المال عَصَب الإنتخابات الأمريكية والحروب العدوانية!
الطاهر المعز
كَتَبْتُ في مقال سابق عن قِلّة أو عدم أهَمِّيّة إسم الشّخص الفائز بالرّئاسة الأمريكية والحزب الفائز بأغلبية مقاعد الكونغرس، نظرًا للثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية التي تُشكّل قاسمًا مُشتركًا بين الحِزْبَيْن، باستثناء بعض الجُزْئِيّات، وما هذه الفقرات سوى محاولة لإظْهار دَوْر المال في هذه الإنتخابات، حيث تُعْتَبَرُ الإنتخابات الرئاسية والتشريعية في الولايات المتحدة ترفاً باهظ الثمن، فهي تكلف حوالي 16 مليار دولارًا، وهي الأغلى في التاريخ، وذلك لأن الانتخابات الرئاسية ليست مسألة أصوات، بل مسألة أموال، وغالبًا ما يفوز بالأصوات المرشح الذي يستثمر أكبر قدر من مال المانحين (المُسْتثْمِرِين) الذين يُضارِبُون في البورصة بالأسهم، ويضاربون في الانتخابات مع المرشحين، وكانت لجنة الانتخابات الفيدرالية قد رَفَعت، خلال سنة 2024، سنة الإنتخابات، حظرًا طويل الأمد على المرشحين الذين يُنَسِّقُون مع مجموعات الدّعم وجمع التّبرّعات واللّجان الكُبرى للعمل السياسي (Super PACs ) التي يمكنها إنفاق أموال غير محدودة في الانتخابات، وهي منظمات تقوم بجمع وإنفاق مبالغ غير محدودة من المال لدعم أو معارضة المرشحين، وتم إنشاؤها بعد حكم قضائي صادر عن المحكمة العليا سنة 2010، سَمِحَ للشركات بإنفاق الأموال على الحملات الانتخابية، وبالتالي أصبح يمكن للمُرَشَّحِين الحصول على مساهمات غير محدودة القيمة من الأفراد والشركات، مما يسمح لهم بجَمْعِ مبالغ كبيرة من المال، شَرْط الإبلاغ علنًا عن الجهات المانحة وطريقة إنفاق الاموال، وأدّى هذا القرار القضائي إلى زيادة كبيرة في الإنفاق على الحملات الانتخابية، حيث أصبحت لجان العمل السياسي الكبرى قادرة على التأثير على مجْرَى الانتخابات من خلال الإعلانات وأشكال الترويج الأخرى التي تتطلب إنفاق مبالغ كبيرة، غير إن “المانحين” رأسماليون، وفي المجتمع الرأسمالي لا يوجد شيء مجاني ويريد المُستثمرون في الإنتخابات الحصول على عوائد أي استرداد مبالغ الإستثمارات، فضلاً عن الفوائد أو ما يُسمى في لغة صندوق النّقد الدّولي “خدمة الدّيون” ( الأقساط التي تمثل جزءًا من أصل الدّين + الفائدة) ويتعين على الفائز ( نائب أو سيناتور أو رئيس أو حاكم ولاية) أن يُسَدّد القُروض في شكل قوانين ومزايا طيلة فترة ولايته في البيت الأبيض أو في الكابيتول أو غيرهما، ولاجتذاب هؤلاء “المانحين”، تعهّدت كامالا هاريس بإلغاء التخفيض الضخم لضرائب الشركات الذي أقره ترامب جزئيا ورفع الضريبة على أرباح الشركات الكبرى إلى 28%، مما قد يُخفض الأرباح بحوالي 3% إلى 5% ( وفق مصرف غولدمان ساكس ) لأنها تُعَوّل على المانحين الأفراد ولا تعول كثيرًا على تبرعات الشركات، بينما تَعَهّدَ ترامب بخفض معدل الضريبة على أرباح الشركات من 21% إلى 15% مما سوف يضيف 4% إلى مكاسب مؤشر S&P 500، وقَدّر مصرف “غولدمان ساكس” إن خفض الضريبة الذي تَعَهّد به دونالد ترامب يُكلف ميزانية الدّولة للحكومة نحو 250 مليار دولارا سنويًّا يستفيد منها الأثرياء، فيما تُخفّض الدّولة الإنفاق على البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية والعمل الإجتماعي ومجمل الخدمات الحكومية، وأشارت وكالة بلومبرغ ( وهي ملك ملياردير ) “إن عدم السيطرة على أموال الإنتخابات قد يزيد من تعزيز النفوذ الساحق لأصحاب المليارات على النظام السياسي”، لذلك يمكن اعتبار الخيار المطروح على الناخبين الأمريكيين خيارًا زائفًا.
الخيارات الزائفة
تَفْرِضُ المبارزة الانتخابية في أميركا الشمالية بين الحزب الديمقراطي/كامالا هاريس والحزب الجمهوري/دونالد ترامب على الناخبين “حرية” الاختيار بين المرشَّحَيْن اللّذَيْن عَيَّنَهُما حِزْبان يختلفان قليلاً أو لا يختلفان أحيانًا في التطبيقات السياسية العَمَلِيّة، رغم تناقضاتهما شَكْلاً، فيما يُمثل المُجَمَّع العسكري – الصناعي – التكنولوجي القوة الحقيقية في الولايات المتحدة والدول “الغربية” ( الإمبريالية) وهو اندماج بين قوة جهاز الدولة والشركات الإحتكارية، ويعكس إِجْمَاعَ الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي على الحاجة إلى قمع شرس للفقراء والكادحين في الداخل وإلى قوة عسكرية ضخمة لقمع واضطهاد الشُّعُوب في جميع أنحاء العالم، ويعمل النظام السياسي القائم على هذا الاندماج بين الدولة والشركات الكبرى، عملياً، كحزب واحد ذي اتجاهين قطعا علاقاتهما مع الناخبين منذ فترة طويلة، إلا خلال “الحملات الانتخابية”.
إن انتخابات 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 هي خيار بين اتجاهَيْن ضيقي الأفق، يُمثل أحدهما جاهل، أجْوَف وخطير، والآخر جاهل ومعتل اجتماعيًا، وكلاهما خطير على الشعب الأمريكي والإنسانية، كما تمثل الانتخابات الأميركية لحظة تنافس بين مُمَوِّلِي ‘مُقاوِلي ) حملات المرشحين، لأن مُمَوِّلِي الأحزاب والمرشحين هم أشخاص أو كيانات لا تهتم سوى بما يمكن جَنْيُهُ من المكافآت والعوائد التي تبرر الإستثمارات في الإنتخابات، ولذا فإن المبارزة بين كامالا هاريس ودونالد ترامب تخضع لقواعد مُزَوَّرَة، بعلْم وموافقة الطّرَفَيْن، وما إلقاء ورقة داخل صندوق الاقتراع سوى مجرد تفصيل مُضَلِّل للعبة “الديمقراطية اللِّيبرالية” وأحد الطقوس الدّوْرِية التي تجري كل أربع سنوات، لتحديث الدعاية حول فضائل الرأسمالية و”الديمقراطية الليبرالية” المهددة ببربرية البلدان الفقيرة والشُّعوب التي تقاوم (مثل الشعب الفلسطيني) ومُهَدّدة كذلك من قِبَل الصين وروسيا وإيران وكوبا والعرب وثلاثة أرباع سُكّان العالم…
يُعْتَبَرُ دونالد ترامب صورة لمافيات الطوائف الدينية ( الصهيونية المسيحية مثلاً)، لأنه غشاش وكاذب ومُخادع، ادعى الخروج من سوريا، لكن أظْهرت الوقائع تعزيز الإحتلال بإعادة الإنتشار على حدود سوريا والعراق والأردن، حيث انتشرت القواعد العسكرية وتَعَزّزَ نَهْبُ المحروقات والمحاصيل الزراعية السّورية، بمساعدة الصواريخ ووحدات من القوات لضمان سرقة ثروات الشعب السوري بتواطؤ من مليشيات العشائر الكُرْدِيّة، كما عزز القواعد العسكرية في العراق، ناهيك عن الدعم غير المشروط للكيان الصهيوني، لكن هذا الدّعم وهذه “البَلْطَجَة” ليست حكرًا على دونالد ترامب، بل يُشكل العدوان على الشعوب ودعم الكيان الصهيوني بَعْضَ القواسم المشتركة العديدة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فيما يتعلق بالسياسات الخارجية الأمريكية، التي تخضع لمصالح المجمع الصناعي العسكري والتكنولوجي والشركات عبر الوطنية إلخ.
على الصعيد الداخلي الأمريكي، تستمر الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الاتساع، سواء تم تصنيف الأزمة على أنها عابرة أو مُعمِّرَة، وتستمر حصة الميزانية المخصصة للتعليم والصحة والبنية التحتية العامة والنقل والمدارس والإسكان في الأحياء المحرومة في الانخفاض.
لا تَقِلُّ السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي عدوانيةً عن الحزب الجمهوري، وهناك استمرارية في تنفيذ مُخَطّطات عسكرة الدبلوماسية والعلاقات الدولية، مما أدّى إلى تضاعف الاعتداءات العسكرية الأمريكية المباشرة أو بالوكالة، بواسطة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والكيان الصهيوني وتايوان وكوريا الجنوبية وأوكرانيا وغيرها، أو بواسطة “الثورات الملونة” و”العقوبات” الاقتصادية وهي إحدى جوانب “القوة الهادئة” أو “الناعمة” ( أي غير العسكرية) للدبلوماسية الأميركية، ولكن العواقب مميتة بالنسبة للشعوب التي تُعاني من الحصار و”العُقُوبات” الإقتصادية، في كوبا وفنزويلا وسوريا وإيران واليمن وغيرها.
إن نهب خيرات العالم وثرواته هو السمة المميزة للإمبريالية ولا يتأثّر بالإختيار بين كامالا هاريس أو دونالد ترامب، لأن كليْهما جزء من المشكلة وليس جزءًا من الحل.
المال عصب الحروب
من المحتمل أن تكون نسبة الأمريكيين الذين يمكنهم تحديد موقع العراق أو فيتنام أو ليبيا أو سوريا أو لبنان أو حتى أوكرانيا على الخريطة صغيرة جدًّا، كما إن نسبة المُشكّكين في الرّواية الرّسمية للأحداث الدّاخلية وأحداث العالم صغيرة جدًّا، وحتى في ذروة الإحتجاجات على حرب فيتنام، لم يكن المحتجون – في معظمهم – يدعمون حق الشعب الفيتنامي في تقرير مصيرة ( أو حق الشعوب الأخرى في الإستقلال وتقرير المصير) بل كان احتجاجًا على ارتفاع عدد القَتْلَى من الجنود الأمريكيين، ولم يكن هؤلاء المُحتجّون الغاضبون ( في معظمهم) يهتمون بعدد الضّحايا الفيتناميين، من قَتْلى ومُصابين، وتفيد التقديرات إن عددهم يتراوح بين 1,5 و 3,5 ملايين قتيل، وهم في معظمهم مدنيون من سكان الأرياف الفيتنامية والأحياء في المدن الفيتنامية، وفي المقابل توفّي ستّون ألف جندي أمريكي أو حوالي جندي واحد مقابل خمسمائة فيتنامي، وقُتل الجنود الأمريكيون بسلاحهم وطائراتهم الحربية ودبّاباتهم، على بُعد آلاف الكيلومترات من بلادهم المُعْتَدِية على شعب فقير لكنه يُقاوم أعتى امبريالية في التاريخ، في حرب غير متكافئة، وفي الواقع لا توجد حُروب بين أطراف متكافئة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما لا توجد حروب أطلقها الفقراء أو الدّول الفقيرة، بل يبدأ الأمبرياليون الحروب العدوانية التي لا تنتهي سوى بتدمير البلدان وإقامة قواعد عسكرية على وحكومات موالية للإمبريالية، كما يحصل في العراق، أو بهزيمة الإمبريالية، لكن مقابل ثمن مرتفع يُسدّده الشعب، كما يحصل في أفغانستان…
أصبحت الحروب تعتمد أكثر فأكثر على الأسلحة والإستخبارات وتحديد مواقع المقاومين، وفي هذا المجال فهي أيضًا غير متكافئة، حيث قُدّر إنفاق الإمبريالية الأمريكية على حرب فيتنام بنحو 738 مليار دولار، خلال عشر سنوات، وهو ما لا يتوفّر لحكومة فيتنام أو أي دولة أخرى من “الجنوب” أو “الأطْراف”، وما ينطبق على الإمبريالية الأمريكية، ينطبق كذلك على العدوّ الصهيوني، إذ قَدّر وزير مالية الصّهاينة حجم الإنفاق الإجمالي على حرب الإبادة في غزة (حتى نهاية أيلول/سبتمبر 2024) بنحو 27,6 مليار دولارا، وحوالي سبعة مليارات دولارا على العدوان على لبنان، خلال شَهْرَيْ أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/اكتوبر 2024، وبينما يُقاوم الشعب الفلسطيني أو الشعب اللبناني أو اليمني بإمكانيات قليلة، تُقدّر كلفة كل طلقة لاعتراض الصواريخ والطائرات الآلية للمقاومة الفلسطينية أو اللبنانية أو اليمنية بواسطة منصات المنظومات المُضادّة للصواريخ بما بين خمسين ألف ومليون دولارا، وفق نوع منظومة الدفاع الجوي، ومن المتوقع أن يرتفع عجز ميزانية الكيان الصهيوني إلى 8,5% من الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية سنة 2024 وفق صندوق النقد الدّولي، لكن لا يهمّ ما دامت الإمبريالية الأمريكية ملتزمة بتقديم الدّعم المُطلق للإحتلال، ويحتج مُعارضو نتن ياهو في تل أبيب ليس دعمًل لششعب الفلسطيني الذين يستوطن هؤلاء “المحتجُّون” بلاده، بل من أجل أسرى الحرب الصهاينة، ولأن عدد القتلى من جنود وضباط العدو الصهيوني بلغ 771 قتيلا و 4500 جريحا، بنهاية تشرين الأول/اكتوبر 2024، فيما لا يهتمون بأكثر من أربعين ألف شهيد فلسطيني، ثُلُثُهم من الأطفال…
رغم وَفْرَة المال، والدّعم السياسي والإعلامي والعسكري الإمبريالي غير المحدود للكيان الصهيوني – لأنه جزء منها أو وكيل لها – ورغم التخريب والدّمار والمجازر، لم يتمكّن الجيش الصهيوني من القضاء على المقاومة في غزة ولبنان واليمن، لأن المقاومين العرب يُدْرِكون إنهم يُدافعون عن حقّهم في بلادهم، فيما يعتمد الجيش الصهيوني على المال والأسلحة والتقنيات المتطورة التي تُوفّرها الإمبريالية ويعتمد على تواطؤ معظم الأنظمة العربية التي تُشكّل جُزْءًا من مشكلة استعمارنا واستغلالنا واضطهادنا، وتُشكّل إزاحتها جُزْءًا من الحلّ…
2024-11-09