” الى جنيفر ميدن!
حمزة الحسن
شكراً، لكننا كتاب من ورق”
الشاعرة الامريكية جنيفر ميدن
تحتج على جريمة قتل اكثر من ستين الف
من الجنود العراقيين بعد قرار وقف اطلاق النار في حرب الكويت،
دفنتهم جرافات تقذف رملاً من مسافة كم تقريباً،
وماتوا من الدهشة والاختناق.
شكرا جنيفر لأنك بالانابة عنا عبرت عن السخط على جريمة ابادة تم الاعتراف بها رسميا من قبل الولايات المتحدة،
أما نحن، سيدة جنيفر، فنحن عشاق العصافير والبحيرات والزرازير والستائر،
والاطفال وصوت الفاختة على اسلاك الكهرباء،
ونعشق أكثر خرير المياه،
لكن ، لكن سيدة جنيفر، كل ذلك على الورق فقط.
نحن نستطيع التبول على أية ترعة وقتل اي عصفور في الواقع،
واغتيال ضوء القمر في الواقع،
هذا اذا نظر احدنا يوما الى ضوء القمر،
وقضاء الحاجة فوق أي حقل أزهار.
لم ينطق شاعر أو كاتب عراقي واحد ولو بسطر واحد عن هذه الجريمة،
في حين ان شعوب العالم خلدت في انصاب واحتفالات سنوية وقصائد وحكايات للاطفال ضحايا لا يتجاوز في حالات عددهم اصابع اليد الواحدة،
لأن القضية ليست في الرقم بل مبدأ الجريمة،
ولكي لا تتكرر.
لو تعلمين، سيدة جنيفر، اننا نملك فهماً مشوهاً ــــ كأعماقنا ـــ عن مفهوم المجزرة، وعلى سبيل المثال نحن لا نرفض المجزرة على طريقتك بصرف النظر عن اسماء وهوية ودين وعقائد ضحايا الجرافات،
بل مفهوم المجزرة عندنا، كمفهوم السرقة، والشرف، والوطنية، والشجاعة والشهادة، والبطولة والحرية،
يخضع لمفاهيم مختلفة كالقرابة والطائفة والقومية والعقيدة:
فمجزرة ضد الاسلاميين، مثلا، لا تعني شيئاً لليبرالي المثقوب البنطال من الخلف،
ومجزرة ضد الشيوعيين لا تعني شيئا، أيضا، للاسلاموي،
كما ان تقطيع اجساد مئات من رجال العهد السابق بلا أي ذنب بالمناشير،
من قبل دكتاتور أهوج هي مشكلة خاصة بالحزب الحاكم،
لا علاقة لنا بها لأن المجزرة عندنا تخضع لنظام الملكية العقارية كالحقيقة والشرف والاصالة والعدالة،
لذلك نساق كل حقبة، جميعا، ضحايا وجلادين، الى المحارق والمجازر بصمت خراف المسلخ،
وكل شيء يهون ما دام نخل السماوة طرته سمرة في الاغاني،
والعصافير تزقزق فوق هياكل جثث سبايكر والصقلاوية بالامس،
وحلبجة ،وقاعة الخلد 1979، وصيد الشيوعيين في الشوارع عام 1963 كصيد الساحرات في اوروبا في القرن الوسطى،
مع ان شعراء ما يُسمى في الكتب القديمة” الوطن” ملأوا الدنيا ضجيجاً عن عصافير هانوي،
وحمام ساحة السلام السماوي في بكين وعن طيور مدريد،
وعن طيور الكرميلن في الستينات وما بعدها.
لا أدري لماذا لا تستحق عصافير الناصرية والديوانية والكوت وغيرها،
أن تكون جملة في الشعر” الثوري”؟
وما الفارق بين حمام بكين الاحمر وحمام الامام الكاظم؟
هل الاول ماوي وثوري ويؤمن بحرب العصابات؟
أم ان حمام الكاظم مسالم وجميل وعفوي ويمشي بين اقدام الناس كما لو انه فوق منارة ويذرق ، ماشيا، خارج قواعد الايديولوجيا؟
واين ذهب الغزل، في الشعر العراقي، عن القطار الأممي الذاهب من باريس الى مدريد في الحرب الاهلية الاسبانية في الثلاثينات،
ونحن أيضا عندنا قطارات في محطة علاوي الحلة،
وهناك مدن محتلة،
وعندنا الكثير من الصقور الجميلة في الصحراء المحتلة تستحق الاطراء الشعري؟
جنيفر ميدن تتأمل في الوحش الامريكي، وحش بلدها، في حين لا نعرف نحن شيئاً لا عن الوحش،
ولا عن الذين دفنواً” فاغري الافواه” تحت الرمل،
وعندما تم امس فقط اكتشاف مقبرة جماعية لـــ 400 جثة لجنود أسرى قتلوا، احياءً،
مرت المجزرة بصمت أكثر قسوة من الجريمة،
كما لو ان هؤلاء الجنود ضربتهم صاعقة في رحلة سياحية في الصحراء،
وليسوا في واجب الدفاع عنا وعن مستقبل اولادنا،
مما يُفرغ مفهوم التضحية من كل معنى،
والقتلة من كل الاصناف، في الداخل والخارج، يعرفون جيداً اننا لن نحتج على مجزرة،
بل نحنج على وجهة نظر أو رواية أو علاقة حب أو أغنية،
لذلك سيقتلوننا على دفعات واقساط ومراحل ليس برصاصهم،
بل بصمتنا.
مرت قبل مجزرة الصقلاوية مجازر وكما ستمر بعدها،
لأننا نقف في طابور طويل أمام مسلخ بشري،
وشعارنا التاريخي” كل شاة معلقة من كراعها”،
الى ان يأتي يوم نعلق جميعاً، بهذه العقلية، من كارعيننا.
اذهبوا الى البرية جنود الرمل وسبايكر وحلبجة والصقلاوية والمجازر القادمة،
فكل شيء على ما يرام ما دامت العصافير تزقزق في قصائدنا،
حتى لو كانت المياه بلون الدم.
2016-06-20