تفاصيل ليلة الامتحان!
محمد أبوعريضة*
كانت أمي إذا أرادت أن تسهر، تنام مبكرًا!
لكن كيف يحدث هذا؟ سألتني سعاد.
قلت لها إن أمي اكتسبت بعض العادات من والدها، فقد كانت متعلقة به جدًا، صحيح إنها تزوجت أبي وهي ابنة الثالثة عشرة من عمرها، ولم يتسن لها أن تفهم أن عادات والدها خاصة بالرجال، وأن عليها، بعد أن تزوجت أبي أن تلعب دور المرأة، غير أنها ظلت، حتى آخر أيامها، متمسكة بمسلكيات ذكورية، وكأنها، كل يوم، تلعب دور والدها في أدق تفاصيل الحياة.
كان جدي لوالدتي، أيام الصيف، سواء في «المِحصَّد» أو على البيدر أو في «الخِرّبة» بعد انتهاء موسم الحصاد، ينام أول الليل ساعتين أو ثلاث، لكي يتمكن من البقاء طوال ساعات الليل حتى الفجر مستيقظًا، لحماية «الغلة» من «الخونة»، وحينما سألته أمي: من هم هؤلاء «الخونة»، هل هم من أقاربنا أو غرباء؟
أجابها: «الخائن» هو اللص، هو من يسرق الآخرين، هو من يستغل ساعات نوم أو لهو أصحاب «الغلًة»، فيغافلهم ويسطو عليها، ويسرق ما تستطيع يداه الوصول إليه. و»الخائن» يمكن أن يكون من الأقارب أو من الغرباء، فاحذري «خونة» الدار. وأنهى كلامه بجملة لم تفهمها حينذاك، لكنها أدركت معناها في أوقات لاحقة، فقد قال: من مأمنه يُؤتى الحذر!
كانت أمي إذا أرادت أن تسهر، تنام مبكرًا، كأنها تريد حمايتنا طوال ساعات الفجر من «خونة» هي تعرفهم وتخشاهم.
ظلت أمي تعتبر أيام امتحاناتنا كأيام الحصيدة، تنام أول الليل، لتسهر باقي ساعاته حتى الفجر، وهي جاهزة لتلبية متطلباتنا، او لتنهرنا لنستفيق إن سطى علينا سلطان النوم.
كنت قد حصلت على علامة متواضعة في امتحان الفصل الأول للغة الإنجليزية، وكان لا بد لي أن أبذل جهدًا أكبر في الفصل الثاني، كي أرفع من علامة هذا المبحث.
كانت أمي أميّة، لا تعرف شيئًا من القراءة والكتابة، غير أنها كانت تعرف أدق تفاصيل دراستنا، فقد ظلت تحفظ كتبنا من شكل الأغلفة، وتعرف برنامج دروسنا ووقت امتحاناتنا، وتتابع تحصيلنا، لدرجة أنها كانت تصوبنا إذا ما أخطأنا في وضع الكتب المناسبة لبرنامج اليوم الدراسي.
كعادتها؛ فعلت ليلة امتحان اللغة الإنجليزية، إذ نامت ثلاث ساعات، واستفاقت قبل منتصف الليل بقليل. وكنت، كغيري من أشقائي وشقيقاتي، قد رتبت ساعات المذاكرة على برنامج نوم والدتي، فأنام وهي نائمة وأصحو معها منتصف الليل، فنمت ساعات الليل الأولى.
ما أن استيقظت أمي بعد الساعة الحادية عشرة، جهزت لي كأس شاي وساندويشة جبنة، وبرفق مسحت بيدها على جبيني، وقالت بحنان: قم فمنتصف الليل قد جاء.
بعد دقائق قليلة؛ جلست على الكرسي الحديدي الوحيد في بيتنا، خلف طاولة خشبية صغيرة جدًا، هي الطاولة الوحيدة، أيضًا، في البيت. كانت أمي قد وضعت على الطاولة كتابيّْ مبحث اللغة الإنجليزية، وعددا من الأوراق البيضاء، وكل نماذج الامتحانات للسنوات الخمس السابقة، مرتبة حسب السنة، فهذا الامتحان لعام 1977 فوقه امتحان عام 1978 وهكذا دواليك.
لاحظت أن أمي تمشي ببطء شديد، وكأنها تعاني شيئًا لا أعرفه، فناديتها وسألتها: ماذا بك يا أمي، إني أراك لست على ما يرام؟
حركت يمناها في الهواء، وتمتمت كلمات، فهمت منها أنها على ما يرام، وجلست على عتبة الغرفة، وهي تنظر إليَّ. بعد ساعة أو أقل قليلًا، لاحظت أن أمي تكابد كي تبقى مستيقظة، وهذا أمر غير مألوف عنها، فهي قادرة، برغم أن عمرها تجاوز الخمسين، على السهر حتى الفجر وهي بكامل قوتها وألقها.
ناديتها: أمي ما بك، إذهبي ونامي؟
قالت بصوت ضعيف: لا شيء، يبدو أنني لم أنم أول الليل جيدًا!
نهضت مسرعة، وذهبت إلى المطبخ، وبعد دقائق عادت وهي تحمل فنجانيّْ قهوة، أعطتني واحدًا، وجلست عند عتبة الغرفة ترتشف ببطء قهوة فنجانها.
قلت لها: لماذا تجلسين دائمًا عند عتبة الغرفة، ولا تضعين فراشك هناك في عمق الغرفة؟
قالت: حتى أكون دائمًا جاهزة لتبية احتياجاتك، كما أنني أحرص أن أكون في مكان لا تراني فيه وأنت تدرس، حتى لا ألهيك عن المذاكرة.
الساعة تقترب من الثالثة، وأنا منهمك في تفاصيل الأسئلة المخصصصة بقصة»جورج أوريل» Animal farm سمعت صوت ارتطام، فنظرت إلى حيث تجلس أمي، فوجدتها تمسك برأسها، فلاحظت أن الدم ينزف من جهته اليسرى، فسألتها ما هذا، فقالت: يبدو أنني غفوت فارتطم رأسي بطرف الباب.
ذهبت بها إلى المطبخ، وغسلت رأسها من الدم، فتبين أن الإصابة بسيطة، لكني شعرت بأن عليّ حسم الأمر حتى لو لم انتهِ من مراجعة كل أسئلة مبحث اللغة الانجليزية، فسلامة أمي أهم من امتحاناتي.
أبلغت أمي قراري، فنظرت إلى بحزم وأمسكت يدي بعنف وقالت: الأهم مستقبلك أما رأس فاطمة، فيشفى. فاستسلمت.
لم أتمكن من استعادة تركيزي، فأنا من جهة مشغول البال بوالدتي، هل أتركها هكذا؟
أم أذهب إلى والدي وأبلغه بما حدث؟
هل أوقظ شقيقتي الأكبر مريم؟
هل أوقظ كل أهل الدار؟
أم أن عليّ أن أذهب إلى شقيقتي الكبرى المتزوجة سارة، التي تسكن في الجوار؟ وأنا، من جانب آخر، مشغول بامتحان اللغة الإنجليزية، وبمستقبلي المرتهن بهذا الامتحان، إذا ما أردت أن أكمل دراستي الجامعية، فأنا، حتى تلك الساعة لم أكن قد راجعت سوى أسئلة ثلاث سنوات سابقات، ولم يتبقَ أمامي سوى ساعتين لأراجع أسئلة العامين السابقين، فماذا أفعل؟
أخيرًا، قررت أن أذهب إلى والدي وأبلغه بما حدث، لكن؛ يبدو أن أمي لاحظت أنني أكابد أسئلة، لا أجد لها إجابات، فاقتربت مني، ومسحت بيمناها على شعري، وقالت: اسمع؛ لو أنك أيقظت والدك، أو ذهبت إلى سارة، وأقلقتها، أو جاء كل الأهل في الحارة، فماذا سيفعلون لأجلي، لا شيء، سينتظرون حتى الصباح، فإن لم أتحسن، سيأخذونني إلى الحكيم، فقلقك لا يعني شيئًا. عد إلى دروسك، ولا تهتم كثيرًا بفاطمة!
لا أذكر، كيف قضيت الساعتين الأخيرتين في تلك الليلة، لكنني، بالتأكيد، أعرف أنني راجعت فيهما أسئلة، تكرر منها سؤال أجبته بالكامل، وكان ذلك سببًا في تحسين علامة اللغة الإنجليزية.
في الصباح، قبل أن أذهب إلى مكان الامتحان، أبلغت والدي بما حدث، وحينما عدت إلى البيت مزهوًا بأنني أجبت عن كل أسئلة الامتحان، وأنني أتوقع أن أحصل على علامة مرتفعة. لكن؛ فرحتي لم تكتمل، فقد وجدت كل أهل البيت واجمين، ووجدت والدتي، وقد أحكمت على رأسها عَصْبَّة من القماش الأبيض، فأسرعت إليها ورميت بنفسي إلى حضنها، فنهرتني شقيقتي مريم، وقالت: على مهلك أمك مريضة.
مكثت كل ساعات النهار أحاول استنطاق كل أفراد أسرتي عن مرض أمي، غير أنهم جميعًا رفضوا الإفصاح، كان ردهم موحدًا، كأنهم متفقون على صيغته، كما هي الإجابات النوذجية في امتحانات الثانوية العامة، كانوا يقولون: حاجة بسيطة، بعد يومين تشفى.
أول الليل ذهبت كعادتي كي أنام، وأنتظر أمي لتوقظني قبل منتصف الليل، فأخبرتني شقيقتي مريم أن عليّ الاعتماد على نفسي حتى آخر امتحان، فوالدتي غير قادرة على متابعتي كما ظلت تفعل دائمًا، فصرخت فيها: كيف لها أن تفعل ذلك، ومرضها بسيط كما تقولون.
بعد أن نامت أمي، ناداني أبي، وأجلسني قربه، وقال لي: عليك الاعتماد على نفسك، أمك غير قادرة على رعايتك، فهي مصابة بالسكري، وهذا مرض خطير، تحتاج معه متابعات وراحة تامة.
حاولت بعد ذلك أن أنام، لكني لم أتمكن، فذهبت إلى طاولتي الصغيرة، وجلست على كرسي الحديد الخشن، وجهزت كتاب الكيمياء، وأسئلة السنوات السابقة، وأخذت أبحث عن التركيز، فلم أفلح. بقيت هكذا حتى الساعة الحادية عشرة، فقررت أن أنام، فقد كانت علامة الفصل في مادة الكيمياء جيدة، وتكفي لأنجح في الفصلين، فقد كنت قد قررت سابقًا أن لا أدخل علامة هذا المبحث في معدل التوجيهي.
وأنا أهم بالذهاب إلى فراشي، رأيت والدتي تحمل كأس شاي وسندويشة جبنة، وتضعهما على الطاولة، وتجلس عند العتبة تنظر إليّ بحنان.
2024-08-12