الولايات المتحدة قُبَيْل الإنتخابات!
الرّعاية الصّحّية
الطاهر المعز
تمتلك الولايات المتحدة أكبر ناتج محلي في العالم وأضخم ترسانة حربية وأضخم جيش منشر في حوالي 835 قاعدة معروفة في القارات الخمس وفي بحار العالم، وتُهيمن الولايات المتحدة على العالم بالقوة العسكرية وبالدّولار، ولكن لا يستفيد المواطن الأمريكي – باستثناء الرأسماليين ونسبة صغيرة من المجتمع – ولا مواطنو العالم من هذه القوة، فالتفاوت الطّبقي داخل البلاد مُجْحِف، وبقدر ارتفاع الإنفاق العسكري، ينخفض الإنفاق الحكومي على السّكن ومكافحة الفَقْر، وإذا ارتفع الإنفاق فإنه لصالح الأثرياء والمجموعات الرأسمالية الكُبْرى، وهو ما يحدث في قطاع الصّحّة التي تدرس الفقرات الموالية بعض جوانبها…
الصحة تجارة مربحة
تُقَدِّمُ منظومة الرعاية الصحية الأمريكية أسوأ الخدمات وتحصل على أسوا النتائج في حين تُعْتَبَرُ هي الأغلى على الإطلاق في العالم، وَيُعْتَبَرُ إنفاق الحكومة الأمريكية وحدها أعلى من إجمالي الإنفاق (كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي) لِأَيِّ دولة أخرى، وبلغ 16,6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ويمثل الإنفاق الحكومي وحده 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى سبيل المقارنة فإن إنفاق ألمانيا على الرعاية الصحية في أوروبا هو الإنفاق الألماني، بنسبة 12,7% من الناتج المحلّي الإجمالي، لكن نظام الرعاية الصحية الألماني أكثر نجاعة من النظام الأمريكي، ( تخص هذه الأرقام والنِّسَب سنة 2022).
تستمر تكاليف إنفاق الأفراد والأُسَر الأمريكية في الإرتفاع بفعل ارتفاع أقساط التأمين التي يُسدّدها الأفراد والأُسَر فيما يُجبر أرباب العمل العُمّال والمُوَظَّفِين على تحمل المزيد من تكلفة التّأمين الصّحِّي كل عام، وأدّى هذا ارتفاع أقساط التأمين وأسعار الأدوية والخدمات الصحية إلى انخفاض عدد المُسْتَفِيدِين من المنظومة الصحية، بالتوازي مع ارتفاع قيمة أرباح شركات الرعاية الصحية إلى نحو تريلْيُونَيْ دولار سنة 2022، لأن نظام الرعاية الصحية مُصَمَّمٌ لاستخراج أقصى قدر من الأرباح لصالح شركات المُخْتَبَرات والأدوية وشركات التّأمين، بدلاً من تعميم تقديم الرعاية الصحية وتوسيع قاعدة المُسْتَفِيدِين من الخَدَمات الطِّبِّيَّة، وعلى سبيل المُقارنة بلغ إنفاق الرعاية الصحية للفرد في الولايات المتحدة 12555 دولارًا أمريكيًا، سنة 2022، أو حوالي ضعف متوسط الإنفاق المُرَكّب للفرد على الرعاية الصحية في أربعة من الدّول الغنية ( كندا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا) ومع ذلك، اعترضَ الكونغرس الأمريكي على تدخّل الحكومة الإتحادية للتفاوض على أسعار الأدوية، في بلد لا تغطي أنظمة الرعاية الصحية الوطنية فيه جميع المواطنين، ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، قُدِّرَ عدد المحرومين من التّأمين الصحي بما لا يقل عن 27 مليون شخص، سنة 2022.
خدمات غالية ونتائج سيئة
أجرى “صندوق الكومنويلث” دراسة استقصائية على نظام الصّحّة في 10 دول غنية ــ الولايات المتحدة وكندا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا وهولندا ونيوزيلندا والسويد وسويسرا ــ فكانت الولايات المتحدة في المرتبة الأخيرة في أداء نظام الرعاية الصحية، سنة 2024، وأوْرَد التقرير “صورةً لنظام الرعاية الصحية الأمريكي الفاشل… والعاجز عن التّغطية الصّحّية الشاملة، وعن تَلْبِيَة الإحتياجات الأساسية للرعاية الصحية للسّكّان”، واعتمد التّقرير مقاييس لتقْيِيم أداء أنظمة الرعاية الصحية، واحتلت الولايات المتحدة المرتبة الأخيرة في الوصول إلى الرعاية والنتائج الصحية، وقبل الأخيرة في الكفاءة الإدارية والمساواة، كما يُعتبَر متوسّط العمر عند الولادة هو الأقْصَر ( أقل بمعدّل أربع سنوات) في الولايات المتحدة مقارنة بالدّول الأخرى، ويتعرض الأمريكيون أكثر من غيرهم للوفيات التي يمكن تَجَنُّبُها ( مثل أكثر من 43 ألف حالة وفاة مرتبطة بالأسلحة النارية سنة 2023)، فيما يموت أكثر من 26 مليون شخص سنويا في الولايات المتحدة بسبب الافتقار إلى التأمين الصحي، كما يُفلس مئات الآلاف بسبب التكاليف، رغم ارتفاع الإنفاق الذي لا يتناسب مع دخل الأفراد والأُسَر، وكذلك ارتفاع الإنفاق الحكومي الذي تستفيد منه شركات المختبرات والأدوية وشركات التأمين الصّحّي، بينما تُطالب جمعيات الدّفاع عن حقوق المواطنين بزيادة الإستثمار في الوقاية والتربية الصحية والرعاية الأوّلية وتمويل المستشفيات العمومية وتحسين أدائها الصحي والإداري، لأن القطاع الخاص مُصَمَّمٌ لتحقيق الأرباح وليس للمحافظة على صحة الإنسان، ومُصمّم لجعل المصابين بأمراض مُزمنة يستهلكون الأدوية طيلة حياتهم بدل تعافيهم منها نهائيا، ولذلك تؤدي الخصخصة ( مهما كان القطاع ) إلى ارتفاع التّكاليف وانخفاض جودة الأداء والخَدَمات…
استفادة تُجّار الصّحّة من المال العام
أَقَرّت إدارة الرئيس باراك أوباما ( بتأييد الأغلبية النيابية للحزب الدّيمقراطي آنذاك) نظامًا صحِّيًّا يُمَكّن العديد من الفُقراء وكبار السّن من العلاج، لكن ذلك القرار لم يخرج ولم يُخالف أو لم يَشُذَّ عن قانون السّوق، لأن هذا النظام (Medicare أو Medicare Advantage ) هو نظام رعاية صحية مُمَوّل من الحكومة، والذي يحق لجميع من يبلغون من العمر 65 عامًا أو أكثر الحصول عليه، ولذلك يتم توجيه أكبر عدد ممكن من كبار السن إلى هذا البرنامج، من قِبَل القطاع الخاص، لكي تتم خصخصة هذا البرنامج، حيث تستحوذ شركات التأمين على أموال الرعاية الصحية التي تقدمها الحكومة الإتحادية، مع تقديم أقل قَدْر من الرّعاية بتكلفة أعلى، وفق مجلة الجمعية الطّبّيّة الأمريكية الصّادرة في حزيران/يونيو 2024 وأكّدَ التقرير الذي كتبه ثلاثة باحثين “أن إعلان مجموعة التجارة في صناعة التأمين الصحي بأن برنامج Medicare Advantage صفقة جيدة لدافعي الضرائب هو إعلان كاذب، لأن لجنة استشارات مدفوعات Medicare غير الحزبية أبلغت الكونغرس الأمريكي أن المدفوعات الزائدة لبرنامج Advantage أضافت 82 مليار دولار إلى تكاليف دافعي الضرائب لبرنامج Medicare سنة 2023 و612 مليار دولار بين سَنَتَيْ 2007 و2024″، وكتبت مجلّة ( Corporate Crime Reporter ) إن شركات التأمين الصّحّي ترغب في اختيار المرضى الذين يكلف علاجهم أقل قدر من التكاليف، لأن برنامج ميديكير أو ميديكير أدفانتج يُسدّد مبلغًا مُحَدّدًا عن كل مريض، ونجحت الشركات الخاصة للرعاية الصحية في جعل البرنامج المصمم للمساعدة في خفض الإنفاق على الرعاية الصحية أكثر تكلفة بشكل كبير من البرنامج الحكومي التقليدي الذي كان من المفترض أن يُحَسِّنَهُ”، وقد اتهمت السلطات القانونية العديد من شركات التأمين الكبرى بالاحتيال، ولكن مبلغ الغرامات ضعيف، وأشار تقرير نشرته مجموعة الأبحا ث ( KFF ) إن هوامش الربح الإجمالية لشركات التأمين لكل مشترك تبلغ ضِعْف الأرباح التي تحققها خطط التأمين الجماعية والفردية العادية، وبذلك حققت أكبر شركات التأمين الصحي في أمريكا أرباحًا تجاوزت 41 مليار دولار سنة 2022…
أما شركات الأدوية الكُبرى فقد ارتفعت عائداتها من 139 مليار دولارا سنة 1979 إلى 321 مليار دولارا سنة 2018، وارتفعت أرباحها من نسبة 15,3% من المبيعات سنة 1979 إلى 23,4% سنة 2018، وأنفقت شركات الأدوية الكبرى أكثر من 420 مليون دولارا على مجموعات الضّغط، بغرض التأثير على قرار الحكومات (التي تمثل رأس المال، ولا تمثل العُمّال والموظفين وصغار الفلاحين والفُقراء)، وتمكّنت بذلك من الحصول على نظام براءات الاختراع الذي يمنع إنتاج أدوية عامة أرخص حتى تتمكن الشركات المصنعة الأصلية من جمع أرباح غير متوقعة، وعلى ذكر الأرباح، حققت شركات صناعة الأدوية، على مستوى العالم، أرباحًا بلغت 1,4 تريليون دولارا سنة 2022، وتصدّرت شركة فايزر القائمة وبلغت إيراداتها الصّافية 31,4 مليار دولارًا وحققت خمس شركات أخرى أكثر من عشر مليارات دولار لكل منها، وتُوجّه الشركات الكبرى للمختبرات وصناعة الأدوية ميزانية البحث والتطوير ( حوالي 20% من إيراداتها، وهي نسبة مرتفعة لكنها مربحة على المدى المتوسط والبعيد) إلى المرضى المُصابين بأمراض مزمنة الذين سوف يستخدمون الأدوية على المدى الطويل، ويحقّقون قيمة زائدة مرتفعة وثابتة لهذه الشركات التي تُهْمِلُ اللقاحات التي يتم إنتاجها مرة واحدة لعلاج الأوبئة التي تؤثر بشكل رئيسي على البلدان الأكثر فقراً…
يتم تطوير أو ابتكار معظم الأدوية الجديدة في مختبرات الجامعات ومختبرات القطاع العام والحكومة، أو في مختبرات شركات الأبحاث الأصغر حجماً، ثم يتم شراؤها، وبذلك تربح الشركات الكبرى الأمريكية للأدوية حوالي أربعين مليار دولارا سنويا، من خلال استغلالها لنتائج بُحُوث المعاهد الوطنية للصحة والجامعات وكليات الطب وغيرها من مؤسسات البحث، ثم تبيع الأدوية بأسعار خيالية، وعلى سبيل المثال، أكّدت منظمة ( Corporate Watch): “إن تكلفة تصنيع الإنسولين تَقِلُّ عن ستّ دولارات للقارورة، ولكن سعرها يصل إلى 275 دولار في الولايات المتحدة (وهذا أحد الأمثلة التي قدمتها حملة “المرضى من أجل أدوية بأسعار معقولة”)، وفي أوروبا، فرضت شركة الأدوية العملاقة جيلياد متوسط 55 ألف يورو لعلاج التهاب الكبد الوبائي سي لمدة 12 أسبوعا ــ في حين أن تكلفة تصنيع الحبوب أقل من يورو واحد للحبة. وأثْبَتَتْ إحدى الدراسات الأكاديمية أن شركات الأدوية الأميركية تحقق في المتوسط هامش ربح إجمالي بنسبة 71% من مبيعات الأدوية، أي الأموال التي تجنيها من الدواء بعد طَرْح تكلفة إنتاجه، وقبل طَرْح تكاليف التسويق أو الضرائب أو مكافآت المديرين التنفيذيين”، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرًا ( 21 حزيران/يونيو 2024) يُشير إلى الحِيَل التي يبتكرها مديرو استحقاقات الصيدلة في الولايات المتحدة وهُمْ “وسطاء يشرفون على الوصفات الطبية لأكثر من 200 مليون شخص في الولايات المتحدة”، ومُهمّتهم الرسمية هي خفض التكاليف ولكنهم “يفعلون العكس في كثير من الأحيان ( إذْ ) يرفعون تكاليف الأدوية لملايين الأشخاص وأصحاب العمل والحكومة… إنهم يوجهون المرضى نحو الأدوية الأكثر تكلفة، ويفرضون هوامش ربح باهظة على الأدوية التي قد تكون رخيصة الثمن، ويستخلصون مليارات الدولارات من الرسوم المَخْفِيّة…” وبذلك ترتفع أرباح الشركات الكبرى للمختبرات والأدوية، فضلا عن الدّعم الحكومي المباشر، كما حصل خلال جائحة كوفيد -19، حيث حصلت بعض أكير الشركات على مليارات الدّولارات من المال العام، لتشجيعها على إنتاج لقاحات، لكن شركات الأدوية حصلت على المال العام واحتفظت بالأرباح ورفضت تخفيف حقوق براءات الاختراع الخاصة بها أو خفض السّعر للفقراء داخل الدّول الغنية وخارجها، متمسكة بالتطبيق الحَرْفِي لقوانين الملكية الفكرية وقواعد منظمة التجارة العالمية، وبذلك أظهرت الشركات والدّول التي تحميها إن أرباح الشركات أكثر أهمية من ملايين الأرواح، لأن الصحة ليست حقاً من حقوق الإنسان، بل هي سلعة يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب ضخمة لرؤوس الأموال التي كُلّما زاد حجمها في مجال الرعاية الصحية، كانت النتائج أسوأ.
خاتمة
يَعْكس الوضع الصحّي جانبًا من تطور الرأسمالية الإحتكارية في الولايات المتحدة، أضخم اقتصاد عالمي ( أكبر ناتج محلي إجمالي)، وتوسّع الفجوة بين الأثرياء والفُقراء، حيث يُعاني عشرات ملايين السّكّان من التّشرّد والفُقر، بينما تُوَزّع الحكومة الإتحادية والحكومات المحلية المال على الشركات، وأدّت السياسة الرأسمالية في الولايات المتحدة إلى انخفاض متوسّط العُمُر وإلى إقصاء بضعة عشرات الملايين من السكان من منظومة الرّعاية الصّحّية بسبب افتقادهم للمال الضروري للعلاج، ولا حظ الرئيس الكوبي الأسبق فيدل كاسترو إن الوضع الصّحّي الأمريكي نتيجة للخيارات السياسية، ففي كوبا المُحاصرة منذ أكثر من ستة عُقُود “يموت النّاس بسبب الشيخوخة، خلافًا للولايات المتحدة” حيث يموت الناس بسبب الأمراض القابلة للعلاج وبسبب الفقر والإهمال وسوء التغذية والتّشَرّد، وفق فيدل كاسترو…
2024-11-05