جنوب أفريقيا في مرمى واشنطن: عقاب دولة تجرأت على قول لا لإسرائيل!
إدريس أيات
في مشهد يعكس تصعيدًا غير مسبوق في العلاقات الأمريكية الجنوب أفريقية، صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا بأنه قد لا يحضر قمة مجموعة العشرين المرتقبة في نوفمبر القادم، والمقررة في جنوب أفريقيا. هذا التلويح بالمقاطعة لا يمكن قراءته بمعزل عن سلسلة مواقف متوترة اتخذتها إدارة ترامب في الأشهر الأخيرة تجاه بريتوريا، والتي يُعاد إنتاجها بلغة عقوبات سياسية واقتصادية تتجاوز التباين في الرؤى.
فمنذ فبراير، جمّد ترامب المساعدات المالية الأمريكية المخصصة لجنوب أفريقيا، متهماً حكومة الرئيس سيريل رامافوزا بـ”الاستيلاء غير المشروع على أراضي المزارعين البيض المستعمرين ”، وهو ملف داخلي محض، طالما شكّل مادة تجاذب بين دعاة “العدالة التاريخية” وخصومهم من أنصار الرأسمالية الزراعية البيضاء. التصعيد الأمريكي لم يتوقف عند هذا الحد، بل وصل إلى طرد السفير الجنوب أفريقي لدى واشنطن، إبراهيم رسول، في مارس، بحجة ما وصفته الخارجية الأمريكية بـ”التحريض ضد ترامب”، في خطوة اعتبرتها بريتوريا مهينة للسيادة وخرقًا غير مألوف للأعراف الدبلوماسية.
كما غاب وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، عن اجتماع وزراء خارجية مجموعة العشرين في فبراير الماضي بجنوب أفريقيا، في إشارة أخرى إلى الانزعاج الأمريكي من مواقف بريتوريا، خصوصًا فيما يتعلق بمواقفها المعلنة تجاه الصراع في الشرق الأوسط، وتقاربها المتزايد مع مجموعة “بريكس” ومواقفها من المحكمة الجنائية الدولية.
كل هذه المؤشرات تعكس مقاربة جيوسياسية أمريكية ترى في جنوب أفريقيا نموذجًا “مارقًا” داخل الفضاء الليبرالي الدولي، يُعيد تشكيل موقعه في خارطة العالم بما لا يتماشى مع منطق المركزية الغربية. وهي مقاربة تنذر، إن استمرت، بإعادة صياغة موازين النفوذ داخل الجنوب العالمي، وتدفع نحو تشظي النظام العالمي القائم على الهيمنة الأمريكية التقليدية.
كل ما تقدّم ليس سوى جزء من الحملة الدعائية الممنهجة التي يشنّها الإعلام الغربي على جنوب أفريقيا، عقابًا لها على موقفها الشجاع في رفع ملف غزة إلى محكمة العدل الدولية، وجرّ الكيان الإسرائيلي إلى ساحة القانون الدولي. جنوب أفريقيا لم تُخطئ حين انتصرت لمظلوم، لكنّها أخطأت – في نظر واشنطن – حين خرجت عن الطاعة، وقالت: لا.
في النسخة الجديدة من العالم كما يريدها دونالد ترامب، ثمّة شرق أوسط يجب أن يُعاد رسمه، شرقٌ لا مكان فيه لدولة فلسطينية، ولا لمعادلة ردع، ولا لصوت يُعارض إسرائيل. المطلوب هو شرقٌ تكون فيه تل أبيب هي القوة المُطلقة، تُمنح فيه الأرض والشرعية، ويُحظر فيه حتى حق الاعتراض.
ولأن هذا المشروع يتجاوز حدود الشرق الأوسط، باتت حملات القمع تمتد إلى الداخل الأمريكي ذاته: طلاب جامعات من الشرق الأوسط ودولٌ عربية يُطردون ويُحتجزون، تفتيش للهواتف بحثًا عن منشورات تنتقد إسرائيل أو ترامب، ومن يُعثر في جهازه على موقفٍ مغاير، يُتهم فوريًا بـ”معاداة السامية”. أما الأوروبيون، فبعضهم لم يسلم أيضًا، ومُنعت تأشيرات أو تمّت احتجازات لمجرد تغريدة أو موقفٍ إنساني أو منتقدٌ لسياسات ترامب، ما دفع دولًا غربية مثل كندا وغيرها لتحذير مواطنيها من السفر إلى الولايات المتحدة.
كل هذا يعكس هشاشة الإمبراطورية الأمريكية حين تُجبر على الدفاع عن زيفها بالقمع، ويؤكد – من جديد – أن ميلاد نظام عالمي جديد، لم يعد ترفًا أو خيارًا، بل ضرورة تاريخية تفرض نفسها على العالم، حتى تستقيم الموازين، وتُكسر أحادية القوّة، ويُردّ الظلم عن الشعوب التي قرّرت أن لا تعود إلى القفص.
2025-04-15