حدث عاش كل مفاصل حياتي… وصحوت فوجدته سرابًا!
بقلم: البروفيسور وليد الحيالي
ثمة أحداث في حياتنا لا تأتي لتُقال، بل لتُعاش. تقتحمنا بصمتٍ ثقيل، وتربك يقيننا كما لو أنها أزلية الحضور. كان ذلك الحدث، في ليلٍ موارب بين الصحو والحلم، أشبه ما يكون بقدرٍ تجسّد على هيئة بشرٍ أو فكرةٍ أو لحظة… لم أعد أميز.
شعرتُ يومها أنني لم أعش قبله شيئًا حقيقيًّا. كان يسكن كل مفصل من مفاصلي، كل زاوية من ذاكرتي، حتى أوهمني أنني أنا لم أكن إلا وعاءً له، وأن كل ما قبله كان محض انتظار.
لكنه، كما هي طبائع الظلال، لم يكن ثابتًا. الظلال دائمًا تغرينا بالركض وراءها، ونحن ننسى أنها تحتاج إلى نورٍ لتوجد، وأن النور وحده كفيل بأن يمحوها. كنت ألاحقه كما يلاحق العطشان سراب الماء في الصحراء، غافلًا عن أن الصحراء لا تنجب ماءً، وإنما أشكالًا بصرية من خيالاتنا نحن.
وحين أتى الصحو، لم يطرق الباب. لم يعتذر. جاء كغفوة قصيرة أفاقتني على العراء. كان كل شيء كما هو في الخارج: السماء ذاتها، الليل ذاته، والنجوم تتلألأ وكأن شيئًا لم يحدث. لكن داخلي لم يعد كما كان. كنت أفتش عن بقايا ما كنت أظنه حقيقة، فلم أجد إلا رمالًا تتطاير مع نسيم الفجر.
حينها فقط أدركت أن الأحداث التي تلامس أعماقنا بعمقٍ مبالغ فيه، ربما لا تنتمي إلى الواقع بقدر ما تنتمي إلى حاجتنا نحن. حاجتنا إلى الامتلاء، إلى أن نشعر أن الحياة تعنينا. حاجتنا إلى أن نصدّق أن هناك ما يستحق أن نعلّق عليه قلوبنا، حتى لو كان وهماً.
تأملت الأمر طويلًا. وجدت أن الوهم لا يقل قيمة عن الحقيقة، لأنه في لحظةٍ ما، كان هو الحقيقة الوحيدة التي نمتلكها. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يعيش عمره كله عالقًا بين الانعكاسات. فالوعي بالسراب هو بذرة الحكمة.
لقد مضى ذلك الحدث، وانطفأ أثره. لكنه ترك في داخلي سؤالاً لم يغادرني بعد: ما الذي يجعلنا نخلط بين ما نراه وما هو موجود؟ بين ما نحتاج أن نصدقه وما هو جدير بالتصديق؟ ربما لأننا في نهاية المطاف كائنات من رغبةٍ وهشاشة.
الآن، وأنا أكتب، أبتسم في سرّي. لا ضير أن نحب أوهامنا قليلاً، لكن الأهم أن لا نذوب فيها. فالإنسان الذي يصحو من وهمٍ جميل لا يعود كما كان؛ يصير أكثر حكمة… وأقل قابلية للخداع.
ومع ذلك، كلما أغمضت عيني في ليلٍ طويل، يتسلل إلى ذاكرتي صوته، ظلّه، بريقه العابر. كأن شيئًا مني ما زال يقيم هناك، في تلك اللحظة التي عشتها بكل جوارحي. نعم، كان سرابًا، لكنه علّمني أن للحلم ثمنًا، ولليقظة نورًا. أحتفظ به في داخلي — كذكرى، كدرس، كنبضٍ قديم — وأمضي. لا أنسى… ولا أعود كما كنت
2025-07-04