جهاز الدّولة في خدمة الأثرياء
الطاهر المعز
مثال قرارات خفض الضرائب على الثروات
أقَرّت معظم دُوَل العالم أَجْرًا أدْنى لساعة عَمَل الأجير، لكن لم تُحَدّد أية دولة الأجر الأقصى الذي يمكن أن يحصل عليه مُدير تنفيذي أو وزير أو رئيس دولة.
لماذا لا يوجد حد أقصى للأجور أو سقف ثابت أو نسبة تُحْتَسَبُ كضارب للحد الأدنى للأجور؟ لماذا يكسب البعض الملايين في حين أن رواتب البعض الآخر لا تكفي لتوفير السكن والغذاء والاحتياجات الأساسية، ناهيك عن أولئك الذين ليس لديهم دخل؟ وقد يكون الحد الأقصى للأجور وسيلة للحد من فجوة التفاوت العالمية، ولكن الظروف السياسية (أو توازن القوى) للحد من دخل الرؤساء التنفيذيين أو مديري صناديق التحوط لا تسمح بتحقيق ذلك حاليا، لأن فكرة الحد الأقصى للأجور تتعارض مع مفهوم وأسس الرأسمالية، التي تهدف إلى تراكم المزيد من الثروات وتوسيع الفجوة بين الطبقات، من خلال استغلال الإنسان والطبيعة.
لم يرتفع الحدّ الأدنى للأجور الفيدرالي الأمريكي منذ سنوات عديدة وبقي في حدود 7,25 دولارًا لساعة العمل، أو 15 ألف دولارًا سنويًا، للعامل بدوام كامل (40 ساعة أسبوعيًا لمدة 52 أسبوعًا)، على افتراض أن العامل بدوام كامل يحصل على إجازة مدفوعة الأجر (أو يعمل 52 أسبوعًا سَنَوِيًّا )، ولا يَكْفِي هذا الراتب لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات، مما يجبر ملايين العمال في الولايات المتحدة على النوم في سياراتهم أو في الشوارع، ويضطر بعضهم إلى البحث عن بقايا الطّعام أو الملابس في صناديق القمامة.
إن تنفيذ فكرة تحديد حد أقصى للأجور على أساس نسبة مُضاعفة للحد الأدنى للأجور يُؤَدِّي إلى زيادة كبيرة للعمال ذوي الأجور المنخفضة، فإذا تم تحديد الحد الأقصى للأجور بما يعادل خمسة أو حتى عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور، فإن أُجُورَ العديد من ذوي الإمتيازات سوف تنخفض، وخاصة في الولايات المتحدة، رمز وَوَكْر الرأسمالية والتّفاوت المُجْحِف، حيث لم يرتفع الحد الأدنى الفيدرالي للأجور منذ سنة 2009، وبذلك خسر الحد الأدنى للأجور ثلث قيمته بين سَنَتَيْ 2009 و2022، لذا، وإذا ما تم تطبيق قاعدة التناسب بين الحد الأدنى والحد الأقصى، سوف يضطر المُديرون التنفيذيون إلى زيادة كبيرة في الحدّ الأدنى للأجور، من أجل الحفاظ على امتيازات أصحاب الرواتب المرتفعة، ما لم تتم زيادة الضرائب بشكل تصاعدي بما يتناسب مع شرائح الدّخل والأجور.
تتميز الولايات المتحدة بفداحة انتشار عدم المساواة، حتى بالمقارنة مع الدّول الرأسمالية المتطورة الأخرى، ووصلت رواتب الرؤساء التنفيذيين، في المتوسط، إلى 290 مرة أكثر من الموظف العادي سنة 2023، وفقًا لتحليل أجراه معهد السياسة الاقتصادية، مما يشير إلى أن “الزيادة في تعويضات الرئيس التنفيذي لا تعكس زيادة في تقييم المهارات أو المساهمات في إنتاجية الشركة (…) ولكن من خلال استخدام الرؤساء التنفيذيين لسلطتهم في تحديد أجورهم الخاصة، ويعني ذلك، من الناحية الاقتصادية، أن تعويضات الرئيس التنفيذي تتجاوز الإنتاجية الفعلية التي يُحقّقها العُمّال والموظفون الآخرون، وكان متوسط الراتب للرئيس التنفيذي لمجموعة مُؤشّر S&P 500 هو 16,3 مليون دولار سنة 2023 (مؤشر S&P 500 هو مؤشر أسهم يعد من بين أكبر 500 شركة يتم تداولها علنًا في الولايات المتحدة)، وحصل تسعة من الرؤساء التنفيذيين على أكثر من 40 مليون دولار لكل منهم سنة 2023 و تجاوز الراتب السنوي للبعض 161 مليون دولار، وبلغ مجمل أجور 25 مديرا لصناديق التحوط أكثر من 26 مليار دولار في عام 2023، بمتوسط يزيد على مليار دولار للشخص الواحد.
يحصل هذا التفاوت وتتم مُفاقَمَتُهُ لأن أعضاء الحكومات ونواب الدول الغنية يمثلون مصالح الأغنياء، وعلى سبيل المثال، قامت خمسة مصارف مركزية (الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمصارف المركزية للإتحاد الأوروبي واليابان وبريطانيا وكندا) خلال العامين الأولين من جائحة كوفيد-19، بتوزيع 10 تريليونات دولار على الأثرياء (المصارف والشركات الكبرى ) لدعم الأسواق المالية بشكل مصطنع، ولا يمثل هذا المبلغ سوى واحد من البرامج العديدة التي تنفذها هذه المصارف المركزية الخمسة، والتي حولت الوباء إلى فرصة لمزيد إثراء الأثرياء، فخلال ثلاثة أشهر فقط، من نيسان/أبريل إلى تموز/يوليو 2020، أضاف مليارديرات العالم 2,2 تريليون دولار إلى ثرواتهم، وزادت ثروات مليارديرات التكنولوجيا والرعاية الصحية بنحو 150 مليار دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2020.
تشير الإحصاءات الاقتصادية الصادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أن إنتاجية العمل تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا بين سَنَتَيْ 1970 و2022، بينما زادت الأجور بنسبة 50% فقط، ويخلص بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى ما يلي: “منذ أوائل السبعينيات، كان هناك عدم توافق واضح بين إنتاجية العمل والأجور الحقيقية “، لأن الزيادة في الرواتب غالبا ما تكون أقل من نسبة التضخم، بل لم يحصل ملايين العاملين في قطاعات الغذاء وتجارة التجزئة والرعاية الشخصية وعمال النظافة والخدمات والنّقل وغيرها على أي زيادة في الرواتب، رغم ارتفاع الأسعار والتّضَخُّم …
قد يكون الجشع مفيدا لأولئك الذين هم على قمة الهرم الاقتصادي، ولكن ليس للجميع، فالمُدافعون عن هذا التفاوت غير العادية يريدون لنا أن نعتقد أنها أمر طبيعي، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن الأسواق الرأسمالية ليست سوى وسيلة لزيادة إيرادات المُستثمرين والصناعيين والمُضاربين، وتتعارض مصالح هؤلاء مع مصالح الغالبية العظمى من البشرية، وهذا جوهر النّظام الرأسمالي والتفاوت الطّبقي المُجْحِف.
ترفض حكومات معظم الدّول زيادة الضرائب على الثروة، بل أقرّت – بدلاً من ذلك – تخفيضات وإعفاءات ضريبية على الثروات وعلى أرباح الشركات، زاعمَةً “إن هذه التخفيضات تؤدي إلى النمو الاقتصادي”، لكن لم تُؤَدِّ التخفيضات الضريبية لصالح الأثرياء سوى إلى توسيع الفجوة الطّبَقِيّة، وزيادة ثروة أغنى الأفراد، وارتفاع تكلفة الدَّيْن العمومي، وخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات والبرامج الإجتماعية…
يستخدم الأثرياء جزءًا من المال لزيادة نفوذهم السياسي والتأثير على الانتخابات من خلال التبرعات للحملات الانتخابية ما يُمكنهم من التأثير في القرارات السياسية والضّغط على السلطة السياسية من خلال التهديد بالإنتقال إلى الإستثمار أو العيش في مناطق أخرى من العالم، ويُؤدّي تعاظم نفوذ الأثرياء إلى التركيز الفعلي للسلطة لدى نخبة صغيرة تقوم – مباشرة أو بواسطة وُكلائها في الحكومات ومجالس النواب – بتشكيل وتكييف برامج الدّولة مع مصالحها وتهميش المصلحة العامة لأوسع الفئات من المواطنين، كما يؤدي هذا التفاوت أيضاً إلى تعزيز الانقسام الاجتماعي وزيادة الإستقطاب، وإلى شُعور الناس بالحرمان والاغتراب وعدم الثقة في المُؤسسات، غير إن المُستفيد من هذا الإستقطاب في الدول الرأسمالية المتطورة هو اليمين المتطرف الذي مكّنته الرأسمالية ووسائل إعلامها ودعايتها من الظّهور كبديل للوضع القائم، كما استفاد أثرى الأثرياء، مثل دونالد ترامب، من هذا الإستقطاب، رغم بذاءته وفَقْر برنامجه من المقترحات لصالح أغلبية مواطني الولايات المتحدة، كما انتشرت التحالفات الإنتهازية للأحزاب السياسية التي حانت برامجها المُعْلَنَة ونفذت سياسة تتعارض مع مصالح قاعدتها الإنتخابية…
عندما أقرّت الحكومات خَفْض الضريبة على الثروات وعلى أرباح المصارف والشركات، ادّعت إن هذا الإجْراء سوف يعود بفوائد اقتصادية، ولكن أثبتت الوقائع والأرقام عدم صحّة هذا الإدّعاء، بل أدّى ذلك، في كل مكان وفي كل زمان، إلى زيادة ثروة الأثرياء وانخفاض موارد الدّولة وتعميق التفاوت الاقتصادي…
إن فرض الضرائب التصاعدية ــ التي تلزم الأثرياء بدفع معدلات أعلى من تلك التي يدفعها الفقراء ــ من شأنه أن يساعد في الشعور بالمواطنة وببعض العدالة الإجتماعية، ومن شأنه أن يساعد في تمويل الخدمات العامة الأساسية مثل رعاية المُسنّين والأطفال والرعاية الصحية والتعليم وغيرها من المجالات التي تعود بالنفع على الجميع…
2024-10-17