حكاية صعود وسقوط جيس ستيلي:
عن تلازم النخب والفساد
يتكشف سقوط جيس ستيلي، الرئيس التنفيذي السابق لبنك باركليز، كفصل جديد في حكاية “تعفّن النخب”. فبعد سنوات من التحقيقات حول علاقته بقواد شبكة القاصرات جيفري إبستين كُشف عن دور أيادي النفوذ المرتبطة بأجهزة الاستخبارات في دعم صعوده إلى قمة البنك، ولاحقاً محاولة حماية أسراره.
سعيد محمد*
أصدرت المحكمة العليا للطعون المالية في المملكة المتحدة حكمها النهائي برفض طلب الاستئناف المقدم من الأميركي جيس ستيلي الرئيس التنفيذي السابق لبنك باركليز – ثاني أكبر بنك بريطاني بأصول تتجاوز 2 ترليون دولار -، مؤكدة قرار هيئة النزاهة المالية (FCA) بحظره الدائم من تولي أي منصب إداري رفيع في القطاع المالي.
الحكم النهائي جاء بعد سنوات من التحقيقات، بدأت منذ عام 2019 حين أُعيد تسليط الضوء على العلاقة الشخصية الوثيقة بين ستيلي والملياردير المدان بالاتجار الجنسي بالقاصرات، جيفري إبستين. إذ رغم تأكيد ستيلي مراراً على أن علاقته بإبستين كانت “مهنية فحسب”، أثبتت التحقيقات – بما في ذلك مراجعة أكثر من 1200 رسالة إلكترونية متبادلة بين الاثنين – خلاف ذلك، لتخلص هيئة النزاهة إلى أن ستيلي ضلّل عن عمد كل من الهيئة التنظيمية والمستثمرين والجمهور بشأن طبيعة العلاقة.
لم تكن القضية أخلاقية فقط، بل تنظيمية ومالية أيضاً، إذ تسبب التضليل في خسائر فادحة للمساهمين بعد انهيار ثقة السوق بأسهم باركليز. وقد قُدّرت الغرامة على ستيلي في البداية بـ1.8 مليون جنيه إسترليني، ثم خُفضت لاحقاً إلى 1.1 مليون نظرًا لخسارته مكافآت مالية وأسهماً مؤجلة تجاوزت 18 مليون جنيه.
على أن قضية ستيلي تتجاوز حكاية سقوط مصرفي مرموق آخر، لتكشف عن أطراف من شبكة خفية تُدير الرأسمالية العالمية من وراء الستار. فمن ضمن شهادات المحكمة ووثائق الدعوى الأميركية المقامة ضد باركليز وستيلي، تكشّف أن إبستين قاد حملة سرية في عام 2012 بعنوان “المشروع: جيس” لتنصيب ستيلي رئيساً تنفيذياً لـباركليز. الحملة استهدفت شخصيات نافذة في السياسة البريطانية مثل المستشار السابق جورج أوزبورن، وحاكم بنك إنجلترا حينها ميرفين كينغ.
ما كان لإبستين أن يمتلك هذا النفوذ لولا موقعه كـوسيط استخباري ذي ارتباطات بالموساد الإسرائيلي – متخصص بالابتزاز ضمن شبكة عريضة، وهو ما أكدته الباحثة والصحفية الاستقصائية ويتني ويب في كتابها المرجعيّ One Nation Under Blackmail . ووفقاً لويب، فإن إبستين لم يكن مجرد قواد وتاجر جنسي منحرف، بل جزءاً من منظومة بدأت منذ الحرب العالمية الثانية بدمج شبكات الجريمة المنظمة مع الاستخبارات الغربية – منظومة هدفها السيطرة على النخبة من خلال الابتزاز الجنسي، والتجنيد المالي، والتواطؤ السياسي، أو ما تسميه ويب “تعفّن النخب”.
ما يُميّز شبكة إبستين – بحسب ويب دائماً – هو اعتمادها على آليات مبتكرة في الابتزاز وترويض النخبة. لقد وفّر إبستين بيئة آمنة لجذب المسؤولين الماليين والسياسيين ورجال الأعمال والفنانين إلى حفلات مشبوهة على جزيرته الخاصة، حيث يتم تصويرهم مع قاصرات أو في أوضاع مُخزية. تُستخدم هذه المواد لاحقاً كوسائل ضغط لتعزيز النفوذ، أو تعيين المحاسيب، أو تمرير قرارات مالية/سياسية ذات أثر بالغ. وكان واضحاً أن الشبكة مُصمّمة لحماية الفاسدين طالما أنهم جزء من اللعبة.
ستيلي كان واحداً من هؤلاء. وبحسب الوثائق، فإن إبستين لم يتوسط لتعيينه فحسب، بل ظلّ على اتصال به حتى بعد توليه المنصب، عبر رسائل مباشرة أو عبر ابنة ستيلي نفسه. بعض هذه الرسائل كان طابعه جنسياً بشكل صادم، مع إشارات إلى شخصيات كرتونية مثل “سنو وايت” و”الجميلة والوحش”، في سياقات ذات دلالات موحية.
لم تتوقف الفضيحة عند حدود المملكة المتحدة. فقد فُتح في الولايات المتحدة أيضًا ملف دعوى جماعية رفعتها صناديق التقاعد في نيويورك وميسوري، تكشف عن نمط متكرر من التحريف والتضليل المتعمد من قبل باركليز ورئيسه نايجل هيغينز، بهدف حماية سمعة البنك وسعر أسهمه. لقد وصل التضليل إلى حد الادعاء بأن ستيلي “لم يكن لديه علاقة وثيقة” بإبستين، وأن آخر اتصال بينهما كان “قبل وقت طويل” من انضمامه إلى باركليز في عام 2015.
تفاصيل الدعوى تشير إلى أن باركليز قد تلقى تحذيرات واضحة من الهيئة البريطانية في أكتوبر 2019 بشأن التحقيق في تورط ستيلي، لكن البنك واصل التقليل من شأن الأمر أمام الجمهور والأسواق المالية. وبعد إعلان الحظر الرسمي على ستيلي في 2023، انخفضت القيمة السوقية لأسهم باركليز، متسببة بخسائر فادحة للمستثمرين بالبنك، الذين اختاروا اللجوء إلى القضاء لأنصافهم من تحايل الإدارة الذي يُعتبر، وفقًا للمادة 10(b) من قانون الأوراق المالية الأميركي، جريمة مالية كاملة الأركان.
قضية ستيلي خطيرة من هذا المنطلق ليس لأنها تتعلق بالسقوط الفردي لشخصيّة بارزة، بل بالقدر الذي كشفته من تقاطع بنيوي بين المال والسياسة والاستخبارات وتجارة الجنس. فالقضية، رغم كل ما يمثله الرّجل رمزياً، ليست سوى قمة جبل جليد في سلسلة طويلة من فضائح النخبة المتكررة، من أوراق بنما إلى ملفات إبستين وما بينهما، وكلها تشير إلى دولة عميقة داخل الدولة (الديمقراطية)، قوامها المال والفساد والسرية وتجنب المحاسبة.
إن قصة صعود ستيلي وسقوطه علامة على منظومة متكاملة من التواطؤات من نخب الأثرياء المحصّنة بالسرية، والمحاطة بالحماية الاستخباراتية، فلا تخشى القانون، وتُعامل العالم كأرض للنزوات، منظومة كان يُتّهم من يلتقط رأس خيط عنها بالهرطقة، واعتناق نظريات المؤامرة. ولذلك فإن احتراق أوراق ستيلي لا يعني أن ليس هناك ألف ألف ستيلي يعاد تدويرهم في المناصب المرموقة سياسية كانت أو اقتصاديّة أو حتى ثقافية عبر العالم، ويتم ابتزازهم – عند الحاجة – بأحقر هفواتهم من قبل الموساد أو المخابرات الأمريكية وغيرها.
– لندن
2025-07-04