#جيوسياسية/ حين تتغير الحسابات: تركيا تربح بسوريا… والإعلام العربي يغضّ البصر عن الشارع التركي!
إدريس آيات
في نهاية الأسبوع المنصرم، وبينما كانت أعين المنطقة مشدودة إلى الجبهات المفتوحة من غزة إلى صنعاء، جرى اتصالٌ هادئ لكنه بالغ الدلالة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان. لم يُطل ترامب كثيرًا، لكنه قال ما يكفي: “نثق بتركيا في إدارة الملف السوري”. عبارة واحدة كانت كفيلة بأن تنقل مفاتيح دمشق، أو ما تبقى منها، إلى أنقرة. منذ تلك اللحظة، علمنا أن واشنطن قد اختارت وكيلها الجديد في سورية الجديدة، لا بوصفه حليفًا فقط، بل كضامنٍ بأن تبقى دمشق في الفلك الغربي – الناتو تحديدًا – لا في معسكر الثورة المضادة الذي يتربص بها من طهران إلى بيروت.
اليوم، رويترز جاءت بالخبر الذي كنّا نترقبه: الحكومة السورية المؤقتة سلّمت تدمر، قلب البادية، لأنقرة. بل إنّ تركيا بدأت ببناء قاعدة عسكرية دائمة هناك، بحجم قاعدة رامشتاين الأميركية في ألمانيا، وأبلغت الأمم المتحدة أن أي هجوم على القاعدة التركية سيُقابل بالقوة. ما يجري ليس مجرد توزيع نفوذ، بل تثبيت خريطة “ما بعد الأسد” بلغة الناتو.
▪️قاعدة تدمر لتركيا… وإعلام خصوم أردوغان يلوذ بالصمت
لكن ثمّة أمرٌ آخر لا يقل أهمية: لماذا لم تغطِّ وسائل الإعلام العربية، لا سيما الخليجية، مظاهرات إسطنبول الغاضبة ضد أردوغان بعد عزل أكرم إمام أوغلو؟ لماذا اختفت نبرة التحريض التي كانت تُرافق كل حراك سابق في تركيا، حين كان أردوغان يُوصَف بالديكتاتور الذي يخنق العلمانية والديمقراطية؟ قناة العربية غطت الحدث كأنه عارض صحي، والحدث ذكرت ما جرى بلا انفعالها المُعتاد، وسكاي نيوز اكتفت بالملاحظة، بينما القنوات الإماراتية والسعودية ذكرت المظاهرات كتغطية عادية لأزمة عابرة. حتى الإعلام المصري، المعروف بخصومه القديم لأردوغان، لم يرفع سقف التغطية.
السبب؟ الجواب ظهر بعد ساعات من إعلان قاعدة تدمر. تركيا باتت الضامن الوحيد لبقاء “سوريا ما بعد الأسد” في الحضن العربي. فواشنطن لا تريد أن ترى دمشق تسقط بيد حلفاء طهران من جديد، ولا تملك أدوات الردع إلا عبر أنقرة. وطهران بدورها في لحظة احتقان، تهدد وتتوعد إذا تمّ استهداف منشآتها النووية. معركة عضّ الأصابع على وشك الانفجار، في وقت تتعرض فيه قواعد أميركا لضربات حوثية، وحزب الله على حدود لبنان، وقادة حلفاء إيران يُصابون في دمشق وفي صنعاء. فهل يمكن، في هذا التوقيت الحرج، أن يُسمح بزعزعة الداخل التركي، الذي يراد له الاستقرار كي ضمن سوريا لأمريكا ودول الخليج الخصمة لإيران؟ بالطبع لا.
ثم لا ننسى أن تركيا هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط القادرة على ملء الفراغ الأميركي المؤقت في سوريا. وواشنطن تعرف أن دمشق، إذا تُركت وحدها، ستعود إلى الحضن الإيراني أو يزعزع استقرارها كي لا تهنأ بالهدوء، بينما الصف العربي لا يريد أن تدخل في نزاع يُغيظ إيران، ويفضّل أن يترك هذا الدور لتركيا.
لذلك تراجعت حملة الهجوم الإعلامية ضد أردوغان، ولو مؤقتًا. اختفى الصوت العالي، وهدأت نغمة “الديكتاتور العثماني”. لأنّ ميزان القوى الآن لا يحتمل نَفَسًا قصيرًا، فضلًا عن سقوط دولة بحجم تركيا في فوضى داخلية ( وإن كنت لا أرى خطرًا حقيقيًا من وراء المظاهرات الراهنة على حكم أردوغان). راهنًا؛ المصالح تفرض صمتًا إعلاميًا، وهدوءًا سياسيًا، ولو لحين.
ما نراه اليوم هو نتيجة حتمية للعبة شطرنج كبرى: سوريا أصبحت بندًا على طاولة الناتو، ومفتاح الاستقرار في يد أنقرة. أما طهران، فعينها على دمشق، صنعاء، والعراق، ومضيق هرمز، وخياراتها تزداد ضيقًا. وفي قلب هذه الدوامة، تتراجع الأصوات التي كانت تصرخ “يسقط أردوغان” بالأمس، لتصبح اليوم همسًا حذرًا في أروقة الإعلام. لأن الحسابات، ببساطة، تغيّرت.
▪️ ماذا عن انتهاكات إسرائيل المتكررة في سوريا؟
السؤال المسكوت عنه في هذا المشهد المضطرب: هل تركيا بصدد مواجهةٍ مباشرة مع إسرائيل في سوريا؟ خاصةً وأنّ يد تل أبيب لم تتوقّف عن العبث في خاصرة الشام، وكان آخرها الغارة التي طالت تدمر، قبيل ساعات فقط من إعلان تركيا تموضعها العسكري هناك.
جميع السيناريوهات مفتوحة، والميدان مرشح لتقاطع نارٍ لا مفرّ منه، لكن كيف سيتقاطع الطرفان؟ أهو صدامٌ مباشر؟ أم تفاهمٌ خلف الأبواب؟ أم تنازلات متبادلة تحت الطاولة؟ لا أحد يملك الإجابة بعد، ولا يبدو أن هذا الجدل سيُحسم قريبًا. كل ما نعرفه أنّ الشام، منذ أن تحوّلت إلى ساحة للخصوم، لا تمنح أحدًا نصرًا مجانيًا، ولا تترك حسابًا من دون تسوية مؤجلة
2025-03-25