خلال مكالمة هاتفية في أول أيام العام الجديد بين وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن ووزير خارجية الكيان الصهيوني إيلي كوهين، كان هناك تأكيد كما العادة على دعم أمريكا اللا محدود للكيان. وكان هناك كلام هام يتعلق بتهديد إيران والاتفاق النووي، حيث نقل بلينكن عن الرئيس جو بايدن أن الاتفاق ولد ميتاً، إضافة إلى التأكيد على تفعيل قمة النقب وجعلها دورية والشأن الفلسطيني، وفي هذا حديث طويل. وأخيراً وليس آخراً، كان تصريح بلينكن أن “الإدارة الأمريكية تنوي تجنيد دول أوروبا لتشديد العقوبات على إيران”، وقد بارك كوهين من جهته الموقف الأمريكي وكرر موقف “إسرائيل” بوجوب “زيادة الضغط على إيران وعدم العودة إلى الاتفاق النووي”.
الكلام حول الضغط على أوروبا كلام وقح ولكنه ملفت، ويستنتج منه أن الولايات المتحدة باتت تتحدث بصراحة عن دورها الحالي في أوروبا وعن التحكم بالسياسات الأوروبية بحيث إنها باتت توجهها عن بعد لمصلحة “اسرائيل”. وأن ما يحدث في أوروبا اليوم من انهيار اقتصادي بسبب الحرب الأوكرانية هو صناعة أمريكية 100%، وأوروبا جُرّت إليها كما تُجَر الشاة إلى المسلخ.
والأوروبيون يعلمون أن الموقف الذي وُضِعوا فيه هو صناعة أمريكية، ويؤكد ذلك المخاوف الجدية التي أعلن عنها ممثل السياسة الخارجية جوزيب بوريل في نهاية العام الماضي، معترضاً على التشريع الجديد الذي وضعته الولايات المتحدة في تقديم المساعدات للشركات التي تنتج سلعاً عبر استخدام تقنيات صديقة للبيئة، ولكن داخل الأراضي الأميركية. وقد أشرنا خلال مقال في العهد: “في الحرب الإقتصادية: أمريكا ربة المنزل.. وأوروبا الشغالة”، عن حجم الضرر الذي تتعرض له أوروبا بسبب هذا القانون الذي يهدف لجذب الشركات التي تعمل في أوروبا إلى الولايات المتحدة، وأنه لا بد أن ينعكس ذلك وبالاً إضافياً على الاقتصاد الأوروبي.
لقد قالها بوريل صراحة، أن ذلك سيضر بالمصنعين الأوروبيين وبالعلاقات التجارية الأوروبية الأميركية، وأن ذلك يتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية، وأن “الاتحاد الأوروبي لا يملك قدرة مالية لمساعدة الشركات مماثلة لتلك الموجودة في واشنطن، واعتماد سياسات مماثلة لها يمكن أن يؤدي إلى تفكيك سوقنا المحلي”. الغريب أنه عندما يتحدث الأوروبي بهذه اللغة المحذرة، لا يفهم منه إذا ما كان يحذر الأوروبيين أم يحذر أميركا من الانهيار الاقتصادي الأوروبي. فإذا كان يحذر الولايات المتحدة، فقد أسمع إذ نادى حياً، ولكن لا حياة لمن تنادي، وإذا كان يحذر أوروبا فهو ينادي من هو بحكم شبه الميت.
لقد قتلت أوروبا يوم قتل الثور الأبيض! والمقتول هنا كان، وبكل صراحة، ليبيا. والفرق بين أوروبا وروسيا، أن الأخيرة تعلمت الدرس في ليبيا، وبعد خروج شركاتها العاملة هناك بعد الفورة المزعومة، اتخذت موقفاً مغايراً تماماً في سوريا ووقفت مع الصين ضد استصدار قرارات مجلس الأمن لقصف سوريا على الطريقة الليبية. لقد كان لأوروبا في عهد القذافي استثمارات هامة وخاصة بعد اطلاق معمر القذافي في العام 2007، الرئيس الليبي السابق، سراح الممرضات اللواتي حقنّ أطفال ليبيا بفايروس الإيدز. والقضية ما تزال قريبة من الذاكرة، وقع يومها نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي اتفاق استثمار بقيمة عشرات مليارات الدولارات. وقبلها وقعت اتفاق صداقة ما بين إيطاليا وليبيا. وكانت شركات “تام أويل” الليبيّة تملك محطات لتزويد الأوروبيين بالمحروقات في جنوب أوروبا. وكانت إيطاليا تستورد نحو 10% من حاجتها الإجمالية من النفط. وقد طورت ليبيا منذ العام 2008 علاقات جيدة مع الاتحاد الأوروبي، وفي العام 2010، وصلت أوروبا إلى توقيع اتفاق إطار للتعاون وتأمين الطاقة. وزار ليبيا في تشرين الأول/ اكتوبر المفوض الأوروبي، شتيفان فووله، وعلق قائلاً: “تطورت ليبيا بشكل جيد”.
في العام 2011، تكالبت الصحافة الأوروبية من أجل دفع حكوماتها للوقوف إلى جانب الفورات التي حدثت في الدول العربية، كما تكالبت من أجل دعم المتظاهرين في إيران في العام 2011، وقد نشرت الدويتشه فيله في شباط/ فبراير 2011 مقالاً بالعربية ترجمت فيه أقوال الصحف بوجوب الوقوف إلى جانب التظاهرات والفورات والاضطرابات في المنطقة العربية وإيران، وانتقدت العلاقات مع ليبيا منذ العام 2006. ومن يريد أن يقيس حجم هيمنة الإعلام الغربي في صناعة الرأي عليه أن يقرأ ما كتبه الفيلسوف والروائي التشيكي/ الأميركي أندريه فليتشك بعنوان “لقد أعمتنا الدعاية الغربية”، وفي جملة ما يقول: “كيف قمنا ببيع الاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا، مقابل أكياس التسوق البلاستيكية!” في مقال يصف فيه قوة الإعلام الغربي وبخاصة الـ BBC بعد انهيار جدار برلين.
بعد تحريض 2011 الإعلامي، فجأة ابتدأ تطور المحادثات حول الاتفاق النووي مع إيران، ووقع في العام 2015، وابتدأت الاستثمارات الأوروبية في إيران مما عوض ولو جزئياً الخسارة الأوروبية في العراق وليبيا على التوالي. وبعد مجيء ترامب وإلغاء الاتفاق ابتدأ الانهيار الأوروبي، والذي كانت أوروبا تتخبط بعد الغائه وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بطلب من ترامب كمن مسه الجن، لقد وقعت في فخ أميركي محكم.
هذا غيض من فيض ما خسرته أوروبا من استقلاليتها الاقتصادية في سياساتها التابعة لأمريكا، حين قتلت الثور الأبيض بمساعدة الذئب الأميركي، وكانت احدى كبريات الشركات النفطية الفرنسية توتال قد خسرت موقعها في العراق خلال الحرب عليه، واستولت الولايات المتحدة على استثمارات آبار النفط في كل من العراق وسوريا. وحين بدأت أوروبا بمساندة الذئب على محاولة الفتك بالثور الرمادي، أي روسيا، انهارت، واليوم حان وقت أوروبا، عفواً الثور الأسود.
لا أحد يعلم ماذا يدور فعلياً في الكواليس، لأن الإعلام الأوروبي يقع تحت سيطرة الصهيونية العالمية، تماماً كما تدير الصهيونية المؤسسات الإعلامية الضخمة في أمريكا. ولا يستطيع المواطن الأوروبي أن يتخذ أية مواقف لأنه يتخبط واقعاً تحت عبئين، الأول عبء التضخم الاقتصادي الذي باتت ترزح تحته أوروبا، وخاصة مع تعطل عمل الشركات فيها وتفشي رعب البطالة. والعبء الثاني، هو التجهيل والدعاية ضد روسيا في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وعجز هذا الإعلام عن فضح المصلحة الأميركية في جر أوروبا وروسيا نحو الحضيض.
وبذلك نعود للكلام الذي قاله بلينكن لكوهين حول تجنيد أوروبا من أجل تشديد العقوبات على إيران. ولمصلحة من سيكون هذا التجنيد؟ كما العادة هذا التجنيد سيكون لمصلحة “أمن إسرائيل”، و”اسرائيل الآمنة”، وبناء الهيكل المزعوم. وليس من الممكن في الوقت الحالي لأوروبا التفلت من إجراءات الحصار التي يمكن للولايات المتحدة أن تفرضها عليها عبر برنامج تحويل الأموال سويفت، الخاضع لسلطة الولايات المتحدة، والذي استطاعت عبره في العام 2001، فرض رفع السرية المصرفية في البنوك السويسرية. إن كلًّا من روسيا والصين تعملان منذ العام 2016، على وضع برامج لتحويل الأموال خارج سيطرة برنامج السويفت، إلا أن أوروبا مع الكفاءات العلمية التي تتمتع بها ما زالت تحت سيطرة البرنامج الذي يمكنه أن يفرض العقوبات على شركاتها ومصانعها وحكوماتها في حال خروجها عن القرار الأميركي، وقد هدد بفعل ذلك ترامب ونفذه.
الوضع الحالي لأوروبا لا يختلف عن وضع جمهوريات “الموز” التي يحكى عنها، وليس من أمل أمامها سوى العودة إلى نقل الأموال بواسطة البريد، وإنقاذ ما تبقى من ماء وجهها الذي خسرته يكون بعودتها للوقوف إلى جانب روسيا ووقف مهزلة الحرب في أوكرانيا، وإلا فشعوبها لا بد ستنقلب عليها عندما يقرص البرد والجوع أمعاء أبنائها، وهنا اللعبة الأميركية ستتجلى بمزيد من الديون يقرضها البنك الدولي لباقي الدول المتماسكة فيها، مثل ألمانيا وفرنسا، وسيوقعها في فخ التجنيد إلى الأبد.