بين الانقلاب ومظاهرات اليوم: لماذا يرفض الجمهور الأفريقي إسقاط إبراهيم تراوري؟
إدريس آيات
في أبريل 2025، عادت بوركينا فاسو إلى واجهة الأحداث بعدما أعلنت الحكومة الانتقالية إحباط محاولة انقلاب، استهدفت النقيب إبراهيم تراوري، الشاب الذي يقود البلاد منذ انقلابه في سبتمبر 2022. ولم تكن الواقعة مفاجئة بالنظر إلى هشاشة الوضع الأمني واحتدام الصراع بين شبكات النفوذ القديمة وقيادة تسعى، على ما يبدو، لفرض سيادة وطنية من خارج الأطر الغربية التقليدية.
لكنّ المثير في المشهد لم يكن فشل الانقلاب بقدر ما كان رد الفعل الشعبي الأفريقي العارم، الذي تُرجم في مظاهرات واسعة يوم 30 أبريل، ليس فقط في أفريقيا، بل في الشتات كذلك، حيث خرج فيها عشرات الآلاف تأييدًا لتراوري ورفضًا لما اعتبروه تدخلاً غربيًا في شؤون بلادهم.
ففي واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، ومدن أفريقية وعالمية، احتشد الآلاف في ساحة الثورة، في مظاهرات واسعة النطاق دعمًا للنقيب إبراهيم تراوري، مرددين شعارات مثل “يعيش النقيب تراوري!”، ورافعين لافتات تُظهر رفضهم للتدخلات الغربية. اللافت – كما ذُكر أعلاه- أن الدعم لتراوري لم يقتصر على الداخل البوركينابي، بل امتد إلى دول أفريقية أخرى، حيث نظمت تجمعات مؤيدة في غانا، ووفي عواصم أوروبية، كما شهدت مونتيغو باي في جامايكا، تجمعًا لمجموعة من الراستافاريين الذين اعتبروا تراوري رمزًا للمقاومة ضد الاستعمار الجديد والتدخلات الغربية.
تزامن ذلك مع تصريحات أدلى بها مايكل لانغلي، قائد “أفريكوم” أمام الكونغرس الأمريكي، اتهم فيها تراوري باستعمال احتياطي الذهب لضمان أمن نظامه، بدلًا من تحسين أحوال المواطنين. تحوّلت هذه التصريحات إلى وقود شعبي لمزيد من التعبئة الجماهيرية خلف القائد الشاب، ورفعت منسوب التأييد له داخل البلاد وخارجها. لكن لماذا؟
القيادة في عين الجماهير: كاريزما ثورية
ما الذي يجعل من تراوري، ضابطًا شابًا في منتصف الثلاثينيات من عمره، يُقارن اليوم بتوماس سانكارا أو حتى معمر القذافي؟ الجواب يكمن فيما تُسميه العلوم السياسية بـ”الشرعية الكاريزمية”؛ وهي نوع من الشرعية تستند إلى الجاذبية الشخصية والرمزية الثورية أكثر مما تعتمد على المؤسسات أو الانتخابات.
يظهر تراوري أمام جمهوره بصورة القائد الزاهد الذي رفض امتيازات الرئاسة، واكتفى براتبه العسكري، وألغى زيادات رواتب المسؤولين. هذا الزهد يتناغم مع قرارات ذات بُعد رمزي عميق: تأميم مناجم الذهب، منع تصديره خامًا، والبدء في إنشاء مصفاة وطنية لزيادة القيمة المضافة محليًا، ناهيك عن إطلاق مشاريع تصنيع زراعي وبنية تحتية.
هذه الخطوات منحته شرعية ميدانية حقيقية، لم تُستمد من صناديق الاقتراع، بل من شعور الناس أن القائد “يشبههم”، و”يعيش مثلهم”، والأهم أنه يتحدّث باسمهم في وجه قوى خارجية يرونها سبب مآسيهم. وبذلك يتحقق ما يسميه علم النفس السياسي بـ”التماثل الوجداني”، حيث يرى المواطن البسيط نفسه في القائد، فيذوب فيه.
الزعيم كمشروع مقاومة
غنّي عن البيان الذكر، أن الخروج في المظاهرات التي نظمت في 30 أبريل للعام الجاري، بمشاركة العمال والشباب وشرائح المجتمع كافة، لم تكن دفاعًا عن شخص بقدر ما كانت دفاعًا عن مشروع بديل. مشروع يُقدم نفسه كقوة استرداد للسيادة المفقودة، وكمنظومة تحاول التحرر من “التبعية” التي طبعت العلاقة بين بوركينا فاسو والمراكز الغربية منذ عقود.
التفسير السوسيولوجي لذلك – في رأيي- يتجلى في ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، بيار بورديو بـ”العنف الرمزي المعكوس”، حين تعيد الجماهير تعريف القوة لا بصفتها قمعًا خارجيًا، بل بكونها فعلًا جمعيًا مقاومًا. في هذا السياق، يصبح دعم تراوري، بالنسبة لكثيرين، معركة وجود، وليست مجرد مفاضلة بين زعيم وآخر.
ولا عجب أن تُرفع في المظاهرات لافتات تقول: “لن نسمح باغتياله كما اغتيل القذافي”. فالذاكرة الجماعية في أفريقيا تحتفظ بصور قادة وطنيين مثل توماس سانكارا الذين دُفعوا إلى مصائر دموية حين تجرأوا على النظام العالمي. من هنا، تتجلى مظاهر “الخوف من التصفية السياسية”، بوصفه دافعًا عميقًا لحماية القائد الذي يُعتبر الحامل الأخير لطموحات أجيال محبطة.
تراوري وسنكارا والقذافي: مسارات متقاطعة
تُظهر المقارنة بين تراوري وسانكارا والقذافي قواسم مشتركة في الخطاب والأداء؛ فكلهم وصلوا إلى الحكم شبابًا، رافعين شعارات مناهضة للإمبريالية، ومتخذين قرارات صادمة للمصالح الأجنبية. وكلهم تبنوا نماذج حكم بديلة: سانكارا برفضه مساعدات صندوق النقد، والقذافي عبر نظريته الجماهيرية، وتراوري بتأميمه الثروات وبناء التحالفات الجديدة.
لكن الفارق أن تراوري يعمل في سياق إقليمي يتغير؛ فمالي والنيجر، المجاورتان، شهدتا انقلابات مماثلة، وشكلت معه “تحالف الدول الساحلية”، الرافض للتبعية الفرنسية. وهو ما يمنح تجربته بعدًا إقليميًا، ويجعل الالتفاف الجماهيري حوله ليس شأنًا بوركينابياً فقط، بل تعبيرًا عن تحول في المزاج السياسي لشعوب غرب أفريقيا عمومًا.
وما يجدر الإشارة إليه هنا، أنّه في غياب انتخابات، يستمد تراوري شرعيته من الشارع. ومشهد الحشود التي خرجت في أبريل دليل على ما يُعرف في علم الاجتماع السياسي بـ”الشرعية الجماهيرية”، حيث تتحول الجماهير من مجرد مُتلقٍ للقرار السياسي، إلى فاعل سياسي مباشر يُضفي الشرعية ويمنح التفويض.
وقد فهم تراوري هذه المعادلة جيدًا، فأعاد رسم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس الإرادة المباشرة، بدل التمثيل البيروقراطي. لذلك يُمكن القول إن “السيادة الشعبية” باتت تعني هنا أن القائد يُمثّل الصوت الشعبي المقاوم، لا الصوت النخبوي الرسمي.
لكن، ورغم الكاريزما الثورية التي يتمتع بها تراوري، إلا أن التحدي الأكبر سيبقى في تحويل الرمزية إلى فعالية. فالجماهير التي منحته شرعيتها اليوم قد تكون نفسها من تحاسبه غدًا إن لم ترَ نتائج ملموسة. التحدي إذن هو الحفاظ على شعبيته دون السقوط في فخ الشعارات أو التسلط.
لكن ما لا شك فيه هو أن صعود تراوري، ومحاولات اغتياله أو تقويضه، أطلقت لحظة سياسية نادرة في بوركينا فاسو، وربما في أفريقيا عمومًا: لحظة تلاقي القائد بالشعب، والحلم بالتحرر، ورفض التبعية، والتأسيس لمشروع سياسي جديد تُصاغ فيه الشرعية لا من فوق، بل من الشارع نفسه.
ختامًا، لا يُراد من هذا المقال أن يكون انحيازًا شخصيًا أو خطابًا تبجيليًا للنقيب إبراهيم تراوري، بل مقاربة تحليلية تستند إلى مناهج العلوم السياسية والاجتماع السياسي، في قراءة ظاهرة تتعاظم رمزيّتها في المخيال الجمعي لشريحة واسعة من الشعوب الأفريقية ومجتمعات الشتات. فبغضّ النظر عن الموقف من خياراته السياسية، أصبح تراوري يُمثّل لدى كثيرين أكثر من مجرد فاعل سياسي عابر؛ بل يتجلى بوصفه تمظهرًا لتيار اجتماعي-ثقافي رافض للوصاية الخارجية ومطالب بإعادة تعريف السيادة الوطنية. ومن ثم، فإن دراسة هذه الظاهرة وتحليل تموضعها ضمن تحوّلات السياسة الأفريقية المعاصرة، لا تنطوي على تأييد أو رفض، بل تنبع من التزام أكاديمي رصين بفهم الديناميات الجديدة التي تعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والشعب والهُوية في السياق الأفريقي.
2025-05-02