رحيل الاقتصادي الفلسطيني اليساري النبيل: وداعا د. سمير عبد الله!
غانية ملحيس
في لحظة وطنية قاسية، حيث ما تزال حرب الإبادة الجماعية والحصار والجوع والتدمير والنزوح تطغى على المشهد الفلسطيني منذ قرابة عامين، يتابعها الأهل وذوو القربى، والإقليم والعالم، بذهول على الشاشات، دون أن يتحرك ساكن، وكأن ما يجري يحدث في كوكب آخر، أو في مشهد سينمائي كتبه وأخرجه سادي مريض.
في هذا السياق المأساوي، بلغني نبأ رحيل الدكتور سمير عبد الله، بعد صراع مع المرض لم يفصح عنه. رحل بصمت كما عاش في سنواته الأخيرة، دون ضجيج أو ادعاء، لكن بصمة غيابه باتت جهرا، تاركا خلفه سيرة مهنية ووطنية ومعرفية تحترم، وإرثا يستحق التأمل والتقدير.
عرفته من مواقع التقاطع المهني لا التزامن، في لحظة تأسيس السلطة الفلسطينية، حين تولى موقع وكيل مساعد في وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة، قبيل أن أتولاه لاحقا. كنت قد انسحبت حينها بعد تسعة أشهر، أيقنت خلالها انسداد أفق إقامة حكم ذاتي فلسطيني حقيقي يؤسس لدولة تحت استعمار استيطاني إحلالي لا يعرف قيدا ولا سقفا. لكنه، على طريقته، استمر يحاول.
ثم تلاقينا من جديد، وهذه المرة في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – “ماس”، إذ شغل سمير عبد الله منصب المدير العام لفترتين (2004–2007، و2010–2013)، بعد أن كنت قد سبقته إليه بين 1998 و2004. وخلال فترته الثانية، توليت رئاسة مجلس أمناء المعهد، الذي كان هو عضوا فيه بحكم الموقع. ورغم اختلافنا حول السياسات الاقتصادية ونمط الإدارة، بقيت علاقتنا إنسانية دافئة، قائمة على الاحترام، والدماثة، ورقي الخلاف. لم نكن على الموجة الفكرية ذاتها، لكننا كنا نعرف أن النقاش يصنع الوعي، وأن التعدد لا يلغي الإخلاص لقضية واحدة: فلسطين.
سمير عبد الله: سيرة يخطها العقل والالتزام
ينتمي الدكتور سمير إلى جيل الفلسطينيين الذين مزجوا بين الفكر اليساري والجدارة المهنية. نشأته في كنف الحزب الشيوعي الفلسطيني، ومساهماته في تحرير مجلة “الكاتب” في القدس خلال الثمانينيات، شكلت حجر الأساس لوعيه السياسي والثقافي. لكنه، شأن كثيرين من أبناء ذلك الجيل، انتقل لاحقا إلى العمل المؤسسي ضمن مؤسسات السلطة، دون أن يتخلى عن ملامحه الفكرية الأولى: نقد التبعية للاحتلال، والإيمان بدور الدولة في الاقتصاد، لا السوق وحده.
كان من المؤسسين الفاعلين لجمعية الاقتصاديين الفلسطينيين، وترأسها في لحظة مفصلية (1993–1997)، ثم عاد إلى مجلس إدارتها في 2015، مشكلا بذلك جسرا نادرا بين التكوين الحزبي القديم، والبناء المؤسسي الجديد.
رجل السياسات، والأرقام، والمفاوضات
لا يمكن الحديث عن سمير عبد الله دون التوقف عند دوره في مفاوضات مدريد وواشنطن، ثم ضمن الفريق الفني في مفاوضات “برتوكول باريس” التي نظمت العلاقة الاقتصادية الفلسطينية–الإسرائيلية بعد اتفاق أوسلو. وبينما كان البعض يرفض الدخول في هذا المسار، خاضه سمير كخبير، مستندا إلى أدوات التحليل الاقتصادي، وحاول أن يصوغ موقفا فلسطينيا مهنيا أمام وحشية الشروط الإسرائيلية.
ولعلّ جهوده في “بكدار”، ووزارة الاقتصاد، ثم كوزير للتخطيط والعمل لاحقا في حكومة سلام فياض الأولى (2007–2009)، تعكس هذا المزج بين الواقعية المهنية والهم الوطني. ففي ذروة الانقسام الفلسطيني بعد 2007، أشرف على إعداد أول خطة إصلاح وتنمية للسلطة، وسعى إلى بناء جسر بين التخطيط والمساعدات الدولية، دون أن يفقد رؤيته النقدية لشروط التبعية.
اقتصادي باحث: لا يكتفي بإدارة الأرقام، بل يحللها
في معهد “ماس”، الذي قاده لفترتين، ترك بصماته، سواء عبر الإدارة أو من خلال الدراسات التي أنجزها مع باحثي المعهد، ومنها:
• نحو صياغة رؤية تنموية فلسطينية (2005)
• سياسات النهوض بريادة الأعمال في أوساط الشباب (2014)
• تأثير الانتهاكات الإسرائيلية على قطاع الإسكان (2015)
- نحو إعداد سياسة وطنية للإسكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (2015)
- نحو تطوير تنافسية قطاع الزيتون الفلسطيني (2016)
- Preserving East Jerusalem… (2018)
جمع في دراساته بين التحليل الاقتصادي الرصين، والاهتمام بقطاعات مغيبة في كثير من النقاشات: كالزراعة، والإسكان، والتنمية المحلية.
دماثة الأخلاق، ونقاء السيرة
لكن بعيدا عن الألقاب والمناصب، ما يبقى في القلب هو سمير الإنسان: دمث الخلق، بشوش، راق في إدارة الخلاف. حتى حين اختلفنا في تقييم السياسات الاقتصادية، لم يفقد نبرة الهدوء، ولا الاحترام المتبادل.
كان نزيه اليد، نقي السيرة، يعمل بإصرار ضمن الممكن المتاح، حالما بما يجب أن يكون. لم يكن مثاليا ولا معصوما، لكنه كان صادقا في جهده، ملتزما بقضية شعبه، مخلصا لضميره.
وداعا سمير…
اليوم، وفي وداعه، لا أرثي شخصا فقط، بل أرثي جيلا من الاقتصاديين اليساريين الفلسطينيين، الذين انتقلوا من الشارع إلى المؤسسات، ومن النضال الحزبي إلى العمل السياساتي، دون أن يتخلوا عن الحلم. ودون أن يسمحوا للواقع أن يغتال الحلم.
لروحه الطاهرة الرحمة والسكينة،
لإرثه الوطني والمعرفي الخلود،
ولأسرته وعائلته ورفاقه ومحبيه وشعبه، خالص العزاء والمواساة.

2025-07-04