اليمن : ثلث قرن من وحدة لم نحافظ عليها كالرجال!
السفير علي محسن حميد
عندما أعلنت الوحدة اليمنية في ٢٢ موايو ١٩٩٠ كانت معاول هدمها مُشرعة من قبل أحد “صناعها” غير الوحدوي بطبيعة مصالحه وثقافته وانحيازاته لأثرياء القوم .لقد اغترّ البعض بكلماته التي ناقضتها الأفعال عن الثورة والوحدة والثوابت الوطنية وكان هو الهادم الأكبر لها.كان الكل في شطري اليمن قبل الوحدة ولقسوة الأحوال لايجد مخرجا للخاص وللعام من المشاكل إلا بالوحدة، و شبه مطمئن بعد التوقيع على وثيقتها بأن الإخلاص لها سيكون هو السائد. ولكن سرعان مادفنت الوحدة وهي في مهدها وأصبحت شعارات وخطب كثورة سبتمبر ١٩٦٢. قلنا للالمان وللكوريين الجنوبيين في صيف عام ١٩٩٠ أننا سنكون أساتذتهم و سنعلمهم كيف يتوحدون في الوقت الذي كان طرف فيها يحفر قبرها . كنا نتبجح. كنا نكذب. لم يسع صالح وبطانته إلى الوحدة إلا للمزيد من الثراء ولقطع الطريق على تطورات جنوبية منها:
١ – أن الجنوب كان على وشك الطلاق مع ماضيه الشمولي وصراعات حزبه الحاكم الدموية وقبوله بالتعددية الحزبية ومايتبعها من انفتاح سياسي وحريات عامة وتنمية اقتصادية يسهم فيها رأس المال المحلي و العربي .
٢ – أن هذا التحول كان قمينا بإحداث تفاعلات في الشمال تز عزع سلطته الاتوقراطية – المناطقية.
٣ – الخشية من استثمارات المهاجرين في الجنوب وخاصة الحضارمة والخوف من اكتشاف النفط من قبل شركات غربية وما ستخلقه من فجوات في الثروة بين الشطرين.
٤ – القلق من حدوث استرخاء في علاقة الجنوب مع دول الجوار بعد طول استثمار الشمال لبعبع الشيوعية ولدوره الحامي للمنطقة منها. وبرغم أن السلطة في الجنوب قد قررت القطع مع ماضيها والانفتاح التدريجي إلا أنها ضلت الطريق بتحقيقها للوحدة مع شريك غير وحدوي، قوض الجمهورية في الشمال وجعلها إسما بدون معنى ولم تدرك أن المضمون الاجتماعي والسياسي للوحدة الذي يتطلع إليه اليمنيين في تضاد تام مع مصالح نظام عصبوي – فردي في الشمال .لقد غاب عنها أن هذا الشريك حليف لإخوان اليمن (حزب الإصلاح بعيد الوحدة) ويشاركه رؤيته وعداؤه لكل تغيير وأنه كان لايختلف عنه إلا قليلا في رؤيته أن النظام الجنوبي ليس إلا شيطانا رجيما ورجسا كبيرا وأن التوحد معه مخالف للدين.
لقد كان الحليفان شريكان في الفساد وفي ممارسة القمع وحتى عام ١٩٩٧ كانا شريكان في إجهاض الوحدة وفي اغتيال قيادات اشتراكية(١٥٢)، وطرد مايقرب من مائة ألف جنوبي من وظائفهم المدنية والعسكرية لالقلة كفاءة ولكن لأنهم ينتمون إلى جغرافيا ممقوتة وبعضهم إلى حزب يكرهه الطرفان معا. أتى الجنوبيون طواعية إلى صنعاء في مايو ١٩٩٠ ولكنهم لم يدخلوها بسلام آمنين، بل كانوا تحت الرقابة وكأن لاجديد تحت شمس اليمن ” الديمقراطي – التعددي، وزرعت أجهزة التصنت والتصوير في غرف نوم قيادات كبيرة .وبدأ التراجع عن تنفيذ اتفاقات الوحدة وفرض الهيمنة الشمالية في الإدارة.
الاغتيالات:
أيقن نائب الرئيس علي البيض أنه وقع في كمين وأنه خُدع وأن رفاقه الذين رأوا أن الوحدة الاندماجية كانت خطوة متسرعة ،كانوا على حق وأن بناء دولة المؤسسات بالشراكة لم يكن أولوية لصالح ولحليفه اللذان كانا ينتظران الفرصة المواتية للانقضاض على شريكهما وتصفير وجوده السياسي. كانت إدارة المال العام من بين نقاط الخلاف الجوهرية بين طرف اعتاد التصرف به كمال خاص، وطرف منضبط ورث إدارة مالية بريطانية لاتسمح بالفساد المفتوح، الذي تصاعد في الشمال وتركز في أعلى المستويات القيادية.
وثيقة ابريل ١٩٩٠ لتقويض الوحدة:
صدرت الوثيقة محدودة التداول عن المؤتمر الشعبي العام قبيل تحقيق الوحدة بأسابيع وهي تعبير صريح عن رفض المؤتمر للشراكة مع الحزب الاشتراكي في السلطة واستمرار “نظام” الجمهورية العربية اليمنية. ولذلك لم تتوالد الأزمات بين صانعي الوحدة من فراغ وقد عمد صالح وحليفه إلى اتباع سياسة معرقلة ممنهجة توجاها بحربهما المشتركة في ٥ مايو ١٩٩٤. تقول بعض فقرات هذه الوثيقة ” إن التعددية السياسية التي نص عليها مشروع دستور دولة الوحدة لن تكون أهدافها خارج أهداف المؤتمر الشعبي وميثاقه الوطني”. إن هذا الموقف معادٍ للتعددية السياسية ولماتمثله بقية الأحزاب من أفكار وسياسات لاتتطابق مع ايديولوجية المؤتمر. وفي نص يصعب فهمه تقول الوثيقة ” ليس في شعبنا تعددية اجتماعية ومن ثم لن تكون هناك تعددية منهجية تتعارض وقيم الشعب الواحد” العبارة كلها لاتقول شيئا وترى في اليمنيين مجتمعا استثنائيا،فريدا من نوعه، لاتنطبق عليه قوانين البشر وأنه كتلة صلبة ،ربما قبلية في ذهن كاتبها، لاتنفذ منها رياح التغيير و لاطبقات فيه ولاطوائف ولا تتعارض فيه المصالح والرؤى.مجتمع آمين.. إن القول بالتعددية المنهجية تخريج ضلالي وضبابي بل وتحريف جلي للتعددية السياسية التي لاتحتاج إلى تعريف وتهرب مبكر منها وإصرار متعمد لاستمرار حكم الفرد والعصبية وتحريف واضح لمضمونها ومحاولة لإبقاء الحال كما هو. باختصار إن الوثيقة شبه السرية، رفضت الديمقراطية القائمة على حق التعدد الحزبي والتداول السلمي للسلطة ومقرطة السلطتين الشموليتين الشمالية والجنوبية بعد دمجهما في سلطة واحدة. لقد قبل أحدطرفيها التغيير وتبناه وكان مطمئنا إلى حسن نوايا الطرف الآخر لثقته بأن الوحدة كانت مخرجا لهما معا وليس لأحدهما فقط لحل أزمات اقتصادية وسياسية مزمنة ولترشيد توظيف الموارد الشحيحة المتاحةولتحسين الوضع المعيشي وتخفيف أذى الفقر.
وتضيف الوثيقة بأن “الوحدة هدف سبتمبري عظيم ” وهنا تتجاهل ثورة اكتوبر التي لولاها لما قامت الوحدة، وفوق ذلك تتجرأ بالافتراء بأن اتفاق عدن، نوفمبر ١٩٨٩، كان “تتويجا لجهود القيادة السياسية الحكيمة والمؤتمر الشعبي العام”. وبهذا الإفتراء ألغت الوثيقة في وقت مبكر دور الحزب الاشتراكي كطرف في صنع الوحدة وتطلع أحزاب أخرى للمشاركة في السلطة أقصاها تقاسم السلطة بين سلطتي الشطرين . وعندما لاحت الفرصة بعد حرب تدمير الوحدة عام ١٩٩٤ تم الإخفاء الرسمي لصورة النائب البيض وهو بجانب الرئيس صالح وعشرات أثناء رفع علم الوحدة بعدن في٢٢ مايو وإنزال علم دولة الجنوب والبيض يصفق لإنزاله. وبعد اكتمال أركان جريمة تلك الحرب انتهج صالح سياسة الإقصاء الكامل لشريكه و الزعم بأنه حققها وحده وهو مايعني أن قيامها سلميا عام ١٩٩٠ لم يكن في نظره يمنحها المشروعية التي بدأت فقط بالنار بعد حرب ١٩٩٤ . لقد بدأ وأد اتفاق عدن في نوفمبر ١٩٨٩ بتطبيق بيروقراطية نظام صالح في مختلف المؤسسات لمقولته ” ماعيجوش الجنوبيين يعلمونا” هروبا مما اتفق عليه في عدن للأخذ بما في أحسن مافي نظامي الشطرين “البائدين” من أنظمة وقوانين. وللحفاظ على المصالح غير المشروعة استمرت الإشادة بدور صالح دون غيره في تحقيق الوحدة والنفخ في حكمته وحصانته من اقتراف أي خطأ، ويحضرني بهذا الصدد حوار في مقيل اللواءعبد الملك السياني في فبراير ١٩٩٠ دار فيه نقاش عن التعددية والفصل بين السلطات والدستور والقوانين سأل خلاله ضابط عن مكانة الرئيس في هذا كله وعندما لم يقتنع بما سمعه أصر على القول بأن الرئيس سيظل هو الرمز والقائد. وفعلا علا دور الفرد على دور المؤسسات والدستور حتى فبراير ٢٠١٢. كان سوء إدارة دولة الوحدة وتهميش الجنوبيين وحروب صعدة الستة والعبث بالمال العام وانتشار الفساد والمحسوبية إرهاصات لشمس تحرق الفساد نيابة عن المنتظرين على الرصيف الذين لم يكن لديهم سوى ماتضعه السلطة على موائدهم. الفساد والحروب أنضبت الموارد وعطشت صنعاء وتعز وهمشت عدن وريّفتها بحسب تعبير الشهيد جار الله عمر، وفازت اليمن بتسميتين، هما الدولة الفاشلة والحاضنة للإرهاب من قبل دول ومؤسسات أجنبية كانت تراقب أوضاعها عن كثب. وبرغم كل هذا السواد أبت سلطة صالح الخروج من مأزقها ومأزق الوطن لأن توريث النجل كان الهم الأوحد وبدأ الناس يقتنعون شيئا فشيئا بأننا في دولة “جملوكية”. كان الكل صامت أو شبه صامت ولم يحاول ترقيع الخرق الذي اتسع. و عندما توفرت لي منصة للتعبير عن سوء الأحوال وضرورة التغيير في الحفل السنوي لمؤسسة السعيد بتعز في ٢٨ ابريل ٢٠٠٥ ، الذي توزع فيه جوائز سنوية للباحثين لم اتردد في التحذير وقلت بحضور الشيخ عبد الله حسين الأحمر بأنه إذا لم يحدث تغيير فستسيل الدماء أنهارا. لم يصغ من اطمأن إلى أن كل شيء في قبضته وعلى خير مايرام….ونشبت بعد ذلك ثورة الشباب السلمية في سبعة عشر محافظة يمنية عام ٢٠١١ التي قمعت بالسلاح وسالت الدماء في العديد من ميادينها وساحاتها وتكالب عليها الأعداء من الداخل ومن الخارج ونجحوا فعلا في إجهاضها ثم تلتها “عاصفة الحزم” عام ٢٠١٥ لتحقيق أهداف عدة منها منع تطبيق مخرجات الحوار الوطني والعودة إلى نظامي ١٩٩٠. إن اليمن اليوم في أسوأ أسوأ أحوالها ويعز يعز فيها الرجال.
2023-05-22