لم يكن المارّة في شارع الاستقلال، أكثر شوارع اسطنبول اكتظاظًا، وفي ساعة الذروة، يدرون بأن الموت سيداهمهم عبر انفجار ارهابي سيهز كيان المدينة والسياسيين في الدولة التركية. انفجار استهدف واحدًا من أهم التجمعات السياحية في المدينة. كارثة جاءت في نفس اليوم الذي ابتدأت فيه قمة “آسيان” والتي قال فيها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن أميركا نجحت في زعزعة أمن آسيا.
ولكن من الذي نفّذ التفجير؟ ولماذا؟ وما هي الرسالة؟ وهل هي سلسلة متكررة لن تكون تركيا قادرة على ضبطها؟
أسئلة قد يحسمها التحقيق الجنائي التركي قريبًا، ولكن الرسالة واضحة، فاستهداف الشارع المعروف بأنه محج للسواح، وأحد أركان المدينة الأساسية، يعد رسالة أمنية أولًا. وشارع الاستقلال هو مقياس للحركة في استطنبول.
معظم السياح الذين يَفِدون الى تركيا خلال الأعوام الأخيرة هم من الاتحاد الروسي، الذين استطاعت تركيا إعادة استقطابهم بعد لقاءات عدة بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهنا يحضر السؤال: من له مصلحة في تقويض واحد من أهم مصادر الاقتصاد التركي؟ مع العلم أن الاستهداف ذو رمزية هامة، وهذا الاستهداف سيفتح المجال بشكل أوسع للتعاون الأمني بين روسيا وتركيا لحمايتهم من “الإرهاب”، والذي ثبت أن من يديره في المنطقة هو الأميركي.
والملفت أن أول حديث للرئيس التركي بعد التفجير، أكد أن المستهدف بالانفجار هو “أركان الدولة التركية”، فهل يشبه ذلك استهداف الدولة السورية في العام 2011 أو استهداف الدول العربية في ربيعها المأساوي؟ كلام يستحق التدقيق أكثر. ولكن من يستهدف تركيا اليوم بشكل مباشر من خلال العمليات الارهابية؟ هل هي المجموعات الكردية المحظورة والتي تطالب بعضها بحقوق أكبر، وبعضها الآخر بالاستقلال وتشكيل دولة كردية منفصلة؟ هناك تغييرات كبرى بدأت تتكشف في المنطقة، وأولها انتصار سوريا على الإرهاب، وحماية “أركان” الدولة السورية. ومن تأثيرات حماية كينونة الدولة السورية، نهاية الحلم ببناء دولة كردية على الأراضي السورية، ومن يطالب بذلك ليست سوى مجموعات تتعامل مع الاحتلال الأميركي، الذي يحاول إطالة أمد وجوده.
خلال الفترة الماضية، كان هناك أكثر من تصريح لمسؤولين أتراك حول عودة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا. ولكن بحسب تصريح وزير الخارجية السوري: “لا عودة للعلاقات الدبلوماسية ما دامت تركيا دولة محتلة في سوريا”. لكن إذا ثبت أن تركيا تنوي الانسحاب من الشمال السوري فإن الجماعات التي رعتها تركيا ودربتها في معسكراتها ستشعر بالخطر المحدق. أي أن ادلب باتت مفتوحة على حرب شعارها “إنهاء الوجود المسلح والإرهابي على كامل الشمال والشمال الغربي السوري”. وتفجير “الاستقلال” قد يكون رسالة لتركيا حول ما يمكنها أن تواجهه إذا ما قررت الذهاب في هذا السيناريو. من هذه الرسائل:
1- تنبيه تركيا للتوقف عن مد اليد الدبلوماسية لسوريا خاصة مع عودة اللاجئين السوريين منها. وكما يحدث اليوم في لبنان معارضة “المجتمع الدولي” لعودة النازحين السوريين، فإن هناك معارضة بالتأكيد لعودة هؤلاء من تركيا، خاصة وأن العائدين من تركيا يتحدثون عن عودتهم الآمنة بعد تسوية أوضاعهم.
2- عرقلة تعاون تركيا مع روسيا، وخاصة أن تركيا تعد الوسيط في عملية تصدير القمح وغيره من المنتجات الزراعية الروسية والأوكرانية إلى العالم، ولربما أن أحدهم يريد هذا الترخيص لأنه يشعر بأنه أحق بالأرباح، مع الأخذ بعين الإعتبار أن تركيا دولة عضو في الناتو ولا يمكن للناتو أن يعاقب نفسه ويفرض عقوبات اقتصادية على دولة عضو فيه بحجة التعامل التجاري مع روسيا.
3- خلق جو معارضة عارمة لأردوغان من أجل ضرب شعبيته في انتخابات تموز/يوليو 2023 القادمة.
4- إشعال الفوضى في تركيا من أجل تحقيق توصيات برنارد لويس بتقسيمها، ولربما ليس لدولتين فقط، ولكن لثلاث، تركيا الأوروبية، وبالتالي ضمها للناتو والاتحاد الأوروبي وتوسيع التهديد لروسيا، وقد تحدث بايدن علناً في مؤتمر آسيان عن ضرورة وقف “التهديد الروسي”، وقسم آسيوي، وقسم كردي. وقد يكون هذا ما قصده اردوغان بضرب أركان الدولة.
وبالتالي السؤال المبهم الجواب حتى الساعة: هل الانفجار حالة منفردة ورسالة واضحة تتجاوب معها تركيا، أم ستتكرر الرسائل؟
مهما يكن من أمر وراء تفجير شارع الاستقلال وساحة تقسيم بالذات، عبر تهديد الرمزية التي يمثلها الشارع والساحة، فإن من وراء تنفيذ ليس جهة صغيرة، بل هناك من يخطط لأعمال أكبر. فالتفجيرات، التي أصابت تركيا ما بين الأعوام 2015- 2017، والتي نفذها “داعش” و”حزب العمال الكردستاني”، جاءت مترافقة مع محاولات الانقلاب في تركيا في تموز/ يوليو 2016، فما الذي يمنع عودة هكذا نوع من السيناريو مرة أخرى؟ وما يشعر بالقلق من تكرار هكذا تفجير، أنه يأتي ضمن سلسلة من محاولات تفجير الأوضاع في غرب آسيا، سوريا 2011، لبنان 2019، الحرب الأميركية الروسية في اوكرانيا، إيران 2022، واليوم عاد دور تركيا، لأن هناك من هو غير راض عن ارتخاء قبضته حول عنقها.