ثقافة: ستيوارت هول – بين الماركسية و”ما بعد الإستعمار”!
الطاهر المعز
“الظرف هو الفترة التي تجتمع فيها مختلف التناقضات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية السائدة في المجتمع لتعطيه شكلاً محددًا ومميزًا… الظرف قد يكون طويلًا أو قصيرًا: لا يحدده زمن أو أشياء بسيطة مثل التغيير في النظام الغذائي – على الرغم من أن له تأثيراته الخاصة. إن التاريخ ينتقل – في رأْيِي – من حالة إلى أخرى بدلا من أن يكون تدفقا متطورا، والأزمات هي لحظات تغيير محتمل، لكن طبيعة حلها غير محددة…” (مقابلة مع ستيوارت هول، أجْرَتْها دورين ماسي، سنة 2010).
ستيوارت هول (1932 – 2014) هو عالم اجتماع ولد في كينغستون، عاصمة جامايكا وتوفي في لندن، وهو عالم اجتماع وعالم سياسي، ورائد في الأنثروبولوجيا الثقافية البريطانية، وأحد أهم مُنَظِّرِي “ما بعد الاستعمار” ( Post-Clonialism ). وهو أحد الشخصيات المركزية في الدراسات الثقافية البريطانية (Cultural Studies ) وكان المحرر الأول لمجلة New Left Review، والمحرر المؤسس لمجلة Soundings، ومؤلف العديد من المقالات والكتب حول السياسة والثقافة، ومنها “إدارة الأزمة ” و “معرض الإنعطافة الكُبرى نحو اليمين” (“”The Great Moving Right Show” ) الذي كتبه لمجلة “الماركسية اليوم”، حيث اشتهر بصياغة مصطلح “التاتشرية “.
يُعرّف هول الهويات الثقافية بأنها “الأسماء – أو المَدْلُولات – التي نطلقها على الطرق المختلفة التي يتم بها تحديد موقعنا من خلال روايات الماضي وداخلها، أو ضِمْنَها”، وتنغمس هذه الرؤية للهوية الثقافية في خلافات عميقة، وتواجه الدراسات الثقافية حتماً مشكلة كيفية التفكير والكتابة عن الممارسات الثقافية في التقليد الإنساني…
اهتم ستيوارت هول بقضايا الهيمنة والدّراسات الثقافية واعتبار جميع المواطنين مُنتِجِين ومُسْتهلكين للثقافة، وهتم كذلك باستخدام اللغة الذي “يدخل ضمن إطار المؤسسات السياسية والإقتصادية التي تعكس موازين القوى في المجتمع” القُوّة والمؤسسات ويعتبر نفسه في هذا المجال “ما بعدَ غرامشي” ( Post-Gramscist ) واستوحى من نظرية الهيمنة في فكر أنطونيو غرامشي التي تشير إلى الإنتاج الاجتماعي الثقافي لـ “الموافقة” و “الإكراه”، ويؤكّد ضرورة فحص الإنتاج الثقافي بشكل نقدي، وحاول تطبيق هذه النّظرية، منذ بداية عقد السّبْعينيات من القرن العشرين، من خلال دعوة مناضلي اليسار إلى “التدريب على القراءات النقدية للغة التلفزيون” ضمن نموذج “التشفير وفك التشفير في الثقافة والإعلام واللُّغة” (خصوصًا بين 1972 و 1980)
كان لستيوارت هول تأثير هام على الدراسات الثقافية، في بريطانيا وخارجها، وتضمنت نُصُوصه العديد من المُصطلحات التي شكلت ركائز نَظَرية ل”مركز الدراسات الثقافية المعاصرة”، وفك الرسالة الإيديولوجية للشفرة السائدة (المهيمنة) وتعريفاتها وتَرْميزاتها واستبدالها برسالة إعلامية وثقافية مُعارضة بهدف إحداث “تأثير” ثقافي واجتماعي…
كان رئيسًا لجمعية علم الاجتماع البريطانية من 1995 إلى 1997 سنة تقاعده، ثم بقي أستاذًا فخريًا هناك حتى وفاته، حيث وصفته صحيفة الأوبزرفر البريطانية بأنه “أحد المنظرين الثقافيين الرائدين في البلاد”، كما شارك هول أيضًا في حركة الفنون السوداء، انطلاقًا من قناعاته فهو يعرّف هول الهويات الثقافية بأنها “الأسماء التي نطلقها على الطرق المختلفة التي يتم بها تحديد موقعنا من خلال روايات الماضي وداخلها”، ويعتبر إن الدراسات الثقافية تُواجه حتماً مشكلة كيفية التفكير والكتابة عن الممارسات الثقافية والأشخاص المتشابكين: سواء كان الأمر يتعلق بـ “التعافي والاحتفال”، في التقليد الإنساني، أو بحسب إخفاقاتهم ونقاط ضُعْفهم، كما هو الحال في النموذج البنيوي…
مدرسة أو نَظَرِيّة “ما بعد الكولونيالية”
يشير المصطلح الأنغلوسَكْسُوني “ما بعد الاستعمار” إلى لحظة تاريخية من انفصال البلدان المستعْمَرَة وحديثة الإستقلال عن الهيمنة، ويُشير المُصْطَلَح إلى حركة فكرية نقدية ظهرت خلال العُقُود الأخيرة من القرن العشرين في العديد من التخصصات، حيث قامت بتحليل التراث الاستعماري وتأثيرات الهيمنة على المجتمعات والسكان الخارجين من الاستعمار، وشكّلت دراسات ما بعد الاستعمار مجالاً بحثيًّا في الولايات المتحدة ( بنهاية عقد السبعينيات وبداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين)، ثم في أوروبا لاحقًا، كرد فعل على التراث الثقافي الذي تركه الاستعمار وفَرَضَهُ على مجمل الشعوب والأُمَم، لتصبح هذه الدّراسات جزءًا من النهج النقدي لخطاب ما بعد الحداثة الإستعماري والإستعْ، ولِتُشَكِّلَ “منظومة” نظرية من العلوم الإنسانية والاجتماعية تهتم بدراسة أنظمة المعرفة في سياق عالمي يتسم بهيمنة الثقافة الإستعمارية، بعد أكثر من نصف قرن من الإستقلالات الشكلية ونهاية الإستعمار المباشر، وخلافًا لمدارس تَحرُّرِيّة أخرى ظهرت في بلدان “الأطراف” (مثل مدرسة التَّبَعِيّة) أولت دراسات “ما بعد الإستعمار” أهمية للجانب الثقافي (وهو مُهِمّ) ولم تولي اهتمامًا للتشابك بين القوى الإمبريالية والأنظمة السياسية التي تحكم البلدان التي حصلت على الإستقلال الشّكلي، ولذا فإن تلك الحقبة لا تُعتَبَرُ استقلالا أو “نهاية الإمبراطوريات”، بل تُعتَبَرُ تغييرًا في شكل الهيمنة، بواسطة عُملاء محلّيّين، أي، يجب أن يكون أي نضال من أجل الإستقلال الحقيقي والبديل المُجْتَمَعِي، ضدّ الإمبريالية ووُكلائها المَحَلِّيِّين، أما مدرسة أو نظرية “ما بعد الإستعمار” فبقيت هجينة ومتعددة التخصصات، ولا تقدم نظامًا نظريًا موحدًا، ولكنها توفر أدوات تحليلية تشترك في عكس وجهات النظر ونظرة مختلفة للعلاقات الدولية، مما أثار خلافات بين مفكرين مثل إدوارد سعيد وغاياتري تشاكرافورتي سبيفاك وهومي بابا – الثالوث المقدس لدراسات ما بعد الاستعمار – والعديد من المُفكّرين الأوروبيين، مما أَخّر ظهور كتب إدوارد سعيد في فرنسا وتأخر النقاش حول إسهامات دراسات ما بعد الإستعمار في الأدب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في فرنسا والبلدان الناطقة بالفرنسية، رغم انتماء الكامروني “أشيل مبمبي” ( وُلِد سنة 1957 – Achille Mbembe ) الذي يُدرّس في أكبر وأَعْرَق الجامعات الفرنسية، إلى هذه المدرسة…
كان ستيوارت هول جُزْءًا من مدرسة “ما بعد الكولونيالية” التي امتزجت أحيانًا “بالثقافة الماركسية “، كما حال ستوارت هول نفسه، الذي تأثّر بنظرية “الهيمنة الثقافية” لأنطونيو غرامشي، فيما كان جُزء من هذه المدرسة مناهضًا للماركسية ولأي علاقة بالإشتراكية، كما هو الحال بالنسبة لإدوارد سعيد الذي استخدم الجدلية لدراسة الأدب والثقافة الإستعماريّيْن وكان مُعاديا لتطبيقات النظرية الإشتراكية في المجالَيْن السياسي والإقتصادي، ولم يَسْلَم هول من تأثيرات مختلف تيارات هذه المدرسة، فكان اهتمامه بالبدائل السياسية والإقتصادية والإجتماعية ضعيفًا مُقارنة بنقده للواقع الثقافي والإعلامي السّائد، وما يتضمنه من وسائل كالتلفزيون والصورة والسينما…
للتذكير، كانت المجلة الشّهْرِيّة “الماركسية اليوم” (Marxism Today )، التي صدرت بين سَنَتَيْ 1957 و1991، المجلة النظرية للحزب الشيوعي في بريطانيا العظمى، وكان قراءها ينتمون إلى جميع الأحزاب والتيارات اليسارية في بريطانيا، بما في ذلك أعضاء وأنصار حزب العمال.
أما مجلة اليسار الجديد “نيو لِفْت ريفيو” ( – NLR – New Left Review ) فهي مجلة فكرية بريطانية تنشر دراسات وبحوث في مجالات العلاقات الدّولية والاقتصاد والنظرية السياسية والثقافة، منذ بداية سنة 1960، بإشراف “ستيوارت هول”، ثم تولى إدارتها بيري أندرسون وأصبحت صفحات المجلة تُقارب المائة صفحة، وتتضمّن مقالات طويلة، ثم تولى روبن بلاكبيرن إدارتها من سنة 1982 إلى 2000، ومن أهم المُساهمين بدراساتهم ومقالاتهم: إسحاق دويتشر و ريموند ويليامز و رافائيل صموئيل و رالف ميليباند… كما نشرت المجلة خلال العقد الأخير من القرن العشرين مقالات مهمة لروبرت برينر و جيوفاني أريغي و ديفيد هارفي و بيتر جوان و أندرو غلين حول الأزمة الرأسمالية، وكانت المجلة (ولا تزال ) تُعتَبَرُ من أهم إصدارات اليسار، وتُشارك في النقاش حول الماركسية والإشتراكية، وسبق أن نشرت مقالات للعديد من مشاهير المؤلفين الناطقين باللغة الإنغليزية مثل والتر بنيامين و إل ليسيتسكي و هانز ماغنوس إنزينسبيرغر و هربرت ماركوز و تيودور أدورنو وبعض كتابات أنطونيو غرامشي و لويس ألتوسير، وهم لا ينتمون إلى نفس التيار أو المدرسة، كما أجرت مقابلات مع جان بول سارتر و جورج لوكاش و لوسيو كوليتي وغيرهم، و تعتبر مجلة “نيو لفت ريفيو” من النّشرات “الغربية” القليلة التي تُتابع وتُغَطِّي أخبار الحركات المناهضة للإمبريالية في بلدان “الأطْراف” وتنشر تقارير عن الأزمات السياسية التي عاشتها دول أوروبا الشرقية قبل وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي..
2024-11-01