بلديات بريطانيا: السّاخطون أسقطوا الحزبين الكبيرين، وصعّدوا أقصى اليمين!
سعيد محمد*
أعلن زعيم حزب الإصلاح – أقصى اليمين – في المملكة المتحدة نايجل فاراج “نهاية سياسة الحزبين” في بريطانيا التي استمرت لأكثر من مائة عام، وذلك بعد أن ألحق حزبه هزيمة تاريخيّة بحزبي العمل – يسار الوسط – بقيادة السير كير ستارمر، رئيس الوزراء، والمحافظين المعارض – يمين – بقيادة كيمي بادنوش في الجولة الانتخابية المحلية الجزئيّة في إقليمي إنجلترا وويلز التي جرت نهاية الأسبوع.
وتمكن مرشحو حزب الإصلاح من تفكيك معاقل حزب العمل في شمال إنجلترا وألغوا وجود المحافظين في مقاطعات طالما هيمنوا عليها، وبنو من اللاشيء تقريباً قاعدة حكم محلي قوية من 648 مقعداً جديداً في العديد من المجالس البلديّة وسيطروا على عشر منها بالكامل بما في ذلك ستافوردشاير، ولانكشاير، وديربيشاير، ونوتنجهامشير، ولينكولنشاير، وكينت، ودورهام. وفي المقابل خسر المحافظون 635 مقعداً وفقدوا السيطرة على 15 مجلساً، وخسر العمل 198 مقعداً وفقد السيطرة على مجلس واحد، فيما كسب الديمقراطيون الليبراليون – وسط – 146 مقعداً – وسط – وسيطروا على ثلاث مجالس في أوكسفوردشاير، وكامبريدجشاير، وشروبشاير، وظفر الخضر ب 41 مقعداً.
وقال خبراء أن هذه النتائج المذهلة لو كانت في انتخابات عامّة وحسبت نتائجها على مستوى وطني، لفاز الإصلاح ب 30 بالمائة من أصوات الناخبين مقابل 20 بالمائة للعمل، و17 للديمقراطيين الليبراليين، و15 للمحافظين، و11 للخضر. وكان العمل قد شكل حكومته الحالية منفرداً بالسلطة بأقل من 20 بالمائة من مجموع الأصوات على مستوى المملكة.
واكتمل انتصار الإصلاح بفوزه بمقعد برلماني (خامس له) في مجلس العموم البريطاني انتزعه من حزب العمل في انتخابات تكميلية لمقاطعة (رانكورن وهيلسبي) بفارق ستة أصوات فقط، بعدما كان لشاغل المقعد العمالي السابق أغلبيّة 15 ألف صوت.
وأصر فاراج على أن انتصار حزبه الساحق إن هو مجرد بداية رحلته ليصبح رئيس وزراء بريطانيا القادم – من المفترض أن تجري الانتخابات العامة التالية في موعد أقصاه 2029 -، وقال للصحافيين: “أعتقد أننا سنفوز في الانتخابات المقبلة، وسأقوم بتغيير مشهد السياسة البريطانية، تماماً كما فعلت في الماضي (في إشارة منه إلى دوره في مرحلة الاستفتاء على انهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي)”.
وقال الزعيم المثير للجدل، أن حزب الإصلاح هو الآن المعارضة الحقيقية لحكومة حزب العمل، فيما “انتهى حزب المحافظين، ويقترب تاريخه البالغ 195 عاماً من لحظة دفنه”.
وبينما ينظر الكثيرون في بريطانيا وخارجها إلى هذه النتائج بوصفها موجة يمين شعبوي في إطار الحروب الثقافية على غرار تلك التي شهدتها الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فإن الواقع يقول بأن التصويت كان احتجاجياً بامتياز: ضد النخبة الحاكمة، وانتقاماً للطبقة العاملة الساخطة ممن أوصلوا البلاد إلى حالة غير مسبوقة من الضياع، والتردي الاقتصادي والاجتماعي. إذ بحكم غياب بدائل ذات مصداقية من اليسار، فإن طريقة التعبير الوحيدة التي بقيت ممكنة أمام الناخبين البريطانيين من العمّال والمستأجرين، والفقراء، والمهمشين، والمتقاعدين، والعاطلين عن العمل، وذوي الحاجات الخاصة كانت في تصعيد الأحزاب الصغيرة في البلاد ومعاقبة مرشحي حزبي السلطة اللذين تعاقبا على حكم المملكة طوال قرن.
وعلى الرّغم من أن المحافظين أبيدوا عملياً في هذه الانتخابات، فإن ذلك كان أقرب إلى تحصيل الحاصل بعد فشلهم الذريع في الانتخابات العامّة الأخيرة قبل عشرة أشهر، لكن الصفعة الانتخابيّة بصعود (الإصلاح) كانت أساساً لستارمر وحزبه الحاكم، العمل، وسياساته اليمينية أكثر من اليمين نفسه.
لقد تعرّضت قاعدة حزب العمل التي من المفترض أنها تمثل مصالح الأكثرية ومنتسبي النقابات العمّالية إلى خيانة تامة من قيادة الحزب التي مددت لمفاعيل سياسات التقشف القاسية كما ورثتها الحكومة الحالية من حكومات المحافظين المتعاقبة طوال خمسة عشر عاماً، وحمّلت تكاليف أوهام الدور الإمبراطوري لبريطانيا في أوكرانيا واليمن وغزة وسوريا للفئات الأفقر والأقل حظاً والأكثر ضعفاً من المواطنين، في ظل سياسة اقتصاديّة أثبتت عجزها عن استعادة النمو للاقتصاد المهتز.
وكان أحدث استطلاع للرأي أجرته مجموعة (مور إن كومن) قد أوجز ما يشعر به الناخبون في شمال إنجلترا تجاه الحكومة ب “السخط من الخيانة”. وأظهر الاستطلاع أن أكثرية تجد بريطانيا “مكسورة”، و”لن يتمكن أي السياسيين الحاليين من إصلاحها لأنهم يخدمون أنفسهم أو يعملون من أجل صالح داعميهم الماليين، بدلا من الصالح العام”، فيما قال أحد المستطلعين: “لا أحد يحب أيا من المرشحين، ولا أحد يثق حقاً بأي منهم”.
ولعل ما قالته إحدى الناخبات لمراسلة تلفزيونية بعدما أدلت بصوتها في الانتخابات البرلمانية التكميلية في رانكورن وهيلسبي هذا الأسبوع يلخص هذه الخيانة: “لقد تراجعوا عن كل ما قالوا إنهم سيفعلونه للطبقة العاملة”.
وبحسب مراقبين فإن اقدام حكومة حزب العمل على حجب المساعدة السنوية للتدفئة عن المتقاعدين – حوالي 10 ملايين مواطن -، وخططهم المعلنة لتخفيض عشرات المليارات من ميزانية المعونات الاجتماعيّة للمعوقين والمعتلين لم يكن شيئاً يمكن لقاعدة حزب العمل قبوله بأي شكل.
وكانت حكومة ستارمر قد أعلنت بعد أسابيع قليلة من اكتساح حزب العمل للانتخابات العامة السابقة عن حجب مساعدة التدفئة التي تصل إلى 300 جنيه إسترليني سنوياً للفرد الواحد عن الفئات الأكثر فقراً في وقت تضاعفت فيه قيمة فواتير الطاقة والغاز على المواطنين، ولم تجد وزيرة الخزانة راشيل ريفز سوى الإغارة على المعونات الاجتماعيّة لتغطية فجوة النمو الاقتصادي، بينما تبعثر الحكومة أموال الناخبين على دعم النظام الأوكراني، وتعزيز عمليات الجيش الإسرائيلي في غزّة، ومضاعفة الإنفاق العسكري لإرضاء الحليف الأمريكيّ المتطلّب.
وترفض الحكومة أن تتخذ أي اجراءات لحماية الطبقة العاملة كأن تعيد تأميم نظام المياه – الذي تمت خصخصته ونهبت موارده خلال حكم المحافظين -، أو تبني تشريعات فاعلة لوضع سقوف قصوى تجاه تضخم إيجارات المنازل مع تصاعد أزمة الإسكان وتراجع مستويات الدّخل، ولذلك لا يجد المواطنون العاديون فرقاً حقيقياً بين سياسات حكومة حزب العمل، وحكومة المحافظين التي أسقطوها في الانتخابات العامة العام الماضي.
ستارمر الذي قال بعد إعلان النتائج “لقد فهمت ذلك (أي سخط الناخبين)”، فإن كل ما تعهد به هو أن يفعل “أكثر وأسرع” لكن في إطار ذات السياسات التي أوصلت الحزب إلى هنا، فيما تبدو بادنوش، زعيمة المحافظين، عاجزة تماماً عن فعل أي شيء لوقف انهيار تأييد حزبها.
وبالطبع، إن لم يتبن الحزبان الكبيران تغييرات جذريّة وبسرعة بناء لهذه النتائج، فإن طريق (الإصلاح) معبدة بالفعل إلى السلطة خلال أربع سنوات، وتلك لن تكون بالأخبار الجيدة بالنسبة لجمهور الساخطين، إذ أن تمويل هذا الحزب اليميني الشعبوي المتطرف منذ تأسيسه عام 2019 جاء من تسع شركات كبرى / أفراد من الأثرياء الذين لديهم مصالح خارجية، تماماً كما هو حال الحزبين الكبيرين. وطالما أن أحزاب البلاد الكبرى تتغذى من أيدي ذات المجموعة من المانحين الأثرياء، فلن يكون بمقدورها فرض تغيير حاسم في أوضاع اقتصاد لا يستفيد منه سوى 1 بالمائة من البريطانيين، وسيجد الناخبون الساخطون الذين أصيبوا بخيبة أمل من العمل والمحافظين، أن (الإصلاح) لا إصلاح فيه، ولا يختلف عنهما، بل ربما يكون أسوأ.
– لندن
2025-05-08