الولايات المتحدة – مواضيع تُهْمِلُها الحملة الإنتخابية!
الطاهر المعز
ركّزت الحملة الإنتخابية الأمريكية – كالعادة – على مواضيع تُعَدّ هامشية بالنسبة لمعظم سكان الولايات المتحدة، وهي تخضع لطقوس وشعائر تجعلها شبيهة بِعَرْضٍ مَسْرَحِي، بينما يعيش الكادحون والفُقراء مشاكل الحياة اليومية التي تُهملها الحملة الإنتخابية كانخفاض دخل أغلبية المواطنين وارتفاع إيجار السّكن وانتشار الفقر وما إلى ذلك من المشاغل التي نورد بعضها في الفقرات الموالية.
من جهة أخرى، أدّى ارتفاع أرباح المُضاربين في أسواق الأسهم الأمريكية وارتفاع أسعار العقارات إلى “ارتفاع ثروات الأُسَر الأمريكية والمؤسسات غير الربحية بشكل غير مسبوق” من 161 تريليون دولارا بنهاية الربع الأول من سنة 2024 إلى 163,8 تريليون دولارا، خلال الربع الثاني من سنة 2024، وفق البيانات الواردة في تقرير لمجلس الاحتياطي الاتحادي ( المصرف المركزي الأمريكي)، وفي المقابل ارتفعت ديون الأُسَر بمعدل سنوي بلغ 3,2%، وهو الأسرع منذ الربع الثالث من سنة 2022، كما أظهر التقرير عددًا من المتناقضات الأخرى، غير إن هذه الأرقام “الشمولية” أو “المُجَرّدة” تخفي التفاوت المُجحف في الثروة والدّخل وفي الحصول على السلع والخدمات الضرورية…
الأمن الغذائي
ارتفع المعدل الرّسمي لانعدام الأمن الغذائي في الولايات المتحدة من 10,2% سنة 2021 إلى 12,8% سنة 2022 ، وإلى 13,5% من العدد الإجمالي للمواطنين، سنة 2023 وفقًا للبيانات التي أصدرتها وزارة الزراعة الأمريكية يوم الرابع من أيلول/سبتمبر 2024، أي إن أكثر من 1 من كل 8 من الأمريكيين – حوالي 47 مليون شخص – لا يستطيعون الحصول على ما يكفي من الغذاء لأنفسهم أو لعائلاتهم في بعض الأحيان على الأقل، بينما يتم إتلاف نحو 40% من الغذاء في النّفايات، ويُعْزى هذا الإرتفاع إلى خفض الإنفاق الحكومي على المُساعدات الغذائية (قسائم الغذاء) على أفْقَر فُقراء أمريكا، وتتلخص في شراء الحكومة فائض الإنتاج لدى المزارعين، وتوزيعه على الفُقراء بعد دراسة وضعهم من قِبَل مصالح العمل الإجتماعي بالأحياء، وتتمثل في تمكين الفقراء من شراء البقالة ومن تمكين أبناء الفُقراء من الغذاء المجاني في مؤسسات التعليم، وتزامن خفض الإنفاق الحكومي مع ارتفاع أسعار الغذاء وتكاليف الإسكان…
يتمثل انعدام الأمن الغذائي في عدم الحصول على الغذاء الكافي والمُتوازن، ويتجسّد في عدم القدرة على تسديد تكاليف الغذاء ويؤدي إلى الإكتفاء بوجبة واحدة أو خفض كمية الطعام ونوعيته، وأدى ارتفاع انعدام الأمن الغذائي إلى ارتفاع عدد الفُقراء المُضْطرّين إلى اللُّجوء إلى بُنُوك الطعام، وتُشير الدّراسات إن انعدام الأمن الغذائي لا يزال في مسار تصاعدي، ومن غير المُرجّح انخفاض حدّة الفقر والجوع ما لم تُتّخَذْ قرارات لإبطاء التضخم ولِخَفْضِ أسعار المواد الغذائية وإيجار المساكن سنَتَيْ 2024 أو 2025.
الفوارق الطّبقية:
تبدو الفوارق الطبقية وكأنها من المواضيع المُحرّمة أو التي يتم نكران وُجُودها أصلاً، رغم إعلان مكتب الإحصاء الأمريكي يوم العاشر من أيلول/سبتمبر 2024 إن عدد الأمريكيين الذين يعيشون في فقر، وفقًا للتعريف الرسمي، انخفض قليلاً إلى حوالي 36,8 مليون بنهاية سنة 2023، بفعل الإرتفاع الطفيف لحجم الدّخل لدى الأُسَر، ومع ذلك يواجه المزيد من الأمريكيين صعوبات اقتصادية، لكن مقياس الفقر الرسمي يهتم بالكم المُطلق، ويُمثل هذا العدد الرسمي للفقراء نسبة 12,9% من السّكّان، ويُفضل عُلماء الإجتماع تَجنّب هذا “التناقض” الظاهري بتطبيق مقاييس “الفقر التكميلي” الذي يأخذ نفقات الأسرة بعين الإعتبار، خصوصا مع ارتفاع نفقات الغذاء والرعاية الصحية ونفقات السّكن، وينتقد بعض الباحثين وعلماء الإجتماع طريقة إعداد تقارير مكتب الإحصاء التي لا تتطرق إلى المخاطر طويلة الأمد المتمثلة في الفقر على مدى حياة المواطن الأميركي العادي أو في العيش على حافة الفَقْر، لأن مقارنة بسيطة بين الدّول الرأسمالية المتقدّمة تُظْهٍرُ إن معدلات الفقر في الولايات المتحدة هي من بين أعلى المعدلات بين الدول الصناعية “الغربية”، وسواء كان التركيز منصباً على البالغين في سن العمل، أو الأطفال، أو الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، أو على السكان ككل، فإن الولايات المتحدة تقترب من القمة من حيث مَدَى وعُمْق الفَقْر، وفق منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية ( OECD ) لأن شبكة الأمان الأمريكية ضعيفة ولأن الفوارق الطبقية أكْبَر وأعمق في الولايات المتحدة، مقارنة بالدول الأخرى ذات الدخل المرتفع.
في الولايات المتحدة، تمتلك الأسرة السوداء المتوسطة 15,8% فقط من ثروة الأسرة البيضاء المتوسطة، كما يتركز الدّخل (التدفقات التي تدفع مقابل العمل أو حيازة رأس المال) إلى حد كبير في أيدي أقلية من البيض والذكور، نشأوا في أُسَرٍ مكنتهم من التّزوّد برأس المال المالي ورأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي، أي إن امتيازاتهم موروثة، كما إن المناصب والوظائف الاجتماعية غالباً ما تكون موروثة من رأس المال المالي والاجتماعي والثقافي لأسرة الشخص، فإن عدم المساواة في الدخل تتبع نفس الاتجاه وتعكس عدم المساواة في الوصول إلى رأس المال.
أما إذا نظرنا إلى بعض التفاصيل داخل صفوف الفُقراء فإن الأمريكيين السّود يظلُّون يعانون من انعدام الأمن الاقتصادي الشديد، بفعل عدم المساواة الاقتصادية المستمرة بين الأسر السوداء والبيضاء، وهي عدم مساواة ذات جذور تاريخية تمتد إلى بضعة قُرون، وتعود إلى فترة العُبُودية الرّسمية وفق مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية الذي نشر دراسة عن الفجوة بين السود والبيض في فُرص العمل ومستوى الدّخل والدّراسة والسّكن والصّحّة والغذاء وما إلى ذلك، واستنتجت إحدى دراسات المركز “إن الأميركيين السود سوف يحتاجون إلى 1,4 مليون وظيفة إضافية حتى يتسنى لهم الحصول على وظائف بنفس معدل توظيف البيض” وعند ترجمة هذه الفجوة في الوظائف يتبيَّنُ إنها تعني انخفاض دخل السود بنحو ستِّين مليار دولارا سنة 2023، مقارنة بما كانوا ليكسبوه لو وجد العاطلون السود عن العمل وظائف، وبشكل عام، لا يزال متوسط دخل السود اليوم، أقل بنحو 30 ألف دولار من متوسط دخل البيض، واستنتج مركز الأبحاث الإقتصادية والسياسية “إن الفجوة العرقية في فرص العمل تظل مكلفة للغاية بالنسبة للأميركيين السّود”، وإذا استمرت البلاد بنفس الوتيرة التي كانت تتحرك بها منذ ستينيات القرن العشرين، فسوف يستغرق سدّ الفجوة الإقتصادية بين السود والبيض أكثر من خمسة قُرون لسد فجوة الدخل العرقي، وحوالي ثمانية قُرُون لسدّ فجوة الثروة العرقية، ولا يمكن تصحيح هذه الفجوات من تلقاء نفسها، بل يتطلب تصحيحها قرارات سياسية لمعالجة “الحواجز المستمرة التي تحول دون تحقيق الأمن الاقتصادي وبناء الثروة” ومن هذه القرارات تمكين السود (والفقراء عموما) من التعليم الجيد، وتوفير الإسكان والرعاية الصحية بأسعار معقولة، وخلق فرص العمل الموجهة إلى المجتمعات التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة، وفرص بناء الأصول الجديدة الممولة من القطاع العام مثل سندات الأطفال وما إلى ذلك من الإجراءات، وفْقَ مركز البحوث الإقتصادية والسياسية – قسم العدالة العرقية والإقتصادية 10 أيلول/سبتمبر 2024
2024-09-18