من يعتقد أن الامتين العربية والاسلامية ليستا في حالة حرب مفتوحة منذ قرنين على الأقل، فلا شك أنه يعيش في مجرة أخرى ومنفصل عن الواقع بشكل عجيب، هي حرب مفتوحة على امتداد عقود وتحديدا مع دول غربية على رأسهما بداية الصراع فرنسا وبريطانيا، ومع كل جيل تدور معركة طاحنة دموية، يستخدم فيها العدوما جادت به عبقريته من أدوات، ويستثمر في عجزنا أحيانا وأحيانا أخرى خيانة بعضنا للأمانة وللأمة.
ما يشهده عالمنا العربي اليوم، لا يخرج عن سياق هذا الصراع، الذي يتجلى بشكل أكثر وضوحا في الشرق الأوسط، ومن أخطر الوسائل المعتمدة لتحقيق هزيمة الأمتين، وتفتيتهما جغرافيا واجتماعيا وأخلاقيا وغيرها هي “الاعلام”، بدء من صناعة المعلومة ذاتها، سواء اختلاقها من العدم اوالتزوير والتغيير وفق المصلحة والهدف، الى ماكنة تسويقها ونشرها على أوسع نطاق، ومنها ما يزرع كالفيروس الفتاك في عقول ابناء الأمّتين، يعمل عمله ولا تظهر نتائج التدمير إلا بعد فترة تقتضيها طبيعته ومدى تقبلنا نحن لها.
لقد تحدثنا من قبل عن مبلغ نصف مليار دولار في مقال سابق، الذي وافق عليه الكونغرس الامريكي عام 2006 استجابة لطلب وتقرير السفير (حينها) جيفري فيلتمان، يُرصدُ خصيصا لتشويه صورة حزب الله وكل محور المقاومة، كما يتضح من القناة التي استثمرته “الوكالة الأمريكية للتنمية ومبادرة الشراكة الشرق-اوسطية” ولنا أن نضع تحت الشرق-اوسطية شحطتين باللّون الأحمر؛ لنا أن نتأمل جيدا حجم المبلغ الضخم، والذي يزيد عن حاجة دولة عربية مثل جزر القمر خمسة أضعاف. سياسة التشويه هذه وقلب الحقائق وتحريفها، جاء ذكر أدواتها تفصيلا كذلك في الكونغرس عاما بعد ذلك، ومن شخصية رسمية هي الأخرى رفيعة، ففي 2007 يدلي جيمس غلاسمن بشهادته، بصفته مسؤولا على قسم الدبلوماسية العامة فيقول، وأنقل لكم هنا نصه حرفيا: لقد أسسنا ألاف المواقع الاخبارية ودعّمنا عشرات الفضائيات (قطعا ليس من بينها المنار والعالم)، وتمويل آلاف المفكرين والكتاب ورجال دين ومثقفين الخ، هؤلاء لا يعملون لكي يحب الناس أمريكا، بل يزرعون كراهية الناس لأعدائها مثل نصر الله وخامنئي وشافيز والأسد…”. هذا كلام رجل مسؤول وموظف رسمي، هل يحتاج لشرح؟.
ووُثّق عام 2007 نتيجة تمدد شعبية المقاومة بعد انتصارها 2006، وليس مع أحداث سورية اليوم كما قد يلتبس على البعض. ولمن لا يعرف وزن وما يعنيه جيمس غلاسمن فأنصحه بالعودة للتعرف على سيرته الذاتية.
سياسة الولايات المتحدة هذه حيال قضايا الأمتين، والمؤسسة على اختلاق الأكاذيب وتزوير الحقائق ليست قطعا وليدة الأزمة السورية، بل تعود لعقود من الزمن، ولعل آخرها كانت مع العراق، وفضيحة الكيماوي ومهزلة كولن باول في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، لصناعة مصوغ من الوهم، ثم تسويقه للعالم، فيكون مبررا شرعيا لاحتلال بلد عربي بتشريع من حكام عرب، ليس هذا إذن بجديد، ولكن الجديد هووسائل الاعلام التي تضاعفت عددا، وتطورت بشكل ملحوظ تأثيرا، ووسائل التواصل التي تمددت شبكتها لتغطي معظم أنحاء العالم العربي، لتنتقل عبرها سيول الأكاذيب بسرعة مذهلة، أشبه بموج التسونامي الذي لا يمهل العقول لحظة لتنجوبمنطق تفكير وتأمل، ويجرفها السيل حيث اراد صاحبه.
وحتى لا أتهم أحدا من بعض علماء الأمة وكتابها ومثقفيها، بانضمامه طوعا أوجهلا لزمرة جيمس غلاسمن، أقف مع القارئ على جزئية كمثل، والتي أفرزت مواقف بالغة الخطر، وتصريحات وكتابات وخطب جمعة، تدفع جميعها الأمة الى التقاتل أكثر واستثارة نعرات لا تؤدي إلا للهلكة، دون ذرة تفكير من أصحابها، هكذا أزعم لأن لا أتهم أحدا بالخيانة العظمى؛ إنها قضية تدخل “حزب الله” في القصير.
وأحرص هنا على التأكيد، بأنني لست بوارد مناقشة أحقية تدخل حزب الله من عدمها، وإنما عن المعلومة ذاتها والاعلام.
المعروف أن أحداث سورية بدأت 2011/03/15، وأول اعلان رسمي يحمل تهديدا بتدخل حزب الله في القصير، جاء تحديدا عامين بعد بدء الأحداث، في خطاب لأمينه العام 2013/04/30، لم تنقل وسائل الاعلام ولا كتب رجال الفكر ولا خطب علماء الأمة (أعني هنا من يقفون ضد محور المقاومة) على امتداد عامين، عبارة “آلاف المقاتلين من حزب الله” وأخرى “عشرات الآلاف من مقاتلي حزب الله”، نعم كانت تشير لتدخل حزب الله في سورية ولكن بعبارة “عشرات المقاتلين”؛ لكن بعد تهديد السيد حسن نصر الله، ارتفعت الأرقام والتوصيفات الى عشرات الآلاف وجيش وغيرها من المفردات. لم يتوقف أصحاب هذا التقدير والعرض عند أسئلة موضوعية، يفترض أنها تطرح بشكل تلقائي منها: أين الجيش السوري؟
هل يملك حزب الله عشرات الآلاف من عناصر النخبة؟ وهل لديه امكانية إخلاء معظم مواقعه في لبنان وهوالمستهدف داخليا وخارجيا؟.
لكن السؤال الأخطر بالنسبة للكاتب: من اين جاء هؤلاء بهذه المعلومة؟ قطعا ليس عن معاينة ميدانية، ولا شك أنهم في قطيعة مع قيادتها، والقُصير محاصرة فلا يمكن لمن بداخلها أن يميز عناصر حزب الله من غيرها، فضلا عن تقدير عددها بعشرات الآلاف؛ أئمة وكُتّاب وسياسيون من الصف الأول، يعلنون على الأمة، وبشكل قاطع لا يحتمل تكذيبا، بأن عشرات الآلاف من حزب الله “الشيعي”، تهاجم القصير الذي تسكنه لحظة الأحداث تحديدا غالبية “سنية” من المدنيين. نقول لحظة الأحداث لأن مسحا ميدانيا قامت به جامعة كولومبيا (الأمريكية) عام 2009، تضمنته دراسة للتوزع الطائفي في سورية، تفيد بأن نسبة السنة في القصير لا تزيد عن %20، ألفت عناية القارئ لتاريخ الدراسة وصاحبها (الولايات المتحدة- 2009 عامين قبل الأزمة.
هل الأمر صدفة؟).وهكذا وببساطة شديدة اُسقط من المشهد 350 ألف عسكري سوري، جيش ضخم وجبار لا أثر له ولا لعدته. كيف؟ هكذا أراد القوم.
لا أحد من هؤلاء العلماء والكتّاب كلف نفسه، وذهب الى سورية أولبنان، واستوضح من المصادر المسؤولة عن حالة “القصير” حقيقة الوضع، فضلا عن كونه يتفحصها على أرض الواقع؛ لم يستعرض الاسئلة الموضوعية السابقة الذكر، ويقف على اجابات عقلانية أيا كان موقفنا من حزب الله؛ مع أنه يعلم بأن وراء تصريحاته ومقالاته وخطبه، دماء وأرواحا وجراحا وأراملا ويتامى، وألف واوعطف لا تنتهي إلا بـــ وموقفا يوم القيامة. كان سهلا ومُجازا لكتاب ومفكرين وحتى علماء دين، التنقل بأنفسهم على ما يمثلونه من قيمة “حساسة” الى البيت الأبيض، لاستجداء قادته تدخلا عسكريا في سورية، بعد أن شاهدوا وشهدوا على تدخل أمريكا العسكري ونتائجه المروعة والوخيمة على الأمة في افغانستان والصومال والعراق وليبيا، وقبل كل هذا تدخلها المتواصل في فلسطين السليبة، لتبقى محتلة بأيدي اسرائيلية ولكن بسلاح أمريكي ودعم مالي وغطاء سياسي؛ نعم ذهب إليه نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين في 2013/06/12، ولم يرى غضاضة ولا كراهية في طرق أبواب هذه الدولة التي أذاقت الأمة صنوفا من الظلم والابادة الجماعية والاحتلال ونهب الثروات والتشريد ما لم تفعله مع غيرها، ويبدوأنه حرام الانتقال الى بيروت أودمشق لمجرد معرفة الواقع؛ بل حتى ان اقتضى الأمر الاستجداء فليكن مع حسن نصر الله بدل باراك اوباما؛ هنا يحضرني موقف الحسن البصري رضي الله عنه، حين أحلّ لرجل زوجته بعد أن طلقها ثلاثا إن كان الحجّاج في الجنة، فلما سئل عن ذلك كان رده: إن كان الحجاج على قتله الناس وهدمه الكعبة وغيرها من الجرائم، قد تسعه رحمة الله فيدخله الجنة، فكيف تضيق بهذا الرجل وكل ما فعله أنه زنى بامرأة واحدة كانت زوجته !!إذا كان حلالا التواصل مع امريكا على ما فعلت واستجداؤها، فالتواصل مع القيادة السورية وحزب الله فرض عين، بل ركن من أركان الدين لا يصح الا به.
أخيرا، أزعم أني متابع لحزب الله منذ عقدين، لذلك لم يلتبس علي أمر تدخله في القصير، لكن بما أن الأمر يتعلق بالرأي العام ومصداقية صحيفة “رأي اليوم”، لم يكن كافيا الادلاء برأيي في الموضوع، دون أن أفعل ما أدعوغيري للعمل به، وهنا اقتضت الحال أن أنتقل بنفسي لمن هوالمسؤول الأول عن ملف القصير، والمخول بالحديث عن تفاصيله، كان ذلك مباشرة بعد انتهاء العمليات العسكرية 2013/07/05، وعلمت منه أن عدد عناصر حزب الله التي تدخلت لم يزد عن 600 عنصر، في حين أن عناصر الجيش السوري كانوا بالآلاف، وأن تدخل حزب الله لم يكن أبدا بطلب من القيادة السورية، إنما رأى محور المقاومة الذي لا يخفي نفسه، بأن هناك مصلحة استراتيجية تستوجب ذلك، لم يكتشفها العدوالاسرائيلي إلا بعد مضي عام عن الأحداث، وبات يعلنها بشكل متكرر هذين الشهرين الأخيرين.
صحيح أن عناصر حزب الله كما وصفهم صاحبي يعدل الواحد منهم ألفا، لكن العدد كما ذكرت، وقد حقق الجيش العربي السوري الهدف المتوخى من سماحه بتدخل حزب الله، كما الأخير حقق هدفه، وفي النهاية هي اهداف متكاملة تصب مجتمعة في خدمة خطة تتجاوز كثيرا جزئية القصير، بل يمكنني القول أنها تتجاوز جغرافيا سورية. قد نأتي على عناوينها في المستقبل القريب.
ختاما، أعلم بأن هناك وبتلقائية ودون اعمال فكر من يُكذّب عدد 600 عنصر، ويصّر على أنه آلافا أوعشرات الآلاف، ولكن أسأله بموضوعية وهدوء: هذه معلومة جاء بها الكاتب من المصدر الأول على “القصير”، مسؤول عن صحتها وصحة نقلها، في المقابل هل من تعتمده مصدرا موثوقا فعل نفس الشيء؟ يعني تحقق بنفسه وتنقل حيث يجب أم اكتفى بما يردده من استسهلوا التنقل للولايات المتحدة، ويكتبه البعض من خلف مكاتبهم في عواصم الملائكة والضباب، ويجتره بعض الائمة في عواصم عربية من على منابرهم بناء على اتصالات هاتفية وتقارير اعلامية؟
هؤلاء السادة علماء دين ومفكرون وكتاب وفضائيات ومواقع اخبارية، الذين يرجمون بالغيب، ومهما عرضت من أدلة كذبوها دون أن يقدموا سندا ملموسا، ألا يجعل المرء يتساءل بجدية عن فاعلية ما تضمنه تقرير جيمس غلاسمن؟.
ملاحظة: تفاصيل كثيرة عسكرية عرفها الكاتب حول أحداث القصير من مصادرها في يومها، لكن التزاما منه بطلب المصدر بعدم نشرها لم يعرضها للرأي العام، فنحن في معركة طاحنة، ولسنا في سبق صحفي قد يودي بهلاك الناس، لهذا لم أنشر هذا التفصيل إلا بعد مرور عام عن الأحداث، وقد ألمح منذ فترة قصيرة الأمين العام لحزب الله الى العدد أنه لا يتجاوز الألف دون تحديده.
13/6/2014
لأهمية المقال تم اعادة نشره..المقال منشور في مدونة الكاتب أسماعيل القاسم الحسن