رحل ثعلب السياسة الذي استحق لقبه هذا بجدارة!

رنا علوان
وُلِد “هاينز ألفرِد كيسنجر” عام 1923 لأسرة يهودية ألمانية في بافاريا ، قبل أن يهاجر وعائلته إلى الولايات المتحدة عام 1938 حين بروز (ما عُرف بالهولوكوست أو التهجير اليهودي) ، عن عمر 15 عامًا ليعود ويُقاتل النازية كجندي اميركي يحمل جنسية الأخيرة
وصل هاينز إلى مدينة نيويورك على متن سفينة من لندن ، وسرعان ما واجهت أسرته ظروفًا اقتصادية عصيبة جعلته يعمل في صِباه في أحد المصانع
التحق الفتى الألماني بمدرسة ثانوية في نيويورك ، وتعلَّم اللغة الإنكليزية ، لكنه احتفظ بلكنة بافارية لم تفارقه طيلة حياته
في عام 1943 ، حصل هنري على الجنسية الأميركية وهو ابن عشرين عامًا ، وبدأ من فوره خدمة بلده الجديد في خضم الحرب العالمية الثانية
أسس “شركاء كيسنجر” ، وهي شركة استشارات جيوسياسية دولية
يحمل في جعبته أكثر من اثني عشر كتابًا في التاريخ الدبلوماسي والعلاقات الدولية
دخل عالم السياسة من الباب العريض في عهد نيكسون ، عُرف “بالرجل الثاني المهم من بعد نابليون “
واشتهر كسينجر بسياسة التفكيك والتركيب ، [يرى كيسنجر أنه ينبغي تفكيك القضايا والأزمات الكبرى إلى عناصر وتفاصيل أصغر لفهمها ثم إعادة تركيبها بما يتناسب مع الحقائق الجديدة ، وفي هذا السياق ابتدع كيسنجر سياسة “الخطوة خطوة” و”الرحلات المكوكية” التي طبقها في أزمات فيتنام والصين والشرق الأوسط]
وفي الصراع العربي الإسرائيلي، طبق كيسنجر أيضًا نظرية “التفكيك والتركيب” بشكل دقيق ، عبر العمل على تفكيك الجبهات والأواصر العربية ، ومنع أي تقارب بين العراق وسوريا وتحييد مصر ودعم العدو الإسرائيلي المطلق للتفوق على جميع الدول العربية
وكان يعتبر أن اي حوار أو مفاوضات مع العالم العربي يجب تتم وفق نظرية “الشيخ والخيمة” و”السوق” ، بمعنى اتباع اسلوب ” محارجة البائع على السعر ” ، حيث ينبغي أن تقدم نصف السعر المطلوب أو أقل ، كما يرى أن القرار النهائي يكون حصريًا للشيخ الذي يتصدر الخيمة ، وقد طبق ذلك تمامًا خلال مجريات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وما بعدها
ارسلت له غولدا مائير للتدخل في الصراع العربي ، وقد توقف إطلاق النار بين مصر والعدو الإسرائيل بعد حرب أكتوبر ( ولعل ذلك الأسلوب قد قاد كيسنجر إلى النجاح في إنشاء إطار سياسي للشرق الأوسط في السبعينيات) ، لا سيَّما وقد شكَّل علاقة وطيدة مع الرئيس المصري حينئذ “أنور السادات”، وأُعتبرت تلك العلاقة [ إطارًا حافظًا على الاستقرار والمصالح الأميركية في المنطقة لعقود طويلة حتى اندلاع الثورات العربية عام 2011]
منذ خمسينيات القرن العشرين ، قررت الإدارات الأميركية المتعاقبة أن تسلك سياسة براغماتية دون أي اعتبار لحق الشعوب اللاتينية في تقرير مصيرها
وقد تبنَّى كيسنجر موقفًا واضحًا من اليسار اللاتيني عبر دعم الانقلابات العسكرية الدموية لحماية المصالح الأميركية
وفي اجتماع سري قبل الانتخابات الديمقراطية في تشيلي
في عام 1970 ، التي فاز بها المناضل اليساري “سلفادور أليندي”، قال كيسنجر صراحة إنه لا يفهم سبب وقوف الولايات المتحدة موقف المتفرج أمام دولة في جوارها وهي تتحوَّل إلى الشيوعية نتيجة عدم وعي شعبها
وقد كشفت وثائق الأرشيف الوطني الأميركي فيما بعد عن الضغط الذي قام به كيسنجر على رئيس الولايات المتحدة آنذاك ريتشارد نيكسون كي يُطيح برئيس تشيلي اليساري المُنتخب ديمقراطيًا ، وتقديمه المساعدة عبر وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لتنفيذ انقلاب عسكري عليه عام 1973
كما لعب كيسنجر دورًا مركزيًا في دعم الديكتاتور العسكري “أوغستو بينوشيه” في تشيلي ، الذي تم وصفه فيما بعد بأنه واحد من أكثر الحُكام دموية في القرن العشرين ، ونقلاً عن [كاتب سيرته ل “غريغ غراندين”] ان كيسنجر ساهم في إطالة أمد حرب فيتنام وتوسيع هذا الصراع إلى كمبوديا المحايدة ، وكذلك تسهيل عمليات الإبادة الجماعية في كمبوديا وتيمور الشرقية وبنغلاديش ، كما تسارع الحروب الأهلية في الجنوب الأفريقي ، ناهيك عن دعمه الانقلابات وفرق الموت في جميع أنحاء أميركا اللاتينية ، وان يديه “ملطخة بدماء ما لا يقل عن زُهاء 3 ملايين شخص”
وقد كتاب “كريستوفر هيتشنز” “محاكمة هنري كيسنجر” شهادات ودلائل تشير إلى أن كيسنجر جهَّز لمُخطَّط الانقلاب ، الذي لم يكن قائمًا على الدعم المادي للجماعات اليمينية وضباط الجيش من كارهي أليندي فحسب ، وإنما تضمَّن أيضًا التخطيط لعمليات اختطاف وإثارة أحداث عنف في تشيلي
وبعد 5 أيام من انقلاب بينوشيه كانت هناك محادثة بين كيسنجر ونيكسون اندهش فيها الأول من أن الصحف ترثي الحكومة اليسارية المُطاح بها في تشيلي ، بدلاً من التعامل معه هو ونيكسون “بإعتبارهما بطلين”
والجدير ذكره أن نتائج هذا الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة ووزير خارجيتها ومخابراتها ، إذا ما اختصرناها ، كانت آلاف القتلى والمُعتقلين والمنفيين من شعب تشيلي ، ورغم كل العواقب التي تلت الانقلاب ، كتب عنه كيسنجر فيما بعد قائلاً
[إن الجيش التشيلي أنقذ البلد من نظام شمولي ، وفي الوقت نفسه أنقذ الولايات المتحدة من عدو محتمل ]
وتعتبر كمبوديا واحدة من أشهر البقاع التي سالت فيها الدماء بسبب سياسات كيسنجر ، إذ كان الرجل هو العقل المدبر لخطة قصف أهداف عشوائية في مناطق “مأهولة بالسكان” [بغية تحسين الموقف الإستراتيجي للولايات المتحدة في التفاوض مع النظام الفيتنامي قبل الانسحاب] ، وذلك بحرمان النظام الفيتنامي من الملاذات الآمنة وخطوط الإمداد التي تمتَّع بها في كمبوديا
فبعد مكالمة من الرئيس نيكسون التي طلب فيها حملة تضرب كل شيء يتحرك على الأرض ، أشرف كيسنجر على ضرب كمبوديا ، بالتزامن مع بدء المفاوضات التي حصل الرجل بفضلها للمفارقة على جائزة نوبل للسلام في عام 1973، بفعل مساهمته في توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الورطة الأميركية في فيتنام
وكان قد أعطى كيسنجر الموافقة على غارات جوية فاق عددها 3000 غارة عامي 1969 و1970 ، وبلغ ضحاياها نحو 600 ألف مدني في كمبوديا و300 ألف مدني في لاوس ، بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش”
تولَّى كيسنجر مهمة إبعاد الأخبار الحقيقية القادمة من أرض المعركة عن الصحافة الأميركية ، بحسب ما اشارت له مذكرات القادة في الولايات المتحدة آنذاك
وكيف ان انخراط كيسنجر في العملية ، كان بارزًا ، حيث كانت هيئة الأركان تقدم له الأهداف التي ستضربها وتأخذ الموافقة منه
وفي هذا الصدد يذكر كتاب “محاكمة هنري كيسنجر” أنه أدار العملية إدارة دقيقة ، وهو ما يؤكده في مذكراته أيضًا
وفي تحقيق موسع لموقع “ذا إنترسِبت” نُشر في مايو/أيار 2023، كشفت الوثائق أن سياسات الإدارة الأميركية شملت إحراق القرى وقتل المدنيين وتشويههم في كمبوديا
كسينجر الذي امتاز بسياسة [ التفكيك والتركيب ] كما ذكرنا طبق سياسة “بناء الجسور” في تطوير علاقات أميركية أكثر إيجابية مع الاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة ، وساعد في التفاوض على اتفاقية الحد من الأسلحة الإستراتيجية (سالت1) مع الاتحاد السوفياتي، التي وقعت في عام 1972
كما أعاد كيسنجر الانفتاح الدبلوماسي الأميركي على بكين، ومهّد الطريق لزيارة ريتشارد نيكسون إلى بكين عام 1972
وبخصوص سوريا الاسد ، فلقد اعتبر كسينجر ان ما جرى فيها هو بمثابة حرب عالمية باردة ثالثة ، وفي مقابلة له ، اجرتها الصحفية البولندية نتاليا السكونوفيا من صحيفة ( نيوروركر ) الأميركية بهذا الشأن [ قال فيها : لقد اعتقدنا أن حافظ الأسد قد قضى على جميع الأغبياء في بلاده ولكن لحسن حظنا ما يزال هناك 3 مليون منهم .. هل تعتقدون أننا أقمنا الثورات في تونس وليبيا ومصر لعيون العرب ؟
يضحك ساخرًا ، بعدها يقول كل ذلك لأجل عيني إيران وسوريا ، لقد حاولت مع حافظ الأسد [ وأنا أعترف أنه الشخص الوحيد الذي هزمني وقهرني في حياتي كلها ]
- يتابع كيسنجر ، إن ثورة سوريا أصبحت ومنذ آب 2011 حرب باردة ، ولكنها ستسخن بعد عدة شهور هنا
وبرد منه على سؤال ، “من هم المتحاربون” ؟
-اجاب كيسنجر : الصين وروسيا والهند من جهة ومن جهة أخرى نحن وحلفاؤنا
- ولكن لماذا سوريا بالتحديد ؟
يجيب كسينجر : سوريا الآن مركز الاسلام المعتدل في العالم هو ذات الاسلام الذي كان على وشك الانتصار في حرب 73 لولا أخينا السادات ( ﻭﻟﻠﻌﻟﻢ ﺑﺎﻟﻤﺎﺳﻮﻧﻴﺔ كلمة ﺃﺧﻴﻨﺎ ﺗﻌﻨﻲ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﺎﺩﺍﺕ ﻣﺎﺳﻮﻧﻲ )
- ثم يتابع : وسوريا في نفس الوقت مركز المسيحية العالمية ولا بد من تدمير مئات البنى العمرانية المسيحية وتهجير المسيحيين منها وهنا لب الصراع مع موسكو فروسيا وأوروبا الشرقية تدين بالأرثوذوكسية وهي تابعة دينيًا لسوريا وهذا سر من أسرار روسيا وسوريا بالتالي ” فأخواننا العرب ” لو رشوا روسيا بكل نفطهم لن يستطيعوا فعل شيء
- الصحفية تقاطعه قائلة : هنا فهمنا وضع روسيا ، ماذا عن الصين والهند ؟
-أجابها كيسنجر [ أكيد أنك سمعت بـ ( هولاكو ) وكيف أنه احتل أكثر من نصف آسيا ولكنه هزم عند أبواب دمشق ، هنا الصين تفعل العكس فبلاد الشرق من المحيط الهادي حتى المتوسط مترابطة مع بعضها كأحجار الدومينو لقد حركنا أفغانستان فأثر ذلك على الصين فما بالك بسوريا ويمكن لك أن تلاحظي أن الصين والهند والباكستان دول متنافسه متناحرة فيما بينها ولكن من يرى مناقشات مجلس الأمن حول سوريا يظنها دولة واحدة بخطاباتها وتصرفات مندوبيها وإصرارهم على الترحيب بالجعفري أكثر من مرة رغم أنه مندوب سوريا الدائم وعدم مجرد تذكر وجود قطر أو العربي في الجلسة
- ما الحل مع سوريا إذن ؟
- ما من حل فإما ضرب سوريا بالصواريخ الذرية وهذا مستحيل لأن إسرائيل موجودة ..
- تقاطعه وتسأل : لما لم تحتلوا سوريا من قبل ؟
- فيجيب كيسنجر متهكمًا ، بسبب غباء نكسون ثم يضيف مستطرداً : ” أما الحل الآخر الوحيد هو إحراق سوريا من الداخل وهو ما يحدث الآن لقد قرأت ( والكلام لكسنجر ) عن سوريا كثيراً، سوريا فقيرة الموارد الأحفورية وفقيرة المياه لكن ما يثير استغرابي كيف استطاع السوريون بناء هذه البنية التحتية العملاقة بالمقارنة مع مواردهم، انظر إليهم الطبابة مجانية والتعليم شبه مجاني، مخزونهم من القمح يكفي 5 سنوات، ولكن أكثر ما أثار دهشتي تلاحم جيشهم، وما لدينا من معطيات عمن انشق أو هرب منه لا يزيد عن 1500 جندي من أصل 500 ألف، أنا لا أعرف كيف لهذا الشعب أن يكون موحداً وهو مكون من 40 عرق وطائفة[*انتهى]
كسينجر الذي استخدم من نظريته “التركيب” بعلاقته مع السوفيات ، نجد في تعليقه على الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة ، انه دعا إلى وقف الحرب وبدء التفاوض والعودة إلى حدود ما قبل فبراير/شباط 2022 ، ما اعتبره البعض قبولًا بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم
ولم يكن غريبًا هجوم بعض السياسيين الأوكرانيين عليه ، وتعليق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وفاته قائلا: “كان رجلاً حكيمًا وبعيد النظر”، ومُثنيًا على دوره في الوصول إلى سياسة الوِفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي
هذا ونعاه الرئيس الصيني “شي جينبينغ” في برقية إلى نظيره الأميركي ، واصفًا كيسنجر بأنه صديق طيب وقديم للشعب الصيني لدوره في فتح باب العلاقات بين بكين وواشنطن
ختامًا ، رحل الثعلب عن عمر يناهز المئة عام ، خلالها تلطخت ياه بالكثير من الدماء ، كيسنجر الذي كان معروف عنه بأنه “قارئًا نهمًا للتاريخ والفلسفة” سقط من حساباته ان التاريخ هذا سيذكر افعاله الإجرامية
لقد اعتمد كسينجر ، على السياقات التاريخية في تفسير أحداث الحاضر وقضاياه الكبرى وقراءة المستقبل عبر القياس والعبرة ، وهو يعتقد “أن الحاضر لا يكرر الماضي تمامًا ، ولكنه ينبغي أن يشبهه حتمًا ، وبالتالي يجب أن يكون المستقبل كذلك”
2023-12-02
تعليق واحد
رحل وكفنه ملطخ بدماء الابرياء.
هل يوجد مسؤول امريكي عبر التاريخ ومنذ تأسيس هذه الدولة الامبريالية يتسم بالاخلاق والانسانية ؟