يبدو أن ثمار الصمود والصبر الاستراتيجي الإيراني بدأت في الظهور على هيئة انزعاج وقلق استراتيجي أمريكي وصهيوني، وهو ما كشفته عدة تقارير لكبار المتخصصين وذوي المناصب الرفيعة. وبينما بدا القلق الأمريكي متنوعًا ويتعلق بالهيبة الأمريكية والتفوق وتآكل الردع على مستواه العسكري وتحديدًا التفوق الجوي، وعلى مستواه الاقتصادي وتحديدًا الحصار، بدا القلق الصهيوني وجوديًا ومركزًا على العجز عن درء التهديد الوجودي الذي تمثله إيران ومحور المقاومة.
وقد انضم القائد السابق لـ “القيادة المركزية الأمريكية” إلى اثنين من خبراء الأسلحة لمناقشة عاجلة لتطورات ميدانية سببت تغييرًا لمعادلات سابقة، وهو ما أجبر معهد واشنطن على إدارة هذا النقاش لقدرات الطائرات المسيّرة الإيرانية، والفجوات في الجهود الحالية للحد من انتشارها، والحاجة الملحة إلى قيام هيكل دفاع جوي إقليمي يمكنه مواجهتها، وفقًا لنص ما ورد بتقرير المعهد.
في هذا الاطار، اشترك الجنرال كينيث ماكنزي الذي خدم لأكثر من أربعين عاماً بالزي العسكري، وشغل مناصب عليا بما فيها في “هيئة الأركان المشتركة” و”القيادة المركزية الأمريكية”، التي ترأسها من عام 2019 إلى عام 2022، مع فاليري لينكي المديرة التنفيذية لـ “مشروع ويسكونسن للحد من الأسلحة النووية”، وداميان سبليترز نائب مدير العمليات في مركز “بحوث تسليح الصراعات”، لتقديم قراءة شاملة لتطور المسيّرات الإيرانية، وانعكاسات ذلك العسكرية والاستراتيجية، وكذلك أسباب هذا التطور ومساره.
وفيما ركز الآخرون على سلاسل توريد مكونات الطائرات الايرانية وتقييم جدوى الحصار، ركز ماكينزي على الانعكاسات العسكرية والاستراتيجية.
وقد ركزت وسائل الإعلام الصهيونية على مداخلة ماكينزي، وهو ما يكشف الهم والقلق الرئيسي الصهيوني المتعلق بالتهديد الوجودي الإيراني، وربما يعكس يأسًا من جدوى الحصار ودليلًا على فشله في منع إيران من تطوير قدراتها.
وهناك دلائل مضافة على هذا الهلع الصهيوني، وهي التركيز على أخبار تسليم وزير الدفاع الإيراني محمد رضا أشتياني لأكثر من 200 “طائرة انتحارية” بعيدة المدى لرئيس أركان الجيش الإيراني عبد الرحيم موسوي، وتصريحات مصادر إيرانية بأن الطائرات المسيّرة الجديدة قادرة على القيام بمهام جمع معلومات استخبارية ومهاجمة أهداف أرضية وجوية، بالإضافة إلى أنها مزوّدة بصواريخ جو – أرض وجو – جو.
وهنا يمكن استعراض أبرز ما قاله ماكينزي لدلالته على ما يشغل أمريكا والعدو الإسرائيلي بشكل مشترك وعاجل، كمحاولة لاستنتاج ما يمكن أن يترتب عليه من سياسات متوقعة، باعتبار أن هذه التقديرات والمخاوف تشكل المحفز الرئيسي لسياسات أمريكا والكيان.
كينيث ماكنزي جونيور وهو من كان قائد القيادة المركزية الأمريكية، يعتقد أنه خلال السنوات العشر الماضية، نجحت إيران في القضاء على التفوق الجوي للولايات المتحدة و”إسرائيل”.
وقد حققت إيران ذلك في تقديره بعد أن ركزت على مدى السنوات العشر الماضية على بناء قوة كبيرة من الطائرات المسيرة الانتحارية والصواريخ بعيدة المدى والصواريخ الباليستية متوسطة وقصيرة المدى، وبحسب الجنرال الأمريكي، فإنها تشكل تهديدا لدول الشرق الأوسط ، لا يقل عن التهديد النووي وربما أكثر خطورة منه، لأن استخدام السلاح النووي محدود بينما استخدام الطائرات من دون طيار والصواريخ ليس كذلك.
ويقول الجنرال ماكنزي، إنه في حالة الحرب، يمكن لإيران استخدام طائراتها من دون طيار لتدمير جزء أو كل أنظمة رادار خصومها، وبالتالي شل أنظمة الدفاع المضادة للطائرات جزئيًا وفتح الطريق أمامها لاستخدام صواريخها الباليستية. ويرى أن الدول العربية و”إسرائيل” تتخلف عن الركب في إنشاء أنظمة دفاعية ضد الطائرات الإيرانية من دون طيار، ونتيجة للوضع الحالي يتعين على كل من أمريكا و”اسرائيل” بناء نظام دفاع جوي وصاروخي إقليمي متكامل على الفور، وفقًا لماكينزي.
ويثمن الجنرال ماكينزي قرار إدارة بايدن منذ عامين في عام 2021 بإدراج “إسرائيل” في الإطار العسكري للقيادة المركزية الأمريكية باعتباره إحدى الخطوات الرئيسية المتخذة ضد قدرات إيران في الطائرات بدون طيار والصواريخ بما يسمح لهما بتشغيل جيوشهما في أطر مشتركة، ومع ذلك، فإن هذا لا يغير حقيقة أن كلاً من الولايات المتحدة و”إسرائيل” فقدا الميزة التي كانت تتمتع بها قواتهما الجوية حتى الآن على إيران، ويرجع ذلك أساسًا إلى ظهور طائرات بدون طيار في ساحات المعارك الجوية.
هنا نرى أن ماكينزي يعيد استنساخ الدعوة لمظلة “دفاع” قوي إقليمي مواجه لإيران، بينما، وفي تقرير سابق اعتبر “صمويل إم. هيكاي” على موقع “ناشيونال إنترست” أن ثلاثة عقود من الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإنشاء بنية دفاع جوي/صاروخي بين دول مجلس التعاون الخليجي الست وهي البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة لم تنطلق بسبب التحدي القديم نفسه، وهو انعدام الثقة، حيث لا توجد دول مستعدة للتعاون على حساب الضمانات الأمنية الثنائية من الولايات المتحدة، وفي ظل مبادرة الدفاع التعاوني لإدارة كلينتون، حاولت مبادرة حزام التعاون دمج معلومات الدفاع الجوي التي جمعتها دول مجلس التعاون الخليجي كخطوة باتجاه مشاركة بيانات الدفاع الصاروخي، ومع ذلك، انهارت المبادرة إلى حد كبير لأن دول مجلس التعاون الخليجي لم ترغب في تشارك معلومات المجال الجوي فيما بينها.
وكذلك، عزّزت إدارة بوش، من خلال حوارها الأمني الخليجي، إمكانية التشغيل التفاعلي العسكري وشجعت دول مجلس التعاون الخليجي على شراء أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية، واقترحت إدارة أوباما أيضًا منتدى التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي في العام 2011، وأُطلِق في العام 2012 لمعالجة القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية الخليجية في منتدى متعدد الأطراف. وفي حوار المنامة للعام 2013، أطلق وزير الحرب تشاك هيغل اجتماعًا وزاريًا للدفاع بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي كان من المقرر أن يشمل إطارًا للدفاع الصاروخي لدول مجلس التعاون الخليجي وبيع أنظمة الأسلحة إلى دول مجلس التعاون الخليجي ككتلة واحدة، واستمرت هذه الجهود في إدارة ترامب، التي استطلعت توسيع نطاق الضمانات الأمنية لحلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط، وبشكل منفصل، إنشاء تحالف استراتيجي للشرق الأوسط مع دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى الأردن ومصر، ومع ذلك، كان يُنظر إلى هذا التحالف الاستراتيجي على أنه يخدم فقط المصالح الأمريكية والسعودية في مواجهة إيران.
وخلص التقرير إلى أن تجنب الحرب مع إيران يصب في مصلحة الدول العربية، والتعاون الدفاعي ليس الأداة الوحيدة في الصندوق، ويمكن أن يؤدي استخدامه بشكل حصري في الواقع إلى نتائج عكسية، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تعتمد فقط على الإجراءات العسكرية مثل تحسين الدفاع الجوي، ولكن عليها أن تتبنى المحادثات بين إيران والإمارات العربية المتحدة وإيران والمملكة العربية السعودية وتدعمها كطريق إلى هيكل أمني إقليمي.
هنا نرى قناعات أمريكية متعددة ولكنها تجمع على صعوبة المواجهة، وترى أن التحالف الدفاعي الإقليمي حل ولكنه ينطوي على مجازفات المواجهة، وربما ترى أنه لا بأس من توازن العلاقات العربية مع كل من ايران و”العدو الاسرائيلي.
بينما العدو الصهيوني يرى صعوبة تحمل تآكل الردع وغياب التفوق الجوي، ولديه يقين بأن المواجهة تستحيل دون تعاون أمريكي ودخول أمريكا كطرف في الحرب.
ربما تحاول أمريكا هنا احتواء الأنظمة العربية كي تكون علاقاتها مع الكيان علاقات تعاونية، وربما تدفع الدولة الأمريكية العميقة بإدارة جمهورية مثل إدارة ترامب باعتبار أنها استطاعت احتواء الأنظمة التي بدأت تتفلت من يد الإدارة الديمقراطية، ولكن دون رفع سقف المواجهة مع إيران ودون تصعيد يقود لحرب، والاكتفاء بالحصار والتضييق، وهو ما لا يطمئن العدو الصهيوني والذي يريد قطيعة عربية إيرانية وتوريط أمريكا في مواجهات عسكرية تعيد التفوق الصهيوني، وهو ما قد يدفع باتساع الفجوة بين أمريكا والعدو بسبب بروز تناقضات في المصالح والرؤى الاستراتيجية.