله من جيل إلى آخر، للأجيال في الأسر. وكما يعلمون بشكل صحيح، فإن الأسرة هي المؤسسة الأكثر أهمية التي تحدد مستقبل الشعب بأكمله، وهذا مهم للغاية في عصر الرقمنة العالمية. إن الأسرة، باعتبارها حاضنة لا يمكن تعويضها للتراث الثقافي والتواصل بين الأجيال، هي الدعامة التي تسهل وتمكن من العثور على الدعم وطلب المشورة. إن اهتمام قيادة البلاد بهذه المؤسسة المهمة يمنح الشباب الثقة في المستقبل. هذه هي روسيا بلد الدروس والعبر في تاريخ البشرية وإحدى أجمل الصور للتآلف والتآخي الإنساني الراقي، الكفيل ببقاء البشرية بعيداً عن سفك الدماء والحروب والنزاعات .
خاص وكالة رياليست –كاتب وإعلامي متخصص بالشؤون الدولية – روسيا.
إقرأ المزيد:
2024-10-11