رجلٌ في خفين من نار!
د. طنوس شلهوب
“رجلٌ في خفين من نار” هو العنوان الذي صاغته ايفلين حمدان زوجة الشهيد حسن حمدان (مهدي عامل) لتروي قصة رجل استثنائي في استيعاب الماركسية وابراز جانبها الخلاق في كشف الواقع الكولونيالي وصياغة رؤية ثورية وعلمية لمسار التحرر الوطني وكشف الجوهر الطبقي لهذا النضال من خلال تحليل جوانب الخلل في حركة التحرر الوطني العربية، وهو عمل على مواضيع متنوعة بروحية لينينية في ربط الممارسة بالنظرية.
والكلام عن الشهيد مهدي عامل وجدتُ فيه اهمية استثنائية في ظروفنا الحالية لفكرة عظيمة في تكثيفها بمقولة : لست مهزوماً ما دمت تقاوم. وهي الفكرة التي يرددها كثرٌ من “الشيوعيين” وغيرهم من دون بذل اي جهد لاستخدامها كمفتاح منهجي لقراءة مسار الصراع الراهن والمحتدم انطلاقاً من فلسطين.
وهذا الشعار العميق بدلالاته يعود لمرحلة عدوان العام ١٩٨٢ وخروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان والهيمنة عليه من قبل القوات المتعددة الجنسيات وتنصيب بشير الجميل ولاحقاً شقيقه امين في رئاسة الجمهورية والخطوات التي كان يُعمل عليها لتمرير اتفاق ١٧ ايار، وكل ذلك اتى على خلفية ابشع المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال وعملائها من الكتائبيين في مخيمي صبرا وشاتيلا.
شعر الوطنيون في تلك الفترة بغمامة سوداء في سماء وطنهم، وبدا وكأن لبنان دخل في العصر الاسرائيلي، وامتلأت مكبات النفايات بالأسلحة، وانطلقت عمليات ملاحقة الوطنيين من الاحزاب الوطنية وخطفهم من بيوتهم، وفي غمرة هذا الجو المتلبد والمظلم جاء اعلان اطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وصاغ حينها الشهيد مهدي عامل مقولته الشهيرة لست مهزوما ما دمت تقاوم.
الثوريون يسترشدون بتجارب التاريخ، والشعوب تنظم حركات المقاومة في ظروف الاحتلال العسكري، وفي كل تجارب التاريخ لم تتميز اي حركة مقاومة يوماً بالامكانيات العسكرية والتدميرية للجيوش المحتلة، وكانت حركات المقاومة تجذب اليها الناس الوطنيين والشجعان والمدركين لحجم الخطر الذي يضعون انفسهم فيه، و كانوا يتميزون عن باقي افراد المجتمع بالوعي لما يقومون به.
الامثلة كثيرة عن أسماء لمقاومين واجهوا الموت بشجاعة في حركات المقاومة ضد الاحتلال النازي لاوروبا، وكان النازيون ينكلون بالمدنيين ويحرقون القرى بسكانها ويقصفون المدن ويدمرونها على رؤوس اصحابها، ومع ازدياد توحش النازيين كانت يشتد عود حركات المقاومة ويزداد اصرارها على دحر النازية.
في الجزائر خاضت المقاومة مواجهة لا تقل شراسة ضد الاحتلال الفرنسي، وفي الفيتنام القت طائرات البي ٥٢ الاف اطنان النابالم واحرقت المدن والقرى والغابات وحقول الارز وابادت مئات الاف المدنيين العزل. في المقابل، لم يكن عند الفيتناميين القدرة على الرد بقصف المدن الاميركية والحاق الاذى بالمنشاءات الحيوية كما كان يفعل الاميركيون، ومع ذلك قاتل الفيتناميون بشجاعة واخلاص ووعي ونجحوا في اخر المطاف بتحرير بلدهم.
واللافت ان كثر من “اليساريين” يتباهون بتجارب النضال التحرري للشعوب الاخرى، ولكنهم لا بسترشدون بها عندما يتعلق الامر بالمقاومة في فلسطين ولبنان، وينجرون مع الحملات المعادية للمقاومة بمحاولة اثبات عقم المقاومة لان حجم الدمار والقتل والابادة والاجرام الذي تحققه اسرائيل يفوق بعشرات المرات الخسائر التي تلحقها المقاومة بالكيان الصهيوني.
الاهداف التي اعلنت عنها اسرائيل في بداية المواجهة رداً على احدى اعظم العمليات التي قامت بها المقاومة في طوفان الاقصى كانت جذرية ولا انصاف الحلول فيها: اقتلاع المقاومة من فلسطين ومن لبنان.
المقاومون لم يرفعوا في ساحات المواجهة العلم الابيض، وبالرغم من حجم التوحش الصهيوامبريالي، قاتلوا بشجاعة قل نظيرها، وفرضوا على العدو الذهاب الى عقد اتفاقات حافظوا فيها على روح المقاومة، ومنعوا تسييل انجازات العدو العسكرية في هزيمة سياسية مبرمة.
المعركة جولات، والقادم من الجولات سيكون أصعب في سياق تعزيز مشروع تفتيت المنطقة بعد اسقاط الدولة السورية، والتحضير لانجاز التطبيع السعودي مع الصهاينة. ومما لا شك فيه ان تحالف القوى المعادية للمقاومة وما يملكه من امكانيات إعلامية يحاول تضليل الوعي وزرع فكرة ان المقاومة قد هُزمت بنتيجة الخسائر والدمار الذي لحق بنا. وهنا تبرز اهمية مقولة الشهيد حسن حمدان: لست مهزوماً ما دمت تقاوم.
2025-02-03