بيان «حماس» المدسوس!
موسى السادة
إبّان الانتفاضة الأولى، عملت غالبية الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية على طباعة ونشر بيانات ونداءات حشد وحض على التحرك الجماهيري.
عمل الصهاينة، بدورهم، على دسّ بيانات مفبركة ونشرها بغرض شقّ الصف وبث الشقاق؛ من بيانات للشيوعيين تحرّض ضد «اليمين الرجعي الكهنوتي»، أو تلك الموجّهة ضد «العلمانيين»، لمحاولة التشويش على أي عمل نضالي، كالإضرابات على سبيل المثال.
بطبيعة الحال، فإن الاختلاف الإيديولوجي موجود، وكذلك تدافع السرديات بين التيارات الإسلامية الصاعدة حينها وغيرها، إلا أن عملية حرف توجيه الخطاب الجماهيري نحو الداخل وليس لتنظيم نضال الانتفاضة قوبلت بتحذير متكرّر في بيانات حركة المقاومة الإسلامية والفصائل الأخرى من «البيانات والنداءات المدسوسة».
جمع باحث فرنسي يدعى جان فرانسوا الوجران جملة من البيانات المؤرّخ أغلبها في عام 1988، في مجلد سمّاه «أصوات الانتفاضة». وخصّص فصلاً كاملاً للبيانات المفبركة، حتى إن بعض الصور الضوئية لهذه البيانات تظهر ختم ناشطي حركة «حماس» بالخط العريض فوق النص «البيان مدسوس».
خلال تصفّح الكتاب استدعى أحد البيانات المدسوسة التوقف، وهو بيان مؤرّخ في رمضان 1408 للهجرة، سنة 1988. وهنا بعض مقتطفات منه: «إن أكبر هدية يقدّمها حاكم دمشق العلوي الكافر للصهيونية الهمجية صب القرارات الفلسطينية في البوتقة العلوية»، «أيها المسلمون إننا لم ننسَ مسيرة النظام الأسدي الدموي الحاقد الكافر، وكيف أباح حافظ الأسد ذبح المسلمين السُّنة في مدينة حماة، وتدمير ما يقرب عن تسعين مسجداً وهدم مدينة مسلمة بأسرها ليسجل رقماً قياسياً في تاريخ الإبادة الجماعية المعاصر»، «ولن ننسى دخول الدبابات السورية إلى لبنان عام 1976 لإنقاذ المسيحيين ودك تل الزعتر فلا عجب فدم الصليبيين يجري في عروق العلويين»، «ولم ولن ننسى المجازر التي يرتكبها الطاغية العلوي ضد المسلمين السنة في طرابلس»، «يا شعبنا المسلم، سنظل ننادي حيّ على الجهاد إزاء المؤامرات التي يدبرها العلويون عملاء الشيوعية».
أوّل ملاحظة تلاحظ من البيان هو أن الملازم الإسرائيلي الذي كتبه يعلم ماذا يفعل، فهو يقوم ببديهيات السياسات الاستعمارية، وليس فقط «فرّق تسد»، بل توجيه الأحداث التاريخية الدموية من مجازر وغيرها، نحو صراع داخلي يضمن استمرارية سيل الدماء.
من المؤكد أنه لا وجود لأحد أقل حرصاً من هذا الإسرائيلي على دماء ضحايا حماه وتل الزعتر، لكنه يعلم أن الحديث هنا عنها، وعبر خطاب الهويات الطائفية، هو مجرد أداة لإعادة إنتاج الدماء من جديد، وعدم توقفها لمصلحة أعداء الأمة العربية.
وبعيداً عن مراجعة كيف نجح الصهاينة في تحويل هذا الخطاب منذ نهاية الثمانينيات، وعبر الجاهلين والحمقى أو المتعاونين، إلى خطاب سائد تسخّر له الفضائيات والمنابر العربية وملايين الدولارات، فإن المغزى المهم هنا، هو فهم أن ليس كل حديث عن مجزرة ارتكبتها الأنظمة أو تواطأت في فعلها هو حديث يصب في المسؤولية الأخلاقية تجاه الدماء التي سُفكت فيها.
الصهاينة أنفسهم مستعدون للحديث معك، وتحديداً عبر استخدام الخطاب الطائفي، الفج والمباشر أو المبني للمجهول/المعلوم كاستخدام «الأقلية الطائفية» عند حرج الإشارة المباشرة إلى اسم الهوية الطائفية المراد الإشارة لها.
يجب أن تكون مسألة استخدام أي لفظ هوياتي طائفي، أمراً يصب بشكل مباشر في خدمة الصهاينة والاستعمار مسألة بديهية. بشكل واضح يمسي الموضوع تكراراً ببغائياً لما يريد لك الصهاينة أن تقوله.
عند الحديث عن أي جريمة تكمن المسؤولية الأخلاقية الأولى في إيقاف دوامة العنف لا إعادة إنتاجها مرة أخرى عبر شحنها طائفياً، ما يعني مزيداً من الدماء، وتوطيد وطأة الاستبداد.
وفي الملف السوري تحديداً، يمتد الأمر إلى مستوى آخر، حيث إحالة الدم السوري إلى اصطفاف واحد. كأن يقال، بعد بيان «حماس»، «أمة واحدة في مواجهة الاحتلال والعدوان»، أن الحركة تدوس وتتخلى عن دماء وضحايا ويتامى السوريين بشكل «انتهازي». المسألة هنا، وهي في إعادة تبيان الواضحات، أن الدم السوري لا يُقسّم ولا يُجزأ وهو دم واحد، فاليتيم في إدلب ومخيمات الحدود كما اليتيم في شوارع دمشق أو الساحل أو الدير أو عفرين، وضحايا الحرب كلهم سوريون أكانوا عرباً أم أكراداً. الانتهازية هنا هي اختزال هذا الدم في طرف، واستغلال ذلك لمحاولة تسعير الشقاق لا بث الوحدة في مجتمع يعاني من انقسام حاد، وعلى كل الأصعدة الطبقية والهوياتية والمناطقية.
ألم يحن الوقت بعد للاعتراف بأن المسؤولية الوطنية والأخلاقية هي في العمل على رأب الصدع المجتمعي السوري. ومحاولة لملمته بما لا يؤدي إلى مزيد من التدخلات الخارجية واستمرار دوامة العنف المغلقة وحروب التدمير الذاتي، التي يحاول المتشدّقون بخطاب الحرص على الدم السوري استمراريتها.
تهيمن المعايير الهوياتية الطائفية العقدية في ردة الفعل على بيان «حماس» الأخير، ضمن حسابات «نحن» و«هم»، وتعطف هذه المعايير على مضامين أي تنديد بموقف الحركة الفلسطينية، خصوصاً الخطاب المَقيت لحكم «التعامل مع الجيفة».
والمفارقة أن لا أحد يجرؤ على إنكار الأهمية الاستراتيجية التاريخية والمعاصرة للشام في الصراع ضد الصهاينة منذ نزول الشيخ الشهيد عز الدين القسام نحو فلسطين، ومما هي معلومة وليست رأياً، وحقيقة تاريخية، أن الجيش العربي السوري يقدّم شهداء على يد العدو الإسرائيلي منذ عام 1948 حتى شهداء الدفاع الجوي واغتيالات حدود الجولان اليوم.
في الأخير، نحن نتحدث عن أهل الشام جميعاً، لا تقسيم فيهم، الذين لم ولن يتخلوا عن دعم النضال الفلسطيني، وهو دعم وإسهام أساسيان، لا يحافظ عليهما ويثمّنهما، سوى من هو حقيقة يرى في تحرير القدس هدفاً.
بتعبير القائد العام أبو خالد محمد الضيف: «المطلوب حشد جميع طاقات الأمة لاجتثاث الكيان الصهيوني الغاصب ولا بد للأمة من إسهام ودور فاعليْن في التحرير القادم»، «ويكفي للأمة استنزافاً وهدراً لطاقتها، ورهناً لإرادتها».
انطلاقاً من ذلك، يجب دعم التوجه الذي حمله بيان «حماس»، وعلى وجه التحديد مفهوم وحدة الأمة، فلا سبيل من عدم الوقوع في خطاب الهويات الطائفية المهندس صهيونياً، والعنف الأعمى الذي يولّده، سوى بالوحدة ضد الاحتلال والعدوان.
إن بث الوحدة مسؤولية فلسطينية كونهم في الخندق الأمامي للعرب، فمضمون البيان أن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نترك فلسطين.
* كاتب عربي
الأخبار
27 أيلول 2022