حدث ذات يوم في بيروت!
محمد ديتو
محمود درويش وحصار بيروت 1982
المكان: بيروت. الزمن: مطلع أغسطس ١٩٨٢.. من على سطح فندق الكسندر في بيروت الشرقية، كان الجنرال شارون يراقب بالمنظار موقع الهجوم الذي ستشنّه قواته قريباً على بيروت الغربية. كل شيء تمّ الإعداد له بشكل جيد – حسب اعتقاده -، حيث تم توزيع الأدوار بين القصف البحري والجوي والبري تمهيداً لدخول القوات البرية عبر منطقة المتحف. من أجل ضمان التعتيم التام على جريمتهم لحظة اقتحام بيروت، أصدر الجيش الإسرائيلي تعليماته: ممنوع منعاً باتاً اصدار الصحف اليومية.
صحيفة واحدة رفضت الانصياع لتلك التعليمات: “السفير”. مع ساعات الصباح الأولى من يوم الخميس ٥ أغسطس كانت الأيادي تتناوب تصفح عدد الجريدة الصادر تحت عنوان: “بيروت تحترق ولا ترفع الأعلام البيضاء…”. نشاهد في الصفحة الأولى رسم ناجي العلي الشهير (“حنظلة” يهدي وردة إلى فتاة تطلّ عليه من الفجوة التي أحدثتها القذيفة بالجدار، ويقول لها “صباح الخير يا بيروت”). نقرأ أيضاً وقائع ما حدث في اليوم المنصرم: “بيروت – 4 آب(أغسطس) ١٩٨٢، هذا يوم تاريخي جديد في تاريخ العاصمة للبنانية …..مئات البنايات دُمرّت، آلاف المنازل السكنية اشتعلت بالقنابل الفوسفورية أو الانشطارية، ٥٠٠ ألف مدني أمضوا يوماً وليلتين في الملاجئ المظلمة من دون كهرباء ولا ماء، أكثر من ٣٠٠ قتيل وجريح…إلا أن بيروت، رغم ذلك كله، لم تحن رأسها وصمدت في وجه قوات الغزو الإسرائيلية كما لم تصمد مدينة في التاريخ بعد ستالينغراد وهانوي.” كشفت “السفير” فشل المحاولات الإسرائيلية لاقتحام بيروت الغربية، وإجبارها على التراجع فيما عرف لاحقاً بمعركة المتحف الشهيرة. كما حددت الصحيفة أبرز المواقع التي طالها القصف الذي “بدأ يتسع في الثالثة فجراً ليشمل المخيمات الفلسطينية وأحياء الطريق الجديدة والمزرعة وبربور ورأس النبع وصولاً إلى فردان والحمراء وعين المريسة”.
في عين المريسة، و في شقة تقع بالطابق الثامن من إحدى العمارات ذات الواجهة الزجاجية المطلة على البحر، صحا محمود درويش مذعوراً من نومه: “الساعة الثالثة….كابوس يأتي من البحر.دخان.. حديد يعوي فينبح له حديد آخر”، حسب وصفه لقصف البوارج الحربية الإسرائيلية. ” استمرّ القصف حتى السادسة فجراً حين تدخل الطيران في أطول غارة (١٢ ساعة متواصلة) …كل ما تمخض عنه الخيال البشري من إبداعات الشر الخارقة، وما بلغته التكنولوجيا من تقدّم، يجري امتحان فاعليتها في أجسادنا اليوم. أيكون هذا اليوم أطول يوم في التاريخ؟”.
في السابعة صباحاً خرج إلى الشارع ليشهد آثار الدمار: “أمشي على مهل…أسير بلا هدف كأنني أتعرف على هذه الشوارع للمرة الأولى، وكأنني أسير عليها للمرة الأخيرة…” شاهد المقاتلين خلف المتاريس: “وقفت هناك، على الطرف الثاني من الشارع…يوم كور اللحم البشري عضلة الروح وصاح: لن يمروا!”. غمره شعور بالحب اللامحدود تجاههم ”لتنبت أسمائكم حبقاً وريحاناً على سهل يمتد من خطاكم….أيها المشرقون فينا أقماراً ….وحدكم ! تحمون سلامة هذا الساحل من اختلاط المعاني”.
لمحت عيناه فدائياً يبتسم لأحد رفاقه. كان شاباً وسيماً، ذكره بابن عمه سمير درويش الذي استشهد قبل بضعة أيام: “لأنني أعرف “سمير” منذ الطفولة، لم أذهب إلى غيبوبته في المستشفى. لقد بترت ساقيه وذراعيه، بقرت بطنه وسملت عينيه، عندما كان يخلي المصابين في ميدان المدينة الرياضية. ماذا تبقى منه؟.” استحضر درويش حكاية سمير وكيف أصبح فدائياً وألقي القبض عليه وحوكم في إسرائيل بثلاث أحكام مؤبدة، ليطلق سراحه لاحقاً في صفقة تبادل أسرى. وتذكّر لقائهما معا: “قال لي سمير حين التقيته بعد عشرين عاما في دمشق: أهذا هو الوضع؟ ليس من أجل هذا دخلت (يقصد السجن)، وليس من أجل هذا خرجت (يقصد الخروج من اسرائيل). كان شديد الخيبة من المؤسسة (يقصد منظمة التحرير الفلسطينية) وشديد الالتحام بها.” محمود درويش يقارب هنا جانباً حساساً من المعضلة الوجدانية التي عاشها العديد من المناضلين آنذاك (والآن)، الذين وإن خابت توقعاتهم من التنظيمات التي عملوا في ظلها، إلا أنهم واصلوا نضالهم والتزامهم السياسي معها.
في الحادية عشر ظهراً سيشهد قصفاً وحشيّاَ، أعطاه الوصف التالي: “الساعة الحادية عشرة، وعشرين ألف قذيفة، وثلاثين ثانية.” درويش يدمج توقيت القصف، بعدد القذائف، بالمدة التي استغرقها القصف. وصف يربك القارئ بجمالية اللغة وهي تكثف وحشية القصف.
يمشى في الشوارع، متجهاً ناحية الروشة، حيث تقع مكاتب الجريدة. تلتقط إذناه صوتاً غريباً: “صوت يشذّ عن الأصوات المألوفة.. مختلف وبعيد. صوت يسرق المكان ويهرول”. انفجار سيارة مفخخة قرب بناية. يشاهد رجال الإسعاف المدني، وهم “يحاولون انقاذ اللحم البشري المعجون بالحديد والأسمنت والزجاج”. يتجمد في مكانه “لا أستطيع أن أنصرف ولا أستطيع أن أخمد إحساس العجز”. انهارت البناية التي كانت تأوي مكتبه.
خرج من الشارع باتجاه صخرة الروشة الشهيرة. وقف مهموماً وهو يحدق بعيداً باتجاه موجة بحر: “موجة من بحر، كنت أتابعها من هذه الشرفة، وهي تنكسر على صخرة الروشة الشهيرة بانتحار العشاق….موجة من بحر تحمل بعض الرسائل الأخيرة، وتعود إلى الشمال الغربي الأزرق، والجنوب الغربي اللازوردي، ترجع إلى شواطئها وقد طرزت انكساراتها بالقطن الأبيض. موجة من بحر أعرفها، ألاحقها بالشجن، وأراها وهي تتعب قبل بلوغ حيفا، أو الأندلس. تتعب فترتاح على شواطئ جزيرة قبرص. موجة من بحر، لن تكون أنا، وأنا، لن أكون موجة من بحر.”
قطع حبل تأملاته صوت غريب “صوت لا نعرفه من قبل. خفيض، بعيد، عميق، سري، كأنه صاعد من جوف الأرض، كأنه صوت القيامة المهيب.! ” .. كان صوت انفجار القنبلة الفراغية التي تمّ استخدامها لأول مرة آنذاك، وخلفت أكثر من ٣٥٠ شهيد في منطقة “حديقة الصنايع” ببيروت. كتب درويش عن تلك القنبلة: ” تحفر تحت الهدف فراغاً هائلاً يجرد الهدف من قاعدة يجلس عليها، فيمتصه الفراغ ويحوّله إلى مقبرة مدفونة، بلا تعديل ولا تغيير. وهناك، تحت، في الحيز الجديد، يواصل الشكل الاحتفاظ بشكله. ويواصل سكان البناية الاحتفاظ بهيئاتهم السابقة، وبآخر أشكال حركتهم المختنقة. هناك، تحت، تحت ما كان تحتهم قبل ثانية، يتحولون إلى منحوتات من لحم، ولكن لا حياة فيه حتى للوداع. فمن كان نائماً يظل نائماً. ومن كان يحمل طبق القهوة يظل حاملاً طبق القهوة.” (علم لاحقا بأن تلك القنبلة الفراغية كانت تستهدف القائد ياسر عرفات الذي غادر البناية قبل انفجارها.)
يذهب الى فندق “الكافاليه” بعد أن نصحه أصدقائه بمغادرة شقته الغير آمنة. يجلس مرهقاً في ركن قصي لوحده. تقاذفته أفكار وخواطر غير مترابطة، انهالت عليه بلا ترتيب: فكر بشماتة البعض من حصار المقاومة، وتذكّر موقف جارته المتشنجة والمعادية للفلسطينيين، “كانت في داخلها التربوي المعادي لما هو خارج طائفتها تحتفل بالخدمة المجانية التي يقدمها الإسرائيليون!”. ولكنه على الرغم من ذلك لم يكنّ لها العداء “بل بالإحساس بالشفقة على ما قطعته من أشواط الوهم ورفض “الآخر”. انتابه الاستياء وهو يستمع الى نشرة الأخبار “أصوات فصيحة تصف الموت كما تصف الأحوال الجوية”. فكّر في سلوك الناس خلال الأزمات وكيف يتحول “الصمت، صمت المتفرجين، إلى ملل” ولاحظ بسخرية وألم كيف أن “البطولة أيضا تدعو إلى الضجر عندما يطول المشهد فتخفّ النشوة.”
الساعة الخامسة بعد الظهر يلتقي صديقيه فواز طرابلسي والشاعر العراقي سعدي يوسف. درويش يتأمل في مصير النادل الباكستاني الذي يخدمهم في البهو: “ما الذي جاء به إلى هذه المدينة من آسيا البعيدة؟ كان يطارد الرغيف فاصطاده الرغيف في هذا الحصار. استدرجه الرغيف من لاهور …رغيف الخبز الذي يقتله في حرب لا شأن له فيها.”
ودّع أصدقائه، وخرج إلى الشوارع مرة أخرى. تأمل في مفارقات أيام الحصار، وكيف تسابقت إذاعات القوى اللبنانية المتحاربة آنذاك على إذاعة أغاني فيروز، وخاصة اغنيتها الشهيرة “بحبك يالبنان”. لاحظ أن صوت فيروز هو “الأثر الوحيد على وطن مشترك… وطن يرتفع على حنجرة تطلّ علينا من السماء، حنجرة وحيدة توحد ما لا يتوحد، وتؤلف ما لا يتآلف”، لكنه لاحظ بمرارة أيضاً كيف أن “أحبك يالبنان، إعلان لا تصفق له بيروت المشغولة بشوارعها المقصوفة، المكثفة في ثلاثة شوارع”. أسرع الخطى وهو يعبر الشارع وعقله مشوش بالحيرة: “لم نفهم لبنان أبداً…ولن نفهم لبنان إلى الأبد.” وتساءل مع نفسه: “ألأن لبنان هو هكذا، يستعصي على الدراسة والإدراك؟ … لا أتورط بمحاولة الإجابة، بقدر ما أزج بنفسي في حيرة.. ولا أريد جواباً صحيحاً، بقدر ما أريد سؤالاً صحيحاً.”
مع اقتراب الغروب، وصل إلى شقته ليلمّ حاجاته وهو في قعر اليأس والاكتئاب: “لا أحبّ أحداً ولا أكره أحداً ولا أريد أحداً ولا أحسّ بشيء أو أحد. لا ماضٍ لي ولا مستقبل. لا جذور ولا فروع. وحيد كتلك الشجرة المهجورة في العاصمة الكبرى على سهل مفتوح”. أسدل الظلام ستارته على بيروت، ودرويش يتأمل في حياته: “دارت بي حياتي دورات حادة. لا أستطيع أن أواصل هذا التقاطع في الزمن.. تمشي أيامي أمامي كقطيع من ماعزٍ لا يأتلف. تمشي أيامي ورائي كرائحة الوردة الواقفة عكس الريح. وتمشي أيامي حولي كما أمشي حولها الآن في لعبة الكراسي الموسيقية الصادرة عن آلات معدنية….كفى !”.
تمضي ساعات المساء ببطء خانق. في العاشرة مساء، أشعل قنديل الغاز وجلس على طاولة المكتب. أمسك القلم وكتب: “الوجع الجديد يطرد الوجع القديم. والمشكلة الجديدة تزيح المشكلة القديمة… نحن نتاج هذا الواقع وهذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، ولا نتوب عن أحلامنا مهما تكرر انكسارها.”
نجا درويش من موتٍ كان يتربص به في كل لحظة من ذلك اليوم الطويل، وعلى الرغم من أنه كان مصراً على عدم مغادرة بيروت، إلا أن دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت الغربية وسؤال الجنود عنه لدى جيرانه، وتزامن كل ذلك مع مذبحة صبرا وشاتيلا المروعة، دفعه الى تغيير رأيه، فتمّ تهريبه عبر سيارة السفير الليبي الى دمشق التي وصلها مطلع اكتوبر من ذلك العام.
- المقتطفات وصياغة مسار أحداث ذلك اليوم من: “ذاكرة للنسيان”، محمود درويش – الأعمال النثرية- المجلد الأول – الأهلية للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى، ٢٠١٩.
2024-11-29