تأطير فلسطين، إسرائيل ودول الخليج والقوة الأميركية في الشرق الأوسط!
آدم هنية
13 يونيو 2024
تقديم وترجمة: غانية ملحيس*
تقديم: مقال آدم هنية بالغ الأهمية خصوصا في هذه المرحلة المفصلية لفهم الترابط العضوي بين الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيونى والولايات المتحدة الأمريكية والغرب الاستعماري.
فالمشروع الخاص بإقامة مركز استيطاني يهودي في فلسطين يخضع لسيطرة الحركة الصهيونية العالمية، مكون أصيل في المشروع الإمبريالي الغربي العام للسيطرة على عموم المنطقة الجيو – سياسية الأهم. سواء من حيث الموقع الاستراتيجي في مركز العالم، أم من حيث كونها الأغنى في احتياطيات الطاقة/ النفط/. ما يكسب السيطرة عليها دورا رئيسا في ترجيح موازين القوى على الصعيد العالمي.
تنطوي أهمية المقال في أنه يسلط الضوء على طبيعة الترابط المصيري بين أعضاء التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري ومرتكزاته وامتداداته الإقليمية/ إسرائيل والأنظمة العربية/. – الذي كشفته معركة طوفان الأقصى – وأظهرت، أيضا، التحولات التكوينية التي طرأت على الصراعات الدولية، وباتت تشمل تحالفات النخب ضد الشعوب، وتتجاوز القوميات والأعراق والأديان والمعتقدات، رغم استمرار توظيفها الاستقطابي لإدامة سيطرة العرق الأنجلو-ساكسوني الأبيض. وإطالة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي.
كما تكمن أهمية المقال في أنه يوفر إطارا شموليا لفهم الصراع الوجودي الفلسطيني – الإسرائيلي وتشابكاته المحلية، والعربية، والإقليمية، والدولية. والتي تتجلى في التصدي الجماعي لطوفان الأقصى، بحرب إبادة جماعية يتواطأ فيها الجميع، وتطال الإنسان والمكان والتاريخ. لقمع التمرد الفلسطيني ومحاصرة مناصريه الآخذين في التنامي على امتداد العالم. ذلك أن النضال التحرري الفلسطيني بات جزءا أساسيا من دفع عملية التغيير السياسي في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط- التي أصبحت أحد أكثر مناطق العالم استقطابا اجتماعيا، وتفاوتا اقتصاديا، وتأثرا بالصراعات العالمية. ما يجعل مآل الصراع الوجودي الذي يخوضه الشعب الفلسطيني ضد حرب الإبادة الجماعية التي تشنها عليه إسرائيل وثيق الصلة بنجاحات وإخفاقات النضال السياسي والاجتماعي في الإقليم العربي والشرق أوسطي من جهة، وبمجمل النضالات المعاصرة من أجل الحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ومواجهة الأخطار المناخية التي تواجهها البشرية على امتداد العالم من جهة أخرى. وبات يتعذر فصله عن هذه الحقائق. ويجعل النضال التحرري الفلسطيني اليوم الطليعة في النضال من أجل مستقبل الشعوب في جنوب الكرة الأرضية خصوصا، ومستقبل البشرية ومستقبل الكوكب عموما.
وعليه فان المدخل الشمولي لفهم الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يسهل فهم ما يبدو مستعصيا على البعض لتفسير التجاذبات والخلافات الأمريكية – الإسرائيلية الراهنة. فهي ليست عجزا أمريكيا عن لجم إسرائيل بسبب نفوذ اللوبي الصهيوني كما يحلو للبعض تفسيره. كما أنها ليست تمردا من نتانياهو وائتلافه الحاكم على الولايات المتحدة الأمريكية كما يعتقد ويروج كثيرون. وإنما هو اختلاف بين الشركاء حول اقتسام الأعباء في حرب واحدة، تبدو محدودة جغرافيا، لكن تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية الخ…، تنذر بتسارع تحولها إلى حرب مصيرية لن تقتصر تأثيراتها على فلسطين والمنطقة العربية والإقليم، وإنما تطال مستقبل إسرائيل ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وعموم النظام الدولي أحادي القطبية الآيل للسقوط.
وفيما يلي ترجمة للمقال
” تأطير فلسطين
إسرائيل ودول الخليج والقوة الأميركية في الشرق الأوسط
آدم هنية
نهج بديل لفهم فلسطين – نهج مؤطر بالمنطقة الأوسع والمكانة المركزية للشرق الأوسط في عالمنا الذي يركز على الوقود الأحفوري.
على مدى الأشهر السبعة الماضية، أحدثت حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل في غزة موجة غير مسبوقة من الاحتجاج العالمي والوعي حول فلسطين. نزل الملايين من الناس إلى الشوارع، وانتشرت المخيمات في الجامعات في جميع أنحاء العالم، وقام النشطاء الشجعان بإغلاق الموانئ ومصانع الأسلحة، وهناك اعتراف عميق بأن حملة عالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى. وقد تعززت قوة هذه الحركات الشعبية من خلال الاهتمام الهائل الذي حظيت به قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية – وهي القضية التي سلطت الضوء ليس فقط على حقيقة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، ولكن أيضا على تعنت الدول الغربية الرائدة في دعم سلوكيات إسرائيل في قطاع غزة وخارجه. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الارتفاع العالمي في التضامن مع فلسطين، ما تزال هناك العديد من المفاهيم الخاطئة في كيفية مناقشة موضوع فلسطين وتأطيره بشكل عام.
في كثير من الأحيان، ينظر إلى السياسة تجاه فلسطين ببساطة من خلال عدسة إسرائيل والضفة الغربية وغزة، متجاهلة الديناميكيات الإقليمية الأوسع في الشرق الأوسط، والسياق العالمي الذي يعمل فيه الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
وعلى نحو مماثل، غالبا ما يتم تقليص التضامن مع فلسطين إلى مسألة انتهاكات إسرائيل الجسيمة لحقوق الإنسان والانتهاكات المستمرة للقانون الدولي – عمليات القتل والاعتقالات والتشريد التي عانى منها الفلسطينيون منذ ما يقرب من ثمانية عقود.
المشكلة في الإطار المتعلق بحقوق الإنسان تكمن في أنه ينزع الصفة السياسية عن النضال الفلسطيني، ويفشل في تفسير سبب استمرار الدول الغربية في دعم إسرائيل بشكل لا لبس فيه. وعندما يثار هذا السؤال الحاسم حول الدعم الغربي، يشير كثيرون إلى “لوبي مؤيد لإسرائيل” يعمل في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية باعتباره السبب ــ وهي وجهة نظر زائفة وخطيرة سياسيا تخطئ في فهم العلاقة بين الدول الغربية وإسرائيل بشكل أساسي.
هدف هذه المقالة هو تقديم نهج بديل لفهم فلسطين ــ نهج مؤطر بالمنطقة الأوسع والمكانة المركزية للشرق الأوسط في عالمنا الذي يركز على الوقود الأحفوري.
وتتلخص الحجة الرئيسية في أن الدعم غير المحدود من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرائدة لإسرائيل لا يمكن فهمه خارج هذا الإطار.
وباعتبارها مستعمرة استيطانية، كانت إسرائيل حاسمة في الحفاظ على المصالح الإمبريالية الغربية ــ وخاصة مصالح الولايات المتحدة ــ في الشرق الأوسط. وقد أدت هذا الدور إلى جانب الركيزة الرئيسية الأخرى للسيطرة الأميركية في المنطقة: الممالك العربية الخليجية الغنية بالنفط، وخاصة المملكة العربية السعودية. إن العلاقات سريعة التطور بين الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة تشكل أهمية أساسية لفهم اللحظة الحالية، خاصة في ظل الضعف النسبي للقوة العالمية الأميركية.
التحولات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والشرق الأوسط
لقد كان هناك تحولان عالميان رئيسيان يحددان النظام العالمي المتغير في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة.
التحول الأول: كان ثورة في أنظمة الطاقة العالمية: يتمثل في ظهور النفط كوقود أحفوري رئيسي في العالم، ما أدى إلى إزاحة الفحم وغيره من مصادر الطاقة في جميع الاقتصادات الصناعية الرائدة.
حدث هذا التحول في الوقود الأحفوري أولا في الولايات المتحدة، حيث تجاوز استهلاك النفط في العام 1950 استهلاك الفحم.
تلا ذلك أوروبا الغربية واليابان في الستينيات.
وفي جميع البلدان الغنية الممثلة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. إذ شكل النفط أقل من 28٪ من إجمالي استهلاك الوقود الأحفوري في العام 1950، وبحلول نهاية الستينيات بلغت حصة النفط الأغلبية.
وبفضل كثافته العالية من الطاقة، ومرونته الكيميائية، وسهولة نقله، كان النفط هو المحرك للرأسمالية المزدهرة في فترة ما بعد الحرب – والتي دعمت مجموعة من التقنيات والصناعات والبنية الأساسية الجديدة.
كانت هذه بداية ما وصفه العلماء فيما بعد بـ “التسارع العظيم” – التوسع الهائل والمستمر في استهلاك الوقود الأحفوري الذي بدأ في منتصف القرن العشرين، والذي أدى بلا هوادة إلى حالة الطوارئ المناخية اليوم.
كان هذا التحول العالمي نحو النفط مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتحول الرئيسي الثاني بعد الحرب: ترسيخ الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وسياسية رائدة.
بدأ الصعود الاقتصادي للولايات المتحدة في العقود الأولى من القرن العشرين، لكن الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة الظهور الحاسم للولايات المتحدة باعتبارها القوة الأكثر ديناميكية في الرأسمالية العالمية، ولم يعارضها سوى الاتحاد السوفييتي والكتلة المتحالفة معه.
نشأت القوة الأمريكية على خلفية الدمار الذي لحق بأوروبا الغربية أثناء الحرب، إلى جانب إضعاف الحكم الاستعماري الأوروبي على جزء كبير مما يسمى بالعالم الثالث.
ومع تعثر بريطانيا وفرنسا، تولت الولايات المتحدة زمام المبادرة في تشكيل بنية السياسة والاقتصاد بعد الحرب، بما في ذلك النظام المالي العالمي الجديد الذي يركز على الدولار الأمريكي.
بحلول منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة تسيطر على 60% من الناتج الصناعي العالمي وأكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي ــ وكانت 42 من أكبر 50 شركة صناعية في العالم أميركية.
ولقد كان لهذين التحولين العالميين ـ التحول إلى النفط وصعود القوة الأميركية ـ آثار عميقة على الشرق الأوسط. فمن ناحية، لعب الشرق الأوسط دورا حاسما في التحول العالمي نحو النفط. فقد كانت المنطقة تتمتع بوفرة من إمدادات النفط، التي بلغت نحو 40% من احتياطيات العالم المؤكدة في منتصف الخمسينيات. وكان نفط الشرق الأوسط يقع أيضا على مقربة من العديد من البلدان الأوروبية، وكانت تكاليف إنتاجه أقل كثيرا من تكاليف إنتاج النفط في أي مكان آخر من العالم. وعلى هذا فقد أصبح من الممكن إمداد أوروبا بكميات غير محدودة من نفط الشرق الأوسط المنخفض التكلفة، بأسعار أقل من أسعار الفحم، مع ضمان بقاء أسواق النفط الأميركية المحلية معزولة عن تأثيرات الطلب الأوروبي المتزايد.
وكان تركيز إمدادات النفط الأوروبية على الشرق الأوسط عملية سريعة إلى حد ملحوظ: ففي الفترة من عام 1947 إلى عام 1960، تضاعفت حصة أوروبا النفط المستخرج في المنطقة من 43% إلى 85%. ولقد أدى هذا إلى ظهور صناعات جديدة (مثل البتروكيماويات) فضلا عن أشكال جديدة من النقل والصناعات العسكرية.
والواقع أن التحول النفطي في أوروبا الغربية ربما لم يكن ليحدث أبدا لولا الشرق الأوسط. فمعظم احتياطيات النفط في الشرق الأوسط تتركز في منطقة الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأصغر حجما، فضلا عن إيران والعراق. وخلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت هذه البلدان خاضعة لحكم ملكيات استبدادية تدعمها بريطانيا (باستثناء المملكة العربية السعودية، التي كانت مستقلة اسميا عن الاستعمار البريطاني). وكان إنتاج النفط في المنطقة خاضعا لسيطرة حفنة من شركات النفط الغربية الكبرى، التي كانت تدفع الإيجارات والإتاوات لحكام هذه الدول مقابل الحق في استخراج النفط. وكانت هذه الشركات النفطية متكاملة رأسيا، وهذا يعني أنها لم تتحكم في استخراج النفط الخام فحسب، بل وأيضا في تكرير النفط وشحنه وبيعه في مختلف أنحاء العالم. وكانت قوة هذه الشركات هائلة، حيث كانت سيطرتها على البنية الأساسية لتداول النفط تسمح لها باستبعاد أي منافسين محتملين.
لقد تجاوز تركيز الملكية في صناعة النفط إلى حد كبير ما شهدناه في أي صناعة أخرى. ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، كان أكثر من 80% من احتياطيات النفط العالمية خارج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تحت سيطرة سبع شركات أميركية وأوروبية كبيرة فقط ــ ما يسمى “الأخوات السبع”.1
إسرائيل والثورة المناهضة للاستعمار
على الرغم من قوتها الهائلة، ومع تحول الشرق الأوسط إلى مركز لأسواق النفط العالمية خلال الخمسينيات والستينيات، واجهت شركات النفط هذه مشكلة كبرى. فكما حدث في أماكن أخرى من العالم، تحدت مجموعة من الحركات القومية والشيوعية وغيرها من الحركات اليسارية القوية الحكام الذين دعمهم الاستعمار البريطاني والفرنسي، وهددت بإزعاج النظام الإقليمي الذي تم بناؤه بعناية. وقد شهدت مصر هذا الأمر بشكل أكثر حدة، حيث أطيح بالملك فاروق المدعوم من بريطانيا في عام 1952 في انقلاب عسكري قاده ضابط عسكري يتمتع بشعبية كبيرة، جمال عبد الناصر. وأجبر وصول عبد الناصر إلى السلطة القوات البريطانية على الانسحاب من مصر وأدى إلى حصول السودان على الاستقلال في عام 1956. وتوجت السيادة المصرية المكتسبة حديثا بتأميم قناة السويس التي تسيطر عليها بريطانيا وفرنسا في عام 1956 – وهو الإجراء الذي احتفل به ملايين الأشخاص في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقابله غزو فاشل لمصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وبينما اتخذ ناصر هذه الخطوات، كانت الصراعات المناهضة للاستعمار تنمو في أماكن أخرى من المنطقة، وأبرزها في الجزائر، حيث شنت حرب عصابات ضد الاحتلال الفرنسي في العام 1954 من أجل الاستقلال.
وعلى الرغم من تجاهلها في كثير من الأحيان اليوم، فإن هذه التهديدات للهيمنة الاستعمارية الطويلة الأمد كانت محسوسة أيضا في جميع أنحاء الدول الغنية بالنفط في الخليج. ففي المملكة العربية السعودية والممالك الخليجية الأصغر حجما، كان الدعم لناصر مرتفعا، واحتجت الحركات اليسارية المختلفة على الفساد والرشوة والموقف المؤيد للغرب من قبل الملكيات الحاكمة. وقد ظهرت العواقب المحتملة لهذا في إيران المجاورة، حيث تولى زعيم وطني شعبي، محمد مصدق، السلطة في العام 1951. وكان أحد أول أعمال مصدق السيطرة على شركة النفط التي تسيطر عليها بريطانيا، شركة النفط الأنجلو-إيرانية (سلف شركة بي بي اليوم) في أول تأميم للنفط في الشرق الأوسط. وقد لاقى هذا التأميم صدى قويا في الدول العربية المجاورة، حيث اكتسب شعار “النفط العربي للعرب” شعبية واسعة النطاق وسط المزاج العام المناهض للاستعمار.
في العام 1953، دبر مسؤولون استخباراتيون أميركيون وبريطانيون انقلابا ضد مصدق ردا على تأميم النفط في إيران، فوصلت إلى السلطة حكومة موالية للغرب وموالية لشاه إيران محمد رضا شاه بهلوي. وكان الانقلاب بمثابة البداية لموجة ثورية مضادة مستمرة موجهة ضد الحركات الراديكالية والقومية في مختلف أنحاء المنطقة.
كما أظهر الإطاحة بمصدق تحولا كبيرا في النظام الإقليمي: ففي حين لعبت بريطانيا دورا مهما في الانقلاب، كانت الولايات المتحدة هي التي تولت زمام المبادرة في التخطيط للعملية وتنفيذها. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تطيح فيها حكومة الولايات المتحدة بحاكم أجنبي في زمن السلم. وكان تورط وكالة المخابرات المركزية الأميركية في الانقلاب بمثابة مقدمة مهمة للتدخلات الأميركية اللاحقة، مثل انقلاب عام 1954 في غواتيمالا والإطاحة بسلفادور اليندي في تشيلي عام 1973.
وفي هذا السياق برزت إسرائيل كحصن رئيسي للمصالح الأميركية في المنطقة.
في السنوات الأولى من القرن العشرين، كانت بريطانيا الداعم الرئيسي للاستعمار الصهيوني لفلسطين، وبعد تأسيس إسرائيل في العام 1948، استمرت في دعم مشروع بناء الدولة الصهيونية. ولكن مع إزاحة الولايات المتحدة للهيمنة الاستعمارية البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، برز الدعم الأمريكي لإسرائيل باعتباره المحور الرئيسي لنظام أمني إقليمي جديد. وكانت نقطة التحول الرئيسية هي حرب العام 1967 بين إسرائيل والدول العربية الرائدة، والتي شهدت تدمير الجيش الإسرائيلي للقوات الجوية المصرية والسورية واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء (المصرية) ومرتفعات الجولان (السورية).
حطم انتصار إسرائيل حركات الاستقلال الوطني والوحدة العربية والمقاومة ضد الاستعمار التي تبلورت بشكل حاد في مصر ناصر.
كما شجع الولايات المتحدة على أن تصبح الراعي الرئيسي لإسرائيل، لتحل محل بريطانيا. ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، بدأت الولايات المتحدة في تزويد إسرائيل سنويا بمليارات الدولارات من المعدات العسكرية والدعم المالي.
أهمية الاستعمار الاستيطاني
لقد أظهرت حرب العام 1967 أن إسرائيل قوة قادرة يمكن استخدامها ضد أي تهديد للمصالح الأمريكية في المنطقة. ولكن هناك بعد حاسم في هذا الأمر لا يتم ملاحظته في كثير من الأحيان: إن المكانة الخاصة التي تحتلها إسرائيل في دعم القوة الأمريكية ترتبط ارتباطا مباشرا بطابعها الداخلي كمستعمرة استيطانية، تأسست على التهجير المستمر للسكان الفلسطينيين. ويتعين على المستعمرات الاستيطانية أن تعمل باستمرار على تعزيز هياكل القمع العنصري، والاستغلال الطبقي، والتهجير. ونتيجة لهذا، فإنها عادة ما تكون مجتمعات عسكرية وعنيفة إلى حد كبير، وتميل إلى الاعتماد على الدعم الخارجي، مما يسمح لها بالحفاظ على تفوقها في بيئة إقليمية معادية.
وفي مثل هذه المجتمعات، يستفيد جزء كبير من السكان من القمع الذي يتعرض له السكان الأصليون، ويفهمون امتيازاتهم من منظور عنصري وعسكري.
ولهذا السبب، فإن المستعمرات الاستيطانية هم شركاء أكثر موثوقية للمصالح الإمبريالية الغربية من الدول الأصيلة التي تحكمها أنظمة عميلة .2
وهذا هو السبب في دعم الاستعمار البريطاني للصهيونية كحركة سياسية في أوائل القرن العشرين – ولماذا تبنت الولايات المتحدة إسرائيل في فترة ما بعد العام 1967.
بالطبع، هذا لا يعني أن الولايات المتحدة “تسيطر” على إسرائيل، أو أنه لا توجد اختلافات في الرأي بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية حول كيفية استدامة هذه العلاقة. لكن قدرة إسرائيل على الحفاظ على حالة دائمة من الحرب والاحتلال والقمع، ستكون معرضة للخطر بشكل عميق بدون الدعم الأمريكي المستمر (ماديا وسياسيا).
في المقابل، تعمل إسرائيل كشريك مخلص وحصن ضد التهديدات للمصالح الأمريكية في المنطقة. كما عملت إسرائيل عالميا في دعم الأنظمة القمعية المدعومة من الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم – من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلى الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية.
لقد قال ألكسندر هيج، وزير الخارجية الأميركي في عهد ريتشارد نيكسون، بصراحة تامة ذات مرة: “إن إسرائيل هي أكبر حاملة طائرات أمريكية في العالم لا يمكن إغراقها، وهي لا تحمل حتى جنديا أميركيا واحدا، وتقع في منطقة حرجة بالنسبة للأمن القومي الأميركي”.3
إن الارتباط بين الطبيعة الداخلية للدولة الإسرائيلية ومكانتها الخاصة في القوة الأميركية يشبه الدور الذي لعبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لصالح المصالح الغربية في مختلف أنحاء القارة الأفريقية. مع وجود
اختلافات مهمة بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي ــ ليس أقلها النسبة الغالبة من السكان السود في جنوب إفريقيا في الطبقة العاملة في البلاد (على النقيض من الفلسطينيين في إسرائيل) ــ ولكن باعتبارهما مستعمرتين استيطانيتين، أصبح البلدان بمثابة مراكز تنظيمية أساسية للقوة الغربية في مناطقهما.
وإذا فحصنا تاريخ الدعم الغربي لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فسوف نرى نفس المبررات التي نراها اليوم في حالة إسرائيل (ونفس المحاولات لمنع العقوبات الدولية وتجريم الحركات الاحتجاجية).
وتمتد هذه التشابهات إلى دور أفراد بعينهم. ومن الأمثلة غير المعروفة على ذلك الرحلة التي قام بها عضو شاب في حزب المحافظين البريطاني إلى جنوب أفريقيا في العام 1989، والتي جادل خلالها ضد العقوبات الدولية على جنوب أفريقيا، ودافع عن ضرورة استمرار بريطانيا في دعم نظام الفصل العنصري. وبعد عقود من الزمان، يشغل ذلك الشاب المحافظ الآن ديفيد كاميرون منصب وزير خارجية المملكة المتحدة ــ وهو أحد زعماء العالم الرئيسيين الذين يشجعون الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
والواقع أن مركزية الشرق الأوسط في اقتصاد النفط العالمي تمنح إسرائيل مكانة أكثر وضوحا في القوة الإمبريالية من تلك التي احتلتها جنوب أفريقيا في ظل نظام الفصل العنصري. ولكن الحالتين توضحان لماذا من الأهمية بمكان أن نفكر في الكيفية التي تتقاطع بها العوامل الإقليمية والعالمية مع الديناميكيات الطبقية والعرقية الداخلية للمستعمرات الاستيطانية.
التكامل الاقتصادي لإسرائيل في الشرق الأوسط
لقد أصبح الشرق الأوسط أكثر أهمية بالنسبة للقوة الأمريكية في أعقاب تأميم احتياطيات النفط الخام في معظم أنحاء المنطقة (وفي أماكن أخرى) خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وقد أدى التأميم إلى إنهاء السيطرة الغربية المباشرة على إمدادات النفط الخام في الشرق الأوسط (على الرغم من استمرار الشركات الأميركية والأوروبية في السيطرة على معظم عمليات التكرير والنقل وبيع هذا النفط على مستوى العالم).
وفي هذا السياق، كانت المصالح الأمريكية في المنطقة تدور حول ضمان إمدادات مستقرة من النفط إلى السوق العالمية ــ مقومة بالدولار الأميركي ــ وضمان عدم استخدام النفط كـ “سلاح” لزعزعة استقرار النظام العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية. وعلاوة على ذلك، ومع حصول منتجي النفط في الخليج الآن على تريليونات الدولارات من خلال تصدير النفط الخام، كانت الولايات المتحدة تشعر بقلق عميق إزاء كيفية تداول ما يسمى بدولارات النفط عبر النظام المالي العالمي ــ وهي مسألة تترتب بشكل مباشر على هيمنة الدولار الأميركي.
وفي سعيها إلى تحقيق هذه المصالح، أصبحت الاستراتيجية الأمريكية تركز بالكامل على بقاء الملكيات الخليجية، بقيادة المملكة العربية السعودية، كحلفاء إقليميين رئيسيين. وكان هذا مهما بشكل خاص بعد الإطاحة بالملكية البهلوية الإيرانية في العام 1979، والتي كانت ركيزة أساسية أخرى للمصالح الأميركية في الخليج منذ انقلاب العام 1953.
وقد تجلى الدعم الأميركي لملوك وأمراء الخليج في مجموعة متنوعة من الطرق ــ بما في ذلك بيع كميات هائلة من المعدات العسكرية التي حولت الخليج إلى أكبر سوق للأسلحة في العالم، والمبادرات الاقتصادية التي وجهت ثروات البترودولار الخليجية إلى الأسواق المالية الأميركية. والوجود العسكري الأمريكي الدائم الذي ما يزال يشكل الضمانة النهائية لحكم الممالك في الخليج.
وكانت الحرب بين إيران والعراق، التي استمرت بين عامي 1980 و1988، من أكثر الصراعات تدميرا في القرن العشرين (حيث لقي ما يصل إلى نصف مليون شخص حتفهم). خلال هذه الحرب، زودت الولايات المتحدة الأمريكية كلا الجانبين بالأسلحة والتمويل والمعلومات الاستخباراتية، واعتبرت ذلك وسيلة لاستنزاف قوة هاتين الدولتين المتجاورتين الكبيرتين وضمان أمن ملوك الخليج. وعلى هذا النحو، استندت استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى ركيزتين أساسيتين: –
إسرائيل من جهة،
وملوك وأمراء الخليج من جهة أخرى.
وما تزال هاتان الركيزتان تشكلان جوهر القوة الأمريكية في المنطقة اليوم.
ومع ذلك، كان هناك تحول حاسم في كيفية ارتباطهما ببعضهما البعض. بدءا من تسعينيات القرن العشرين، واستمرارا حتى اللحظة الحالية.
سعت حكومة الولايات المتحدة إلى ربط هذين القطبين الاستراتيجيين معا – جنبا إلى جنب مع دول عربية مهمة أخرى مثل الأردن ومصر – داخل منطقة واحدة مرتبطة بالقوة الاقتصادية والسياسية الأميركية.
ولكي يحدث هذا بنجاح، كان لزاما على إسرائيل أن تندمج في الشرق الأوسط الأوسع – من خلال تطبيع علاقاتها (الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية) مع الدول العربية. والأهم من ذلك، كان هذا يعني التخلص من المقاطعة العربية الرسمية لإسرائيل والتي كانت قائمة لعقود عديدة.
من وجهة نظر إسرائيل، لم يكن التطبيع يتعلق فقط بتمكين التجارة الإسرائيلية مع الدول العربية والاستثمار فيها. ففي أعقاب الركود الكبير في منتصف الثمانينيات، تحول اقتصاد إسرائيل بعيدا عن قطاعات مثل البناء والزراعة نحو التركيز بشكل أكبر على الصادرات التكنولوجية والمالية والعسكرية. ومع ذلك، كانت العديد من الشركات الدولية الرائدة مترددة في التعامل مع الشركات الإسرائيلية (أو داخل إسرائيل نفسها) بسبب المقاطعة الثانوية التي فرضتها الحكومات العربية على الشركات الأجنبية المتعاملة مع إسرائيل .4
كان إسقاط هذه المقاطعة ضروريا لجذب الشركات الغربية الكبرى إلى إسرائيل، وكذلك لتمكين الشركات الإسرائيلية من الوصول إلى الأسواق الأجنبية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى.
بعبارة أخرى، كان التطبيع الاقتصادي يتعلق بضمان مكانة الرأسمالية الإسرائيلية في الاقتصاد العالمي، بقدر ما يتعلق بوصول إسرائيل إلى الأسواق في الشرق الأوسط. ولتحقيق هذه الغاية، استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مجموعة متنوعة من الآليات منذ التسعينيات فصاعدا بهدف دفع التكامل الاقتصادي لإسرائيل في الشرق الأوسط الأوسع إلى الأمام.
كان أحد هذه العوامل هو تعميق “الإصلاحات الاقتصادية” ــ الانفتاح على الاستثمار الأجنبي وتدفقات التجارة التي انتشرت بسرعة عبر المنطقة. وكجزء من هذا، اقترحت الولايات المتحدة مجموعة من المبادرات الاقتصادية التي سعت إلى ربط الأسواق الإسرائيلية والعربية ببعضها البعض، ثم بالاقتصاد الأميركي. وكان أحد هذه الخطط الرئيسية ما يسمى بالمناطق الصناعية المؤهلة ــ مناطق التصنيع المنخفضة الأجور التي أنشئت في الأردن ومصر في أواخر تسعينيات القرن العشرين. وتم منح السلع المنتجة في المناطق الصناعية المؤهلة (معظمها من المنسوجات والملابس الجاهزة) حق الوصول المعفى من الرسوم الجمركية إلى الولايات المتحدة، شريطة أن تأتي نسبة معينة من المدخلات المشاركة في تصنيعها من إسرائيل. ولعبت المناطق الصناعية المؤهلة دورا مبكرا وحاسما في جمع رأس المال الإسرائيلي والأردني والمصري في هياكل ملكية مشتركة ــ وتطبيع العلاقات الاقتصادية بين اثنتين من الدول العربية المجاورة لإسرائيل. وبحلول العام 2007، كانت الحكومة الأمريكية تشير إلى أن أكثر من 70% من صادرات الأردن إلى الولايات المتحدة جاءت من المناطق الصناعية المؤهلة. وبالنسبة لمصر، تم إنتاج 30٪ من الصادرات إلى الولايات المتحدة في مناطق التصنيع المؤهلة في عام 2008. 5
وإلى جانب برنامج المناطق الصناعية المؤهلة، اقترحت الولايات المتحدة أيضا في العام 2003 مبادرة منطقة التجارة الحرة في الشرق الأوسط (MEFTA). وتهدف إلى إنشاء منطقة تجارة حرة تمتد عبر المنطقة بأكملها بحلول العام 2013. كانت استراتيجية الولايات المتحدة هي التفاوض بشكل فردي مع الدول “الصديقة” باستخدام عملية متدرجة من ست خطوات من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى اتفاقية تجارة حرة كاملة بين الولايات المتحدة والدولة المعنية.
تم تصميم اتفاقيات التجارة الحرة هذه بحيث يمكن للدول ربط اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية الخاصة بها مع الولايات المتحدة باتفاقيات التجارة الحرة الثنائية للدول الأخرى، وبالتالي إنشاء اتفاقيات على مستوى دون إقليمي في جميع أنحاء الشرق الأوسط. يمكن ربط هذه الاتفاقيات دون الإقليمية بمرور الوقت، حتى تغطي المنطقة بأكملها. ومن المهم أن تُستخدم اتفاقيات التجارة الحرة هذه أيضا لتشجيع اندماج إسرائيل في الأسواق العربية، حيث تحتوي كل اتفاقية على بند يلزم الموقع بالتطبيع مع إسرائيل، ويحظر أي مقاطعة للعلاقات التجارية. ورغم فشل الولايات المتحدة في تحقيق هدفها عام 2013 بإنشاء منطقة التجارة الحرة في الشرق الأوسط، فقد نجحت هذه السياسة في دفع توسع النفوذ الاقتصادي الأميركي في المنطقة، بدعم من التطبيع بين إسرائيل والدول العربية الرئيسية. ومن اللافت للنظر أن الولايات المتحدة لديها اليوم 14 اتفاقية تجارة حرة مع دول في مختلف أنحاء العالم، منها خمس اتفاقيات مع دول في الشرق الأوسط (إسرائيل والبحرين والمغرب والأردن وعمان).
اتفاقيات أوسلو
ومع ذلك، فإن نجاح التطبيع الاقتصادي كان يتوقف في نهاية المطاف على حدوث تغيير في الوضع السياسي من شأنه أن يعطي “الضوء الأخضر” الفلسطيني للتكامل الاقتصادي لإسرائيل في المنطقة الأوسع. وهنا، كانت نقطة التحول الرئيسية هي اتفاقيات أوسلو، وهي اتفاقية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تم توقيعها تحت رعاية الحكومة الأمريكية في حديقة البيت الأبيض في العام 1993. وقد استندت أوسلو بشكل كبير على الممارسات الاستعمارية التي تأسست على مدى العقود السابقة. فمنذ سبعينيات القرن العشرين، حاولت إسرائيل إيجاد قوة فلسطينية تدير الضفة الغربية وقطاع غزة نيابة عنها – وكيل فلسطيني للاحتلال الإسرائيلي يمكنه تقليل الاحتكاك اليومي بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي. انهارت هذه المحاولات المبكرة خلال الانتفاضة الأولى، وهي انتفاضة شعبية واسعة النطاق بدأت في قطاع غزة في العام 1987.
وأنهت اتفاقيات أوسلو الانتفاضة الأولى.
وبموجب اتفاق أوسلو، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على تشكيل كيان سياسي جديد، أطلق عليه اسم السلطة الفلسطينية، والذي من المقرر أن يمنح سلطات محدودة على مناطق مجزأة من الضفة الغربية وقطاع غزة. وسوف تعتمد السلطة الفلسطينية بشكل كامل على التمويل الخارجي من أجل بقائها ــ وخاصة القروض والمساعدات وضرائب الاستيراد التي تجبيها إسرائيل، والتي يتم تحويلها بعد ذلك إلى السلطة الفلسطينية.
ولأن معظم مصادر التمويل هذه كانت في نهاية المطاف مستمدة من الدول الغربية وإسرائيل، فقد خضعت السلطة الفلسطينية سياسيا بسرعة.
فضلا عن ذلك، احتفظت إسرائيل بالسيطرة الكاملة على الاقتصاد والموارد الفلسطينية، وحركة الناس والبضائع. وبعد الانقسام والانفصال الإقليمي لغزة والضفة الغربية في العام 2007، أنشأت السلطة الفلسطينية مقرها في رام الله بالضفة الغربية. واليوم، يرأس السلطة الفلسطينية محمود عباس.6
وعلى الرغم من الطريقة التي تقدم بها اتفاقيات أوسلو والمفاوضات اللاحقة عادة، فإنها لم تكن أبدا تدور حول السلام والطريق إلى الحرية الفلسطينية.
ففي ظل اتفاق أوسلو انفجر التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتم بناء جدار الفصل العنصري، وتطورت القيود المعقدة على الحركة التي تحكم حياة الفلسطينيين اليوم.
لقد عملت اتفاقيات أوسلو على إبعاد قطاعات رئيسية من السكان الفلسطينيين ــ اللاجئين والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل ــ عن الصراع السياسي، وتقليص قضية فلسطين إلى مفاوضات حول شظايا من الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
والأمر الأكثر أهمية هو أن اتفاقية أوسلو قدمت غطاء ومباركة فلسطينية لدمج إسرائيل في الشرق الأوسط الأوسع، وفتحت الطريق أمام الحكومات العربية ــ بقيادة الأردن ومصر ــ لتبني التطبيع مع إسرائيل تحت مظلة الولايات المتحدة.
لقد ظهرت القيود المفروضة على الحركة، والحواجز، ونقاط التفتيش، والحواجز العسكرية التي تحيط بغزة الآن بعد أوسلو. وبهذا المعنى فإن السجن المفتوح الذي أصبح غزة اليوم هو في حد ذاته من صنع عملية أوسلو: هناك خيط مباشر يربط مفاوضات أوسلو بالإبادة الجماعية التي نشهدها الآن. ومن الأهمية بمكان أن نتذكر هذا في ضوء المناقشات الجارية حول السيناريوهات المحتملة لما بعد الحرب.
كانت الاستراتيجية الإسرائيلية تنطوي على الاستخدام الدوري للعنف الشديد، إلى جانب الوعود الكاذبة بالمفاوضات المدعومة دوليا. وتشكل هاتان الأداتان التوأمان جزءا من نفس العملية، وتعملان على تعزيز التفتت المستمر للشعب الفلسطيني وسلبه ممتلكاته. ومن المؤكد أن أي مفاوضات بعد الحرب بقيادة الولايات المتحدة سوف تشهد محاولات مماثلة لضمان استمرار هيمنة إسرائيل على حياة الفلسطينيين وأراضيهم.
التفكير في المستقبل
إن المركز الاستراتيجي للشرق الأوسط الغني بالنفط في القوة العالمية الأميركية يفسر لماذا أصبحت إسرائيل الآن أكبر متلق تراكمي للمساعدات الخارجية الأميركية في العالم، على الرغم من أنها تحتل المرتبة الثالثة عشرة بين أغنى اقتصادات العالم من حيث نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي (أعلى من المملكة المتحدة أو ألمانيا أو اليابان). كما يفسر الدعم الحزبي لإسرائيل بين النخب السياسية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
والواقع أنه ــ في ظل رئاسة ترامب وبعده. وقبل الحرب الحالية ــ تلقت إسرائيل تمويلا عسكريا أمريكيا أجنبيا أكبر من جميع البلدان الأخرى في العالم مجتمعة. والأمر الحاسم، كما أظهرت الأشهر الثمانية الماضية، أن الدعم الأمريكي يمتد إلى ما هو أبعد من الدعم المالي والمادي، حيث تعمل الولايات المتحدة كداعم نهائي في الدفاع عن إسرائيل سياسيا على الساحة العالمية.7
كما رأينا، فإن هذا التحالف الأمريكي مع إسرائيل ليس عرضيا لطرد الشعب الفلسطيني، بل إنه في الواقع قائم على ذلك.
إن الطابع الاستعماري الاستيطاني لإسرائيل هو الذي منحها مثل هذا الدور الضخم في تعزيز قوة الولايات المتحدة في جميع أنحاء المنطقة.
وهذا هو السبب في أن النضال الفلسطيني يشكل جزءا اساسيا من دفع التغيير السياسي في جميع أنحاء الشرق الأوسط – المنطقة التي أصبحت الآن الأكثر استقطابا اجتماعيا، وتفاوتا اقتصاديا، وتأثرا بالصراعات في العالم.
وهذا هو السبب الذي يجعل النضال من أجل فلسطين مرتبط ارتباطا وثيقا بنجاحات وإخفاقات النضالات الاجتماعية التقدمية الأخرى في المنطقة.
ويظل المحور المركزي لهذه الديناميكيات الإقليمية هو الارتباط بين إسرائيل ودول الخليج. ففي العقدين اللذين أعقبا اتفاقيات أوسلو، استمرت استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في التأكيد على التكامل الاقتصادي والسياسي لإسرائيل مع دول الخليج. وقد حدثت خطوة كبيرة إلى الأمام في هذه العملية مع اتفاقيات أبراهام عام 2020، والتي شهدت موافقة الإمارات العربية المتحدة والبحرين على تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد مهدت اتفاقيات أبراهام الطريق لاتفاقية التجارة الحرة بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، التي تم توقيعها في العام 2022، والتي كانت أول اتفاقية تجارة حرة لإسرائيل مع دولة عربية. وتجاوزت التجارة بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة 2.5 مليار دولار في العام 2022، ارتفاعا من 150 مليون دولار فقط في عام 2020. كما توصلت السودان والمغرب إلى اتفاقيات مماثلة مع إسرائيل، مدفوعة بحوافز أمريكية كبيرة.8
مع اتفاقيات أبراهام، أصبحت خمس دول عربية الآن لديها علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل. تضم هذه الدول حوالي 40٪ من السكان في جميع أنحاء العالم العربي، وتشمل بعض القوى السياسية والاقتصادية الرائدة في المنطقة. ولكن ما يزال هناك سؤال حاسم: متى ستنضم المملكة العربية السعودية إلى هذا النادي؟
في حين أنه من المستحيل أن توافق الإمارات العربية المتحدة والبحرين على اتفاقيات أبراهام دون موافقة المملكة العربية السعودية، فإن المملكة العربية السعودية لم تقم حتى الآن بتطبيع العلاقات رسميا مع إسرائيل – على الرغم من كثرة الاجتماعات والاتصالات غير الرسمية بين الدولتين على مدى السنوات الأخيرة-.
وفي خضم حرب الإبادة الجماعية الحالية، فإن صفقة التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بلا شك الهدف الرئيسي للتخطيط الأمريكي للحظة ما بعد الحرب. ومن المرجح جدا أن توافق الحكومة السعودية عليها- وربما أشارت بذلك لإدارة بايدن – شريطة أن تتلقى نوعا من الضوء الأخضر من السلطة الفلسطينية في رام الله، ربما مرتبط بالاعتراف الدولي بدولة فلسطينية زائفة في أجزاء من الضفة الغربية.
من الواضح أن هناك عقبات كبيرة أمام هذا السيناريو، بما في ذلك الرفض المستمر من جانب الفلسطينيين في غزة للخضوع، ومسألة كيفية إدارة غزة بعد انتهاء الحرب. ولكن الخطة الأمريكية الحالية لتشكيل قوة عربية متعددة الجنسيات للسيطرة على القطاع، برئاسة بعض الدول الرائدة في التطبيع – الإمارات العربية المتحدة ومصر والمغرب – من المرجح أن تكون مرتبطة بالتطبيع السعودي الإسرائيلي.
إن الجمع بين دول الخليج وإسرائيل أمر بالغ الأهمية بشكل متزايد للمصالح الأميركية في المنطقة، نظرا للتنافس الحاد والتوترات الجيوسياسية الناشئة على المستوى العالمي، وخاصة مع الصين. وفي حين لا توجد “قوة عظمى” أخرى من المقرر أن تحل محل الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، فقد كان هناك تراجع نسبي في النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري الأميركي في جميع أنحاء المنطقة على مدى السنوات الأخيرة. ومن المؤشرات على ذلك الترابط المتزايد بين دول الخليج والصين وشرق آسيا، والذي يتجاوز الآن تصدير النفط الخام في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق – ونظرا للمكانة الطويلة الأمد لإسرائيل في القوة الأميركية – فإن أي عملية تطبيع تقودها الدولة الأمريكية من شأنها أن تساعد في إعادة تأكيد التفوق الأمريكي في المنطقة، وربما تعمل كرافعة حاسمة ضد نفوذ الصين هناك.
ومع ذلك، وعلى الرغم من المناقشات الجارية حول سيناريوهات ما بعد الحرب، فقد أثبتت السنوات الست والسبعين الماضية مرارا وتكرارا أن محاولات محو الصمود والمقاومة الفلسطينية بشكل دائم سوف تفشل.
والآن تجلس فلسطين في طليعة الصحوة السياسية العالمية التي تتجاوز أي شيء شهدناه منذ الستينيات. وفي خضم هذا الوعي المتزايد بالحالة الفلسطينية، يجب أن يتجاوز تحليلنا المعارضة الفورية لوحشية إسرائيل في قطاع غزة.
إن النضال من أجل التحرير الفلسطيني يقع في قلب أي تحد فعال للمصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط، وتحتاج حركاتنا إلى أساس أفضل في هذه الديناميكيات الإقليمية الأوسع نطاقا – وخاصة الدور المحوري الذي تلعبه ممالك الخليج.
نحن بحاجة أيضا إلى فهم أعمق لكيفية ملاءمة الشرق الأوسط لتاريخ الرأسمالية الأحفورية والنضالات المعاصرة من أجل العدالة المناخية. لا يمكن فصل قضية فلسطين عن هذه الحقائق. وبهذا المعنى، فإن المعركة غير العادية من أجل البقاء التي يخوضها الفلسطينيون اليوم في قطاع غزة تمثل الطليعة في النضال من أجل مستقبل الكوكب.
ملاحظات ومراجع
1 لمزيد من التوضيح والتوثيق للنقاط التي وردت في هذا القسم، انظر كتاب، الرأسمالية الخام: النفط، والقوة المؤسسية، وتكوين السوق العالمية (فيرسو بوكس، 2024).
2 تواجه الأنظمة العربية العميلة ــ مثل مصر والأردن والمغرب اليوم ــ تحديات متكررة من الحركات السياسية داخل حدودها، وتضطر دائما إلى التكيف والاستجابة للضغوط القادمة من الأسفل.
3 من المثير للاهتمام أن مصدر هذا الاقتباس يظهر في مقال كتبه السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة، مايكل أورين، بعنوان “الحليف النهائي”.
4 كانت المقاطعات الثانوية تعني أن الشركة المستثمرة في إسرائيل، لنقل مايكروسوفت، ستواجه الاستبعاد من الأسواق العربية.
5 يمكن العثور على مزيد من المناقشة حول المناطق الصناعية المؤهلة، ومنطقة التجارة الحرة في الشرق الأوسط، والاقتصاد السياسي لتطبيع إسرائيل في كتاب آدم هنية، سلالات الثورة: قضايا الرأسمالية المعاصرة في الشرق الأوسط (هايماركت بوكس، 2013)، وخاصة ص 36-38.
6 في عام 2006، فازت حماس بشكل مقنع في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، حيث حصلت على 74 مقعدا من أصل 132. تم تشكيل حكومة وحدة وطنية في البداية بين حماس وفتح، الحزب الفلسطيني المهيمن الذي يسيطر على السلطة الفلسطينية. لكن فتح حلت هذه الحكومة بعد أن سيطرت حماس على قطاع غزة في العام 2007. ومنذ ذلك الحين، كانت هناك سلطتين منفصلتين في قطاع غزة والضفة الغربية.
7 هناك أيضا العديد من أنواع الدعم الأخرى بخلاف المساعدات العسكرية والمالية المباشرة – على سبيل المثال، تقدم الولايات المتحدة مليارات الدولارات في شكل ضمانات قروض لإسرائيل، مما يسمح لإسرائيل بالاقتراض بتكلفة أقل في السوق العالمية. إسرائيل هي واحدة من ست دول فقط في العالم تلقت مثل هذه الضمانات على مدى العقد الماضي (أوكرانيا والعراق والأردن وتونس ومصر هي الدول الأخرى).
8 في حالة السودان، وافقت الولايات المتحدة على تقديم قرض بقيمة 1.2 مليار دولار وإزالة البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب (على الرغم من أن اتفاقية التطبيع لا تزال غير مصدق عليها). وبالنسبة للمغرب، اعترفت الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية مقابل تطبيع البلاد مع إسرائيل.
آدم هنية
زميل باحث في المعهد الوطني لبحوث السياسة وأستاذ في الاقتصاد السياسي والتنمية العالمية في معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر.
تركز أبحاثه الراهنة على الاقتصاد السياسي العالمي والتنمية في الشرق الأوسط والنفط والرأسمالية. ألف ثلاثة كتب، أحدثها «المال والأسواق والأنظمة المَلَكية: مجلس التعاون الخليجي والاقتصاد السياسي في الشرق الأوسط المعاصر» (دار نشر جامعة كامبريدج، 2018)، وقد حاز على جائزة الكتاب – رابطة الدراسات البريطانية الدولية، من طرف مجموعة الاقتصاد السياسي الدولي (IPEG) عام 2019.
ومن المقرر صدور كتابه الأخير “الرأسمالية الخام: النفط والقوة المؤسسية وتكوين السوق العالمية” عن دار فيرسو بوكس في سبتمبر/أيلول 2024
23/6/2024
تعليق واحد
I like this web site it’s a master piece! Glad I
discovered this ohttps://69v.topn google.Raise your business