حين سخر الدهماء السوريون من “كلسون” الأسد، وهللوا لعضو الشرع الذكري!
بقلم: وتد من قاسيون
في مطلع القرن الفائت اجتمع الأتراك والفرنسيون على مناهضة سياسة التعريب، ونهوض الوعي في العقل العربي بدأت الدعاية الممولة عملها، وشرعت الصحف التي تملّكها أبناء الذوات بالسخرية من المنهج الوليد. يقول الأديب والعلامة الكبير محمد كردعلي في مذكراته: “ويح المجمّع كم لقي من سخرية من بعض الصحف التي ما تعففت أن تغمزه بين الفينة والفينة كي تضحك قراءها.. وغفر الله لي بقدر ما دافعت عن المجمع في مصر والشام لتبرئته من التهمة التي ألصقوها به ظلماً، ونسبوا إليه وضع لفظ (الشاطر والمشطور والكامخ بينهما) لكلمة سندويش، وأعترف بأنني ما تمكنت من إقناع متعنّت لأن هذه الكلمة الملصقة بالمجمع هي عندهم من الأدلة على عدم معرفته، أو على الأقل على قلة ذوقه. وما زالت التهمة بحالها حتى شهدتها تتسلل من الصحف إلى الكتب، لتثبيت دعواهم على عدم اطلاع المجمع بما وُسّد إليه”. وحين سجّل وزير الحربية السورية البطل يوسف العظمة موقفه الاستشهادي المشرّف في التاريخ مع ثلة قليلة هرع الفرنسيون لإشاعة قصة “جر عربة غورو” من قبل الدمشقيين. ورغم أن في دمشق بالأمس – كما في دمشق اليوم – من هلَّل للمحتل والغازي وصافحه وانحنى عند حذائه، إلا أن من اخترع قصة «الشاطر والمشطور والكامخ بينهما» ونفخ بها لعشرات السنين معادياً للتعريب لجأ لاختراع تلك القصة الوهمية عن “عربة غورو” أيضاً، وركّز عليها لإلغاء رمزية المقاومة، والمفاعيل النفسية والأخلاقية والسياسية لمعركة ميسلون. إنه قوت الدهماء وماؤها. فالدهماء حاضرة في التاريخ منذ انقسمت روما في جمهوريتها الأولى عام 27 ق. م، حين سيطرت قلة من أولغارشية النبلاء على في روما بأكملها، واستبعد عوام الدهماء من المؤسسات الدينية، ثم مُنعوا – بل مَنعوا أنفسهم وعقولهم من الاطلاع على القوانين (حتى تلك التي تمسُّهم).
وكما دهماء روما، رقص السوريون على وقع السقوط، “كوّعوا” على الكوع التاريخي لوطنهم، بكوا وناحوا على خيانة لم يكونوا بعيدين عن ارتكابها، هلّلوا وفرحوا لنصر خاو من كل معنى، أدوا استكتشات التقفيل على كلسون بشار الأسد، تظارفوا وتطارفوا، واستعرضوا صنوف “الهضامة”، واشتروا 500 ألف علم أنتجتها المعامل التركية، ثم رفعوا صور الفاتح الجديد أحمد الشرع على وقع البث المباشر لقناة الجزيرة وتلفزيون “العربي”، وقناتي “الحدث” والعربية” عن مآسي صيدنايا، ووعود حكومة الإنقاذ بتحسين الرواتب.
فهل من مكان في عقول الدهماء للأسئلة الكبرى أمام الذات، وأمام سيل الأكاذيب الكبرى التي تم تصنيعها وتغليفها في غفلة من وعيهم، وغفلة من التاريخ؟
- هل خرج السوريون لتحسين الوضع الاقتصادي وقد كان الدولار يساوي 48 ل. س ليلة 15 آذار 2011 حين كان متوسط الحد الأدنى لراتب السوري 30 ألف ليرة سورية، مع دعم لا محدود لكل الخدمات الأخرى؟
- هل خرج السوريون لأجل “المعتقلين” وقد بدأت المعتقلات السورية بالخلو منهم (ما عدا المجرمين الجنائيين)، وتم إغلاق سجن المزة الشهير وسجون أخرى بأمر من بشار الأسد، في العقد الأول من حكم بشار الأسد كما تشهد مراكز البحوث القطرية نفسها عام 2007؟
- هل خرج السوريون لأجل تأمين لقمتهم وخبزهم، وقد كان القمح السوري يصدّر إلى العالم، بل يمنح مساعداتٍ للدول العربية المحتاجة، مصر والأردن واليمن. (اقرأ تقرير قناة “الجزيرة” المعنون: “سوريا تزود دولا عربية بالقمح من مخزوناتها الإستراتيجية” 23/8/2007)؟
- هل خرج السوريون لأجل الكهرباء، وقد كانت الكهرباء السورية 24/24 ساعة، ويتم تصدير الفائض منها عبر مشروع الربط العربي المشترك (اقرأ تقرير صحيفة “الاتحاد” الإماراتية المعنون: “سوريا تصدر كهرباء بقيمة 132 مليون دولار” 15/6/2008)؟
- هل خرج السوريون لأجل الكرامة، وقد كانوا مضرب المثل بها في كل مكان نزلوا له، أو عمل انخرطوا فيه خارج وطنهم؟
- هل خرج السوريون انتفاضاً لأجل طبابتهم، وقد كانوا مضرب المثل، وبقوا حتى في الحرب كذلك، في مجانية الصحة وجودة خدماتها (اكتشف وزير صحة الإنقاذ ماهر، شقيق أحمد الشرع (ويا لمصادفة الاسم) فجأة أن العقوبات تؤثر على قطاع الصحة، فطالب بإزالتها رغم أنه نفسه كان يسخر من ادعاءات النظام في ذلك)؟
- بل هل خرج السوريون لأجل شعور بالغبن الطائفي، وضد “التشيع”، واقتراباً من تركيا ذات الامتداد التاريخي في سورية، وقد كانت العلاقات مع الأتراك ونظام الأسد علاقة السمن بالعسل، وكان المكون التركماني القريب لتركيا مهيمناً على كل مفاصل المؤسسات والقيادة منذ حكومة العطري، وحتى أن السوريين من كل طوائفهم (والعلويون على رأسهم) كانوا يدخرون من رواتبهم ليقوموا بالسياحة في تركيا قبل الحرب؟
في سوريالية مشهد الدهماء السورية ما يثير شهية التاريخ للإقياء اليوم من هول الفجائعية، وحجم النفاق العلني، ومستوى رخص حفلات الكذب والتكاذب الصريح البواح، وصفاقة التحولات التي لم يشهد تاريخ البشرية حتى اليوم مستوى لإثارتها وسورياليتها:
- إرهابي دولي اسمه أحمد الشرع مطلوب بـ 10 مليون دولار أمريكي لمن يبلغ عنه. يصرّح الناطق باسم الخارجية الأمريكية بعد سقوط دمشق، أنه لا يزال مطلوباً بذات المبلغ، ثم بعد أيام يعلن البيت الأبيض عن إرسال وفد للقائه!
- يتحدث أحمد الشرع عن تحرير سورية، يقاتل ويجاهد ضد المدنيين في العراق، يجند عشرات الآلاف من السوريين والأجانب لتفجير المفخخات في المدارس والأحياء “النصيرية”، يغادر منزل أبيه البعثي إلى العراق، ثم يصول ويجول في الحرب “الطائفية” هناك تحت راية القاعدة، يحلق ذقنه فجأة، ثم يخلع عمامته وقناعه، ويتحالف مع تركيا وإسرائيل، ليسقط المدن السورية فتدين له ولتنظيماته. وحين يصل إلى أعتاب قريته “فيق” المحتلة من قبل الإسرائيليين، والتي نزح والده منها وغادرها عن 200 دونماً من الأرض تملكها العائلة يتوقف الجولاني، ويصير القط الأليف الذي يريد تقديم صكوك الطمأنة لتل أبيب عبر CNN وBBC، ويتحدث عن “سورية المتعبة من الحرب”. تتجول إسرائيل في بر وسماء سورية وكأنها في رحلة سياحية. تنقض على أشلاء الجيش المنهك والمهزوم على يد مشاة غولاني (حرب الغين مصرية هنا)، بينما السوريون يرقصون في ساحة الأمويين.
تتحدث “الدهماء” عن “هروب” بشار الأسد، وقد بقي حتى آخر اللحظات يقاتل، ويحاول أن ينفخ في شعبه روح المقاومة والعداء لإسرائيل رغم الخطر على حياته، والتهديدات الإسرائيلية بقتله. فهل تقر “الدهماء” بأنها تأسرلت حتى النخاع؟ تأسرلت في السر والعلن؟ تأسرلت حتى الفجور.
ماذا كانت الدهماء تريد من بشار الأسد؟ أن يبقى معهم لكي يحاصره الجولاني في مكتبه بقصر الشعب، ثم يحاكمه الإرهاب الدولي، ويعدمه الجولاني، ويبول على قبره وجثته وجثة عائلته جموع التركستان والأوزبك؟
هذا مشهد سورية قبل السقوط الكبير..
- في البيئة الساحلية المؤيدة كانت الأصوات ترتفع عند الجميع (يصالح إسرائيل ويخلّصنا)، وقد قاتل أبناؤها دفاعاً عن وجودهم، ثم أرادوا أثمان قتالهم في ذروة الحرب المتحولة، دون أن يعرفوا أن الآتي يسميهم “نصيريون” كفاراً.
- في السويداء اصطف أصحاب الشوارب العظيمة مع النظام وهلة بداية الحرب، ثم في وسط الحرب أرادوا “خصوصيتهم” وحيادهم كالعادة، وفي نهايتها انتهوا إلى مد يدهم لموفق طريف وأيوب قرة وسائر ليكود إسرائيل، وصارت العمالة مع الإسرائيلي على العلن. وهنا طبعاً يصر اللقاء مع من انتهك أعراضهم وفجّر فيهم وأبادوا قراهم تحصيل حاصل (هل يستطيع درزي واحد أن ينسى اعتراف جبهة الجولاني بإبادة قرية “عرق لوزة” الدرزية شمال سورية؟).
- في درعا يرفض “رجالها” الأشاوس التصالح مع نظام بلدهم وإيقاف الدم. صاروا يتسلون بقنص الجنود والضباط كما يتسلى الصيادون بقتل العصافير. حتى في المصالحات والتسويات تمسكوا بسلاحهم لأنه “عرف القبيلة”، و”زينة الرجال” كما يقولون). بعد سقوط النظام يهددهم الجيش الإسرائيلي المتوغل في قراهم إن لم يسلموا السلاح خلال 24 ساعة، فيهرع الميامين الأشاوس حاملين بنادقهم وصناديق الذخائر لتكويمها أمام عيون الجنود الإسرائيليين، ويولومون للجيش الإسرائيلي طعام الغداء.
- في الشمال الشرقي تتحالف “قسد” مع تل أبيب، ترسل وتستقبل الوفود لبناء حلف مع “أولاد العم” على غرار أشقائهم في أربيل.. تتحالف مع عشائر تنقل بنادقها وتغير ولاءتها كما تغير النساء. ترفض “قسد” أي حوار مع النظام. وحين يصير التهديد وجودياً من أردوغان وتنظيماته يتباكى المقاتلون الأشاوس على فرصة فاتت، ويهرعون إلى نداء جبل قنديل، والاستقواء بتل أبيب مجدداً.
- في إدلب، تتحصن جحافل الإرهاب الدولي تحت إمرة الجولاني تحضيراً للهجوم الكبير، وبتفاهمات معلنة مع إسرائيل، وصلت حد إدانة طوفان الأقصى العلنية من الحزب الإسلامي التركستاني، أهم الألوية المشاركة في عملية “رد العدوان”. وفي إدلب ذاتها تسكب نطاف الأوزبك والشيشان في أرحام النساء لأربع عشر عاماً، فيكبر جيل من الحقد والتطرف لا يطيق دولته وخياراتها.
- وفي حلب، “يفيّش” صناعيوها أبناءهم من الجيش، يناولون الضباط رشى من المال وصابون الغار والزعتر الحلبي، بينما يتفرغون هم للقدود والكبّة النيئة، ورفع صور الجيش البطل وتمجيده، ثم حين تسقط حلب يبكون على المدينة كالنساء، ويتحدثون عن الفساد والتخلي والخيانة.
- أما في دمشق، فهي كعادة مدينة التجارة الأزلية، فمٌ يتغزل بإرث ميسلون وبطولات باب الحارة الخلبيّة، وفعلٌ يجر عربة أردوغان وحاقان فيدان.
ليس بشار الأسد نبياً طبعاً، لكن لم يكن صعباً عليه أن يتطهّر من كل ما يرمى به اليوم من قناة “الجزيرة” وإعلام الثورة ومنظمات توثيق الانتهاكات الدولية الممولة من CIA، ويغدو نبي سورية القادم. ومن استطاع غسل وتوضيب الجولاني من تاريخ قريب غارق بالدم والإجرام والتنكيل والفظائع، لن يعدم وسيلة لفعل ذلك مع رئيس دولة قادر على تقديم تنازلات أهم من تنازلات الجولاني. صارت السخرية من “كلسون” الأسد مادة السوريين، لكن لم يسخر سوري واحد من عورة الجولاني وقد بدت فاضحة عارية بعد أن خلع حتى كلسونه، وتجرّد حتى من ورقة التوت الأخيرة أمام إسرائيل.
دأبُ الدهماء أن تقتات على الكذب والخداع الذي يجعلها تفرح لخصائها وتخليها، ثم تبحث عن شماعة (اسمها هنا بشار الأسد). لقد ضرب سرطان الأسرلة – وليس الإرهاب- سورية منذ عام 2011. امتد وتغوّل في الجسد بدعم 110 دولة تتحدث اليوم عن مآزق سورية ومعاناة شعبها. كان مستحيلاً أن تبقى سورية وحدها في وجه الأسرلة العربية والتركية. كافح بشار الأسد في بيئة لم تُجمع عليه، ولم تجتمع على خياراته ضد إسرائيل.. صار غريباً غربة صالح في ثمود، وعرف أنه لم يعد مقبولاً عند شعبه من أقصاه إلى أقصاه. لم يعد خطابه الذي سيبقى آخر ما سيذكره التاريخ به في قمة الرياض خطاب السوريين. وحين يصير الإرهاب حكومة “إنقاذ”، وتصبح الأسرلة خلاصاً، وحين يغدو الحديث عن سرطان تفشّى في الجسد، ومناعة داخلية منهارة حتى لا يمكن استئصاله فإن أقصى ما يمكن للطبيب أن يفعله هو الحديث عن “معدّل بقيا”، وأعوام حياة قليلة لا يمكن أن تفضي إلى النجاة والشفاء. أقصى ما يمكن فعله أمام سرطان الأسرلة هو إبقاء الجسد حياً 14 عاماً من المعاناة والتعب والمرض والسموم.. وقد فعل.
2025-01-13