تونس – عن الأوضاع بعد 2010 – الجزء الثالث والأخير!
الطاهر المعز
من عوامل انتفاء السيادة: العلاقات العسكرية الأمريكية التونسية والدّيون الخارجية
مقدّمة
بعد نَقْد خطاب “السيادة” (بفعل الإفتقار إلى مقومات السيادة) من خلال عدد من الأمثلة والأرقام، اعتمادًا على البيانات الرسمية وعلى وسائل الإعلام المسموح بتداولها في تونس، يُخصّص هذا الجزء الأخير حيزا هاما للعلاقات العسكرية بين الولايات المتحدة وتونس بعد انتفاضة 2010 – 2011، وهو مثال آخر على عدم استناد خطاب السيادة على دعائم مادّية صَلْبَة، بل هو مجرد خطاب أو إعلان نوايا، لا تتبعها إجراءات عَمَلِيّة، إضافةً إلى فقرات أخرى بعنوان ” الدّور السّلبي للدّيون” وخاتمة تتضمن بعض المُقترحات للبدائل المحتملة، فضلا عن ضرورة تغيير نمط التنمية، كما ورد في الفقرة الأخيرة للجزء الثاني من هذه الدّراسة.
تُنْشَرُ هذه الأجزاء الثلاثة من الدّراسة بمناسبة الإنتخابات الرئاسية التي جرت يوم السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2024، حيث كانت المشاركة ضعيفة وفق البيانات الرسمية، ولا تكتسب نتائج هذه الإنتخابات أية أهمّية بفعل المناخ السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وبفعل ما حصل ويحصل من الأحداث والإجراءات والقرارات الرئاسية، منذ 2021، وخصوصًا استمرار تدهور الوضع المعيشي لمعظم المواطنين وارتفاع حجم البطالة والفقر، وكذلك بفعل تجريد المحكمة الإدارية من صلاحياتها في النزاعات الإنتخابية وحل المجلس الأعلى للقضاء، وإلغاء الضّوابط القانونية وأجهزة الرقابة المُؤسّسية، وفصل عشرات الموظفين، من بينهم قُضاة، واعتقال سياسيين مُعارضين وإعلاميين، باسم محاربة الفساد…
جرت هذه الإنتخابات في مناخ اتّسم بعدم الإهتمام وبضُعف المُشاركة، لافتقادها إلى أي رهان، بفعل عدم وجود مقترحات أو برامج قد تُغَيِّر الوضع الرديء الذي يعيشه معظم المواطنين، من شُحّ السلع المدعومة وارتفاع أسعارها، وانقطاع الكهرباء والمياه، وبسبب استمرار الفساد والرّشوة، وتدهْوَرَ الوضع المالي للدّولة التي أصبحت قواتها المسلّحة تحرس حدود الإتحاد الأوروبي، مقابل بعض الفتات، لِمَنْع تدفُّق فُقراء إفريقيا وعُبُور تونس، بحثًا عن عمل في أوروبا.
تناول الجزء الأول والثاني الوضع العام، وخصوصًا الوضع الإقتصادي ومدى ما تحقق أو لم يتحقق من مطالب انتفاضة كانون الأول/ديسمبر 2010 والإنتفاضات التي سبقتها، من “انتفاضة الخُبْز” بنهاية 1983 وبداية 1984 إلى سيدي بوزيد 2010، مرورًا بانتفاضات الحوض المنجمي وبنقردان وغيرها، مع إعادة التّأكيد على الدّيون الخارجية كأحد عوامل انتفاء السيادة، أو الحدّ منها، وكانت الدّيون الخارجية من الأسباب التي أدّت إلى احتلال تونس سنة 1881…
أي مُقَوّمات للسيادة؟
التعاون العسكري الأمريكي/التونسي
تعتبر الولايات المتحدة منطقة المغرب العربي منطقة استراتيجية نظرا لموقعها الجغرافي وثروة باطنها، وخاصة الجزائر وليبيا. أما بالنسبة لليبيا، فقد تم تقاسم الغنائم بين الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وبالنسبة للجزائر، يجب على الولايات المتحدة أن تُراعي مصالح فرنسا وروسيا والصين التي أصبحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، المستورد الثاني للنفط والغاز والتي ستصبح قريبا القوة الاقتصادية الأولى… ولهذه الأسباب، تسعى الولايات المتحدة إلى إبطاء توسع الصين.
بقيت تونس وهي الحلقة الأَضْعَف، حيث لا تمتلك ثروات نفطية مثل ليبيا والجزائر، فضلا عن ضيق مساحتها المَحْشُورة بين جارَيْن كبيرَيْن، وتعود العلاقات بين الجيشين التونسي والأمريكي إلى فترة الحرب الباردة، حيث كان النظام التونسي مُعاديا للشيوعية وللقومية العربية ولكل ما هو تقدّمي، ولم يلعب للجيش دور بارز في الحياة السياسية، مقارنة بالأنظمة المجاورة (الجزائر وليبيا) أو مصر وسوريا والعراق، واعتمد النظام التونسي على الشرطة والدّرك لقمع الشعب، لكن الجيش شارك في القمع وفتح النار على المُضربين والمتظاهرين في “الوَرْدانين” ( كانون الثاني/يناير 1969) وخلال إضراب قَصْر هلال ( 1977) وخلال الإضراب العام (26 كانون الثاني/يناير 1978) وانتفاضة 1983/1984 وانتفاضة 2010/2011، وعندما أمر قيس سعيد بحل البرلمان وبإغلاقه، تكفّل الجيش بإغلاق المدخل بالدّبّابات، ويستخدم نظامُ الحكمِ القضاءَ العسكريَّ، منذ عُقود ( بالأمس كما اليوم)، لمحاكمة خُصومه السياسيين، ومع ذلك بقي دور الجيش هامشيا في تسيير شؤون الدّولة، وبقيت العلاقات العسكرية متطورة مع الولايات المتحدة التي ركّزت، خصوصًا منذ الإنتفاضة، على التدريب العسكري وعلى “مكافحة الإرهاب وتأمين الحُدُود”، غير إن العلاقات العسكرية قديمة، ويُشارك الجيش التونسي سنويا في مناورات “واييومنغ” مع الحرس الوطني الأمريكي مع جيوش 95 دولة، وتتمثل المناورات في التدريب المشترك، بهدف “الحفاظ على الروح المعنوية” وعلى الولاء للولايات المتحدة…
ارتفع الإنفاق العسكري التونسي من 572 مليون دولار سنة 2010 إلى مليار دولار سنة 2016، وتَوَثّقت العلاقات العسكرية مع الولايات المتحدة، بالتوازي مع ارتفاع التمويلات الأمريكية “للمجتمع المدني” في تونس، وتم تصنيف تونس، سنة 2015، كحليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويعني هذا التّصنيف حصول الجيش التونسي على أسلحة وأنظمة تدريب أمريكية متفوقة، واستغلّت الولايات المتحدة ظهور المجموعات الإرهابية في تونس ( التي تنحدر جميعها من تيار الإخوان المسلمين)، لتكثيف التعاون الذي تجسّد سنة 2017 في مُشاركة قوات البحرية الأمريكية مع الجيش التونسي في عمليات ضد مجموعة مُصنّفة كَفَرْع من “القاعدة” على الحدود التونسية الجزائرية، ويُمثل ذلك جزءًا من الإستراتيجية الأمريكية للتغلغل في شمال إفريقيا والمنطقة المُحيطة بالصّحراء الكُبرى، والتي كانت ذروتها الإطاحة بالنظام في ليبيا وحَلّ أجهزة الدّولة والجيش وفتح الثّكنات لتتزوّد منها المجموعات الإرهابية التي كثفت نشاطها فكان ذلك ذريعة لتكثيف التواجد العسكري الأمريكي في إفريقيا، ضمن برنامج “أفريكوم” ( القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، منذ 2007) أو ضمن التعاون العسكري الثنائي، ما جعل تونس والمغرب وموريتانيا وغيرها أدوات تستخدمها الولايات المتحدة لإضعاف الإمبريالية الفرنسية ولمكافحة التّواجد الرّوسي والصّيني، وأدّى تصنيف تونس ( وكذلك المغرب) “حليفًا رئيسيا من خارج حلف شمال الأطلسي” إلى مُشاركة الجيش التونسي في تدريب جيوش أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وشارك الجيش التونسي في برنامج مناورات ” فلينتلوك” العسكرية بقيادة الولايات المتحدة، مع جيوش غانا وساحل العاج والسنغال وجيبوتي والمغرب تحت شعار ” على مكافحة الإرهاب” ( آذار/مارس 2023)، وتقرّر استضافة تونس برنامج المناورات الأمريكية “أسد إفريقيا” للتدريبات العسكرية، صيف 2024…
يُشارك الجيش التونسي، منذ سنة 2004، في مناورات “وايومنغ” وهي شراكة في إطار برنامج فدرالي يربط الجيوش الأجنبية بوحدات الحرس الوطني للدولة الإتحادية الأمريكية ويتدرب الجيش التونسي بسلاح أمريكي، ومن بينها مروحيات بلاك هوك وطائرات النقل سي-130، وأرسَل الحرس الوطني الأمريكي في وايومنغ، سنة 2022، ضباط صف إلى تونس للمشاركة في ورشة عمل، “بهدف تحسين قدرة الجيش التونس على الاستجابة السريعة واتخاذ القرارات بسرعة”، أي تحسين القدرة القتالية والفعالية للجيش التونسي، وهي خطوة نحو تحويله إلى جيش محترف، كما ساهم فريق من الحرس الوطني الأمريكي ( من وايمنغ) خلال شهر أيار/مايو 2023، في بناء ميادين إطلاق نار وموقع تدريب على مكافحة العبوات الناسفة في تونس، وشاركت القوات التونسية في مناورات عسكرية نظمتها القيادة الشمالية الأمريكية في وايومنغ (حزيران/يونيو 2023)…
رغم تكثيف الشّراكة العسكرية، أدّت تقارير المنظمات الأمريكية “غير الحكومية” عن وضع الحُرّيّات في تونس إلى تخفيض الولايات المتحدة “الدّعم الإقتصادي” الذي تُقدّمه وزارة الخارجية الأمريكية إلى تونس، سنة 2024، بنسبة 70% من 45 مليون دولار إلى 14,5 مليون دولار، وانخفضت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى تونس منذ 2022، باستثناء برنامج التمويل العسكري الخارجي (FMF)، وهي أموال لشراء الجيش التونسي أسلحة أمريكية، ورغم بعض الإنتقادات الأمريكية، يُشارك الجيش التونسي في أهم اللقاءات، وومن بينها مشاركة ضُبّاط رفيعي المستوى في اجتماع رفيع المستوى لمسؤولي الدفاع الأفارقة استضافته الولايات المتحدة في روما، كما يشارك الجيش التونسي في الذّكرى الثلاثين لبرنامج شراكة الحرس الوطني 1994 – 2024 التي يستضيفها البنتاغون خلال سنة 2024…
يُعْتَبَرُ الوجود العسكري الأمريكي في تونس، بعد الإنتفاضة، متحفظا بقدر ما هو استراتيجي، حيث تسبّب تَسَرّب خبر وجود قاعدة لإطلاق الطائرات بدون طيار، أو مركز أمريكي للإستعلامات في جنوب تونس في انتشار الكثير من الإشاعات، منذ العام 2017، نَفَت السلطات التونسية، على لسان رئيسها الباجي قائد السبسي ذلك جملة وتفصيلا، لكن وسائل الإعلام الأمريكية تؤكد ذلك، وأقَرَّ الباجي قائد السبسي باستخدام طائرات بدون طيار كجزء من مهام تدريب القوات المسلحة التونسية من قِبَلِ “70 جندي أمريكي”، وأعلن الناطق باسم وزارة الدفاع التونسية آنذاك بلحسن الوسلاتي 3إن مهمة الطائرات بدون طيار هي المُراقبة وليست الهجوم”، ووفقا لصحيفة واشنطن بوست نقلا عن مصدر حكومي أمريكي، فإن “هذه الطائرات بدون طيار غير المسلحة التي استخدمها ما يقرب من 70 عسكريّا أمريكيا تم نشرها في تونس بنهاية حزيران/يونيو 2016، بموافقة الحكومة التونسية، من أجل مساعدة القوات الليبية الموالية لأمريكا في قتالها ضد قوات داعش في ليبيا”، في مدينة سرت… تُستخْدَمُ هذه الطائرات لمراقبة الحدود التونسية الليبية ومواقع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”، بحسب وكالة أنباء إفريقيا ( Africa News Agency ) 12 شباط/فبراير 2018، ووقَّعت تونس، نهاية أيلول/سبتمبر 2020، خلال زيارة وزير الحرب الأميركي مارك إسبر، اتفاقية تعاون عسكري مع الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات، واعتبرها “البنتاغون” تجسيدًا للتقارب وللتعامل مع تدهور الوضع الأمني في ليبيا، واقترنت هذه الزيارات والإتفاقيات بزيادة الدّعم الأمريكي للجيش التونسي، لا سيما في مجالات التدريب والتجهيز “لمكافحة الإرهاب ولتعزيز الأمن على الحدود مع ليبيا”، وبذلك أصبحت تونس (منذ 2015) “حليفًا “رئيسيًا (لأمريكا) في المنطقة، وكانت تونس بمثابة الداعم المكَتِّم ولكنه الحاسم في تطورات الوضع في ليبيا”، وفقًا للسيد مارك إسبر، وزير الحرب الأمريكي، الذي أعلن أيضًا: “يسعدنا تعميق هذه العلاقة من أجل مساعدة تونس على حماية موانئها وحدودها ودعمها ضد الإرهاب، وكذلك لمواجهة منافسينا الاستراتيجيين الصين وروسيا”، وأدْلى بهذا التصريح بعد لقائه بالرئيس التونسي قيس سعيد (نهاية أيلول/سبتمبر 2020).
يُجْرِي جيشا الولايات المتحدة وتونس تدريبات عسكرية مشتركة بانتظام. واستثمرت الولايات المتحدة مليار دولار في الجيش التونسي بين سَنَتَيْ 2011 و2020، بحسب وزارة الحرب الأمريكية، ولكن نفت السلطات مرارا وجود قواعد أمريكية في تونس، بسبب المُعارضة الشعبية للإمبريالية الأمريكية، لكن تم تأكيد وجود فريق عسكري أمريكي مسؤول عن تشغيل طائرات بدون طيار داخل قاعدة تونسية في مدينة بنزرت، وذلك خلال محاكمة عسكرية سنة 2017 في الولايات المتحدة، بحسب الصحافة الأميركية المتخصصة. من جانبه، رحب وزير الدفاع التونسي بـ”الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لتونس في مجال أمن الحدود وإنشاء نظام مراقبة إلكتروني في الجنوب الشرقي والغرب وتعزيز قُدرات الجيش التونسي”، وأعلن “إن الولايات المتحدة شريك مميز لتونس”.
قامت مساعدة وزير الحرب الأمريكي للشؤون الإفريقية، جينيفر زاكيسكي، بزيارة إلى تونس على رأس وفد عسكري رفيع المستوى، لتحضير الدورة السادسة والثلاثين للجنة العسكرية التونسية الأمريكية المشتركة، وفق مُلخّص محضر اللقاء الذي نشرته وزارة الدفاع التونسية، يوم الاثنين 12 شباط/فبراير 2024، والذي يُشيد “بالعلاقات القوية بين تونس والولايات المتحدة”، ومُرحّبًا ” بالنتائج التي تم التوصل إليها في ختام الاجتماع السنوي لاستعراض الأنشطة والتمارين العسكرية المشتركة”، وانعقد اللقاء يوم التاسع من شباط/فبراير 2024 بين جينيفر زكريسكي والوزير التونسي عماد مميش، واختتم بالموافقة على سلسلة من التحديثات والأنشطة المخطط لها بين الطرفين للفترة المقبلة، بينما أشارت مساعدة وزير الحرب الأمريكي للشؤون الإفريقية، جينيفر زاكيسكي إلى أن “هذا اللقاء شكل فرصة لتقييم العلاقات العسكرية المتينة بين البلدين، والدّعم الأمريكي المستمر لتونس في تطوير القدرات العملياتية للمؤسسة العسكرية وفي مجال التكوين وتبادل الخبرات والمساعدة التقنية وتوفير المعدات الملائمة للتهديدات غير التقليدية وحماية الحدود…”، وانعقدت الدورة السادسة والثلاثون للجنة العسكرية المشتركة التونسية الأمريكية بتونس (23 و24 أيار/مايو 2024)، برئاسة وزير الدفاع التونسي عماد مميش ونائبة وزير الحرب الأمريكي سيليست فالاندر بهدف “تعزيز التعاون الاستراتيجي والقدرات العملياتية وتبادل الخبرات في مجالات التدريب العسكري والتكنولوجي… للمساهمة في تعزيز السلام والاستقرار والأمن الإقليمي في المنطقة…”
إن الولايات المتحدة التي تدّعي “مساعدة تونس في الحرب ضد الإرهاب” هي نفسها التي دعمت المجموعات الإرهابية في العراق وفي سوريا وفي ليبيا وهي نفسها التي تدعم إرهاب الكيان الصهيوني دعمًا مُطْلَقًا وبلا حُدُود
أكّدت العديد من وسائل الإعلام الأمريكية، وجود قاعدة عسكرية لتشغيل الطائرات بدون طيار في بنزرت، وقاعدة استخبارات ومراقبة في الجنوب، قريبًا من الحدود مع الجزائر وليبيا، لكن الموضوع حساس للغاية، ولذلك رفضت السّلطات التّونسية تأكيد هذه المعلومات، بل نَفَتْها من أساسها، رغم تأكيد وجود ما لا يقل عن سبعين مستشار ومُدرّب عسكرِي أمريكي، في الثكنات لتدريب العسكريين التونسيين على التعامل مع المعدات العسكرية وإدارة الطائرات بدون طيار، وأكّد موقع شركة Gray Dynamics ( 07 آب/أغسطس 2020) وهي متخصصة في الذكاء الإصطناعي، ذي الإستخدام المُشترك (مدني وعسكري)، أي إنها شركة استخبارات “ناعمة” أو “سوفت”: “رغم إنكار السلطات التونسية والغموض الاستراتيجي للسلطات الأمريكية، فإن تونس تستضيف قاعدة طائرات بدون طيار، وفريقا من القوات الخاصة للبحرية الأمريكية، منذ سنة 2016، التي تستخدم البلاد للعمل في جميع أنحاء شمال إفريقيا، وإن أسبابًا سياسية تدفع الحكومة التونسية إلى عدم الإعتراف بالوجود العسكري الأمريكي داخل حدودها… إن تونس تستضيف أكبر قاعدة أمريكية لتنفيذ مهام الطائرات بدون طيار في شمال إفريقيا انطلاقًا من قاعدة سيدي أحمد الجوية ببنزرت في شمال تونس… وتزعم الولايات المتحدة وتونس أن الطائرات بدون طيار ليست مسلحة وأنها تقوم فقط بالاستطلاع لغرض تأمين الحدود والتعاون والتدريب مع القوات التونسية… “، سواء من خلال القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) أو من خلال العلاقات المباشرة بين الجَيْشَيْن
أعلنت صحيفة واشنطن بوست اليومية الأمريكية، منذ تشرين الأول/اكتوبر 2016، “قامت وزارة الحرب الأمريكية (البنتاغون) بتوسيع الشبكة الأمريكية لقواعد الطائرات بدون طيار في شمال إفريقيا، من خلال نشر طائرات بدون طيار وأفراد عسكريين أمريكيين في قاعدة في تونس للقيام بمهام تجسسية في ليبيا… لعبت هذه الطائرات بدون طيار دورا رئيسيا في الهجوم الجوي الأمريكي على معقل تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا”.
راجت معلومات (شائعات؟) متعلقة بإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية مزعومة في رمادة بجنوب البلاد، عقب مناقشات بين الجنرال ديفيد إم رودريغيز، رئيس أفريكوم (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا) ورئيس الحكومة التونسية (علي العرَيِّض آنذاك، سنة 2013)، ونَفَت وزارة الدّفاع التونسية الخبر من أساسه، لكن النفي الرسمي لهذه الادعاءات ترافق مع تعزيز العلاقات بين تونس والولايات المتحدة وزيادة نشاط أفريكوم في تونس، وأكّدت المقابلة الهاتفية التي جرت يوم الخميس 28 أيار/مايو 2020، بين وزير الدفاع التُّونسي عماد الحزقي ورئيس القيادة العسكريةالأمريكية في إفريقيا ستيفن تاونسند، “تعزيز التعاون العسكري بين تونس والولايات المتحدة وإرسال لواء أمريكي إلى تونس للمساعدة الأمنية بسبب مخاوف بشأن النشاط الروسي في ليبيا”، بحسب وكالة رويترز للأنباء (28 أيار/مايو 2020) وقبل ذلك بحوالي سنتيْن ونصف، كشفت موقع مجلة “ذا إنترست” بتاريخ الثالث من كانون الأول/ديسمبر 2018، “إن الوجود العسكري الأميركي في أفريقيا أكبر بكثير مما يدعي البنتاغون”، وذكرت “إن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك ما لا يقل عن 34 موقعًا عسكريا في إفريقيا، من بينها 14 قاعدة رئيسية وعشرين معسكر، وتتجه وزارة الحرب إلى إنشاء المزيد من قواعد الطائرات الآلية (بدون طيار)”
الدّور السّلبي للدّيون:
واجَهَ الإقتصاد التّونسي، منذ بداية القرن الواحد والعشرين سلسلةٌ من الصدمات الاقتصادية السلبية التي أَسْفَرَتْ عن مفاقمة التدهور المتسارع، قبل تفشّي جائحة كوفيد-19، وتميزت فترة ما بعد انتفاضة 2010- 2012 بارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود، وتراجع الطلب الأوروبي على المنتجات التونسية، وزيادة معدّلات الفائدة العالمية، فضلا عن ارتفاع حجم الإقتصاد الموازي والبطالة والفقر والأُمِّيّة، خصوصًا في المناطق الغربية والدّاخلية (غير السّاحلية) للبلاد، ولم يتجاوز معدّل نمو الناتج المحلي الإجمالي 0,6% سنة 2023، وفاقمت الظروف المناخية الوضع خصوصًا في القطاع الفلاحي، حيث تراجع محصول الحبوب بنحو 80% مُقارنة بالموسم السابق…
اعتبر تقرير مؤسسنة “كارنغي” ( 26 شباط/فبراير 2024) استنادًا إلى بيانات البنك العالمي، إن أداء اقتصاد تونس لا يرقى إلى استغلال إمكانيات البلاد القادرة على رفع مستوى الإنتاجية ودعم الأنشطة ذات القيمة المُضافة المرتفعة، ودعم الأنشطة التي تُساعد على الإستغناء على العديد من الواردات واستبدالها بإنتاج مَحَلِّي، مع استغلال قُدرات التصدير إلى أسواق أُخرى غير الإتحاد الأوروبي، كما فشل الإقتصاد التونسي في زيادة دخل العاملين ( ما أدّى إلى انخفاض المُدّخرات ) أو في استحداث ما يكفي من الوظائف لاستيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل، وخصوصًا من فئة الشباب من ذوي الكفاءات العلمية والتّقنية…
تمكّنت الدّولة خلال العقد الأول من الإنتفاضة تحقيق الحدّ الأدنى من النمو الاقتصادي من خلال القروض التي تُموّل الإنفاق العام، ومن خلال الإقتصاد الموازي، وتُعاني خزينة الدّولة، منذ سنوات، من عجز سنوي بمعدّل 4% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، بين سنتَيْ 2011 و 2017 وارتفع العجز إلى 9% بين سنتيْ 2020 ( سنة جائحة كوفيد) و 2022، كما تعني من نقص السّيُولة الضّرورية لتغطية نفقاتها الأساسية كالرواتب والمعاشات التقاعدية وخدمة الدين، واضطرت إلى تأجيل المدفوعات المستحقّة للمورّدين الذي أصبحوا يُطالبون بالتسديد المسبق قبل الإفراج على شحنات السّلع المتراكمة في الموانئ، في ظل عجز الدّولة عن تمويل الإنفاق بواسطة القُروض، وفي ظل ارتفاع حجم الدّيْن العمومي من 68% سنة 2019 إلى 80% سنة 2022 ونحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2024، وتمثل الدّيون الخارجية نحو أربعين مليار دولارا، وأصبحت البلاد تواجه مخاطر العجز عن تسديد أربع مليارات دولارا من الدّيون سنة 2024 وربما سنة 2025، ويكمن الخطر في إقرار خطة تقشف وخَفْض أو إلغاء الإنفاق الإجتماعي، بفعل توجيه ميزانية الدّولة نحو تسديد خدمة الدَّيْن بدل تلبية الحاجة إلى الإنفاق على البنية التحتية وخدمات الصحة والتعليم والنقل العمومي وتعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الذين لم يعودوا قادرين على تحمل الأسعار المُرتفعة للغذاء والدّواء والطاقة…
كان حجم المديونية يمثل نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2010، وارتفعت النسبة إلى 80% سنة 2023، بسبب قُروض صندوق النقد الدّولي ( سنوات 2013 و 2016 و 2020 ) وبسبب خفض قيمة الدّينار ( وهو أحد شروط صندوق النقد الدولي) وفشلت مفاوضات القرض الرابع ب1,9 مليار دولارا، سنة 2022، بسبب اعتراض الحكومة التونسية على وتيرة “الإصلاحات” (الخصخصة وإلغاء الدّعم وتسريح الموظفين وزيادة الضرائب غير المباشرة…) واعتراض اتحاد نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل ) على الخصخصة وتسريح الموظفين…
خاتمة:
تُشكّل نسبة الدّيون من الناتج المحلي الإجمالي ( مقارنة حجم الدّيون بحجم الإقتصاد الكُلِّي) وحجم تسديد الدّيون كنسبة من الإنفاق الحكومي، بعض مقاييس خطورة الدّيون، وفي تونس، أدّى ارتفاع قيمة القروض وتكاليفها (خدمة الدَّيْن) إلى تخصيص 06% من إجمالي النفقات الحكومية لخدمة الدّيْن سنة 2016 و 13% سنة 2018 (بعد خفض قيمة الدّينار) و 41% من إجمالي النفقات سنة 2024، أو ما يُعادل قرابة 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى سبيل المثال فإن البلاد مُطالبة بتسديد أربع مليارات دولارا من خدمة الدّيْن خلال النصف الثاني من سنة 2024، وأدّى ارتفاع الدّيْن وخدمة الدَّيْن إلى ارتفاع معدّلات التضخم وتعطيل الأداء الاقتصادي وعملية النّمو مما ينذر بانهيار اقتصاد البلاد، ولم تستفد فئات الكادحين والفُقراء من هذه القروض، بل حصل العكس وحصل ضرر كبير لهذه الفئات بفعل الشّروط المُصاحبة للقروض والتي تقتضي إلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب غير المباشرة وخصخصة القطاعات الحيوية وتقليص الخدمات العامة وما إلى ذلك…
تم تصميم المؤسسات المالية الدّولية، وأهمها البنك العالمي ( البنك الدّولي للتنمية وإعادة الإعمار) وصندوق النقد الدّولي والإتفاقية الدّولية للتجارة والجمارك (غات)، من قِبَل الولايات المتحدة، سنة 1944، لإعادة إعمار أوروبا التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية، وتوسّع نطاق عمل هذه المؤسسات قبل حوالي ستة عُقُود، لإدامة تَبَعِيّة الدّول حديثة الإستقلال، وإدخالها في دوامة القروض بفوائد مرتفعة لا تتمكن الدّول الفقيرة من تسديدها سوى باللجوء إلى قروض جديدة، مما يرفع حجم القروض وقيمة الفوائد، ولم يتمكّن أي بلد في العالم من تحقيق التنمية بواسطة القُروض، لأن هدف القروض يتمثل في تعميق وإدامة التّبَعِية، ورغم عدم التّوصّل إلى اتفاق مع صندوق النّقد الدّولي، تُطبّق الحكومة الحالية والسابقة، كما الحكومات المتعاقبة منذ 2011، شروط الدّائنين (صندوق النّقد الدّولي والدّائنين الآخرين مثل نادي باريس والإتحاد الأوروبي والبنك العالمي وتوابعه…) من خفض تدريجي لدعم الطاقة والغذاء والدّواء ومن تجميد التوظيف في القطاع العام وخصخصة المؤسسات العمومية وما إلى ذلك من الشروط التي طَبّقتها الحكومات التونسية المتعاقبة، خلال حكم بورقيبة أو بن علي أو من لَحِقَهُ، ولم يتم التراجع عن أي إجراء بعد انتفاضة 2011 كالخصخصة وخفض أو إلغاء دَعْم السلع والخدمات الأساسية وخفض قيمة العُملة وتجميد أو خفض عدد الموظفين في القطاع العام الخ، لذلك يصح القول إن التّغْيِير كان سطحيًّا ولم يشمل الحياة اليومية ( السّكن والنّقل والشُّغل وخدمات الكهرباء والماء والصّحّة والتعليم…) بل ساءت ظروف عيش القسم الأكبر (الأغلبية) من المواطنين وتُعتبر ظروف عيش المواطنين هي المقياس الأساسي للحكم على نظام ( ضدّه) أو له، أي لصالحه.
ما الدّاعي لدعم حكومة لا تُحاول تَيْسِير وتحسين حصول السكان – خاصة سكان الريف والنساء والأطفال – على الرعاية والخدمات الصحية الأساسية والتعليم والعمل، ومُعالجة التفاوت الطبقي المجحف ( لا نتحدّث على المُساواة) ومعالجة مشاكل البطالة والفقر وشحّ السّكن وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية؟
وجب إعادة النّظر في العلاقة بين الدّولة والمجتمع وبين الدّولة والمؤسسات الوسيطة لدفع الحوار والتّشاور بشأن السياسة والإقتصاد والديمقراطية والتنمية وقضايا البحث العلمي والسّكن والنّقل والصّحّة والتعليم وغيرها، بشكل يسمح بمشاركة الجميع في طرح المواضيع ومناقشتها وفي اتخاذ القرار وتنفيذه، ومن شأن ذلك تنمية الشعور بالمواطَنَة والمُشاركة في تقرير مصير البلاد وأهلها، من أجل تحقيق التنمية المستدامة والحد من البطالة و الفقر والتفاوت في الدّخل
لا يكمن الحل في البحث عن القروض ( إلا إذا كانت قُروضًا تنموية غير مشروطة وبدون فائدة) بل في تنفيذ برامج اقتصادية (وسياسية واجتماعية ) بديلة تنطلق من حاجيات أغلبية المواطنين ومن إمكانيات البلاد، لتنفيذ برنامج اقتصادي يحقق السيادة الغذائية وتصنيع فائض الإنتاج الزراعي والمواد الأولية المتوفرة بالبلاد وزيادة الإنفاق على البحث العلمي والتعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية للطرقات والمباني والسكك الحديدية وتشجيع الإبتكار في المجالات التقنية التي تحقق قيمة زائدة مرتفعة، وبحث مجالات التعاون مع الجيران ومع بلدان “الجنوب”…
سوف تدعم الأغلبية الساحقة من المواطنين أي حكومة تُقرّ سياسات تستجيب لاحتياجات ومصالح هذه الأغلبية، ويمكن أن تتمثل هذه السياسات في تشجيع الإنتاج المحلي (عبر القروض المُيسّرة والمِنح والحوافز…) لتلبية حاجة السّوق الدّاخلية (خلافًا لسياسة تشجيع الصادرات) وتصنيع ما زاد عن الحاجة قبل تصديره (عدم تصدير المواد الخام)، وزيادة الإستثمار الحكومي في مجالات الفلاحة والصناعات التحويلية والبنية التحتية والمباني السّكنية والنّقل والصّحة والبحث العلمي، بدَل خصخصة هذه المجالات الحيوية ولا يكفي إلغاء دُيون دول “الجنوب” (مثل تونس) بل يجب أن يكون ذلك مرفوقًا بتوجيه استثمارات استراتيجية ( منح وتعويضات بدلاً من القُروض) في السيادة الغذائية والزراعة البيئية والطّاقات المتجددة وسياسات التصنيع ذات القيمة الزّائدة العالية، وفق صحيفة “ذا غارديان” البريطانية بتاريخ 26 شباط/فبراير 2023.
لقراءة الجزء الاول والثاني ..أضغط على الروابط الموجودة
تونس – عن الأوضاع بعد 2010(ج1)!الطاهر المعز | ساحة التحرير (sahat-altahreer.com)
تونس – عن الأوضاع بعد 2010(2)!الطاهر المعز | ساحة التحرير (sahat-altahreer.com)
2024-10-10