اللعنة… لقد كانت الثورة حصان طروادة!
سعيد محمد*
أنفقت نتفليكس بسخاء على المسلسل لتقديم قراءة بصرية جديدة بالكامل

لعب الخيال الأدبي دائماً دوراً محورياً في صياغة أساطير الأمم، وتصوّرها عن تاريخها. اضطلعت الرواية اليتيمة (الفهد ـ 1958) لجوزيبي توماسي دي لامبيدوزا «جاتوباردو» بهذا الدّور، فالتقطت نبض الأمة بينما كانت تعيش مرحلة توحيد إيطاليا الحديثة
من «هاملت» شكسبير إلى «بؤساء» فيكتور هوغو، ومن «حرب وسلام» ليو تولستوي إلى «مدن ملح» عبد الرحمن منيف، لعب الخيال الأدبي دائماً دوراً محورياً في صياغة أساطير الأمم، وتصوّرها عن تاريخها. إيطالياً، تلعب الرواية اليتيمة (الفهد ـ 1958) لجوزيبي توماسي دي لامبيدوزا «جاتوباردو» هذا الدّور، فتلتقط نبض الأمة بينما تعيش مرحلة توحيد إيطاليا الحديثة (ريسورغيمينتو). أيّام كأنّنا بأنطونيو غرامشي قصدها عندما كتب: «تكمن الأزمة في أنّ القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد. وفي مدة خلو العرش بينهما، تظهر الكثير من العوارض المرضيّة».
هزائم اللحظة الحاضرة
يميل معاصرونا إلى اعتبار الرواية، كنوع أدبي، أداةً للهروب من ويلات الزمن. لكن الناقد والمنظّر الماركسيّ جورج لوكاش اقترح قبل مئة عام بأن مادة الروائي هي دائماً تشظي التاريخ: عندما يتهشّم الواقع، ويتساقط المجتمع كقطع بلور متناثر على الأرض، يأتي الروائي فيلملم تلك الشظايا، ليخلق منها صورةً لما كانت عليه الحال في السابق، مرئياً بعيون الحاضر.
ولذلك، فإن استجابة كثيرين منّا للحظات المفصليّة من التاريخ، عندما تجرف الأيّام بطريقها عالمنا ـــ أمّة، أو دولة، أو طبقة، أو خياراً أيديولوجياً – وتهوي بما ظننا أنه العاصم من الأنواء، قد لا تكون أكثر من تجرّع مرارة الصدمة، والانزواء، وربما كما في الثقافة الغربيّة الاكتفاء بقراءة الروايات الأدبيّة كآلية لتجنب الغرق في بحر أوجاع هزائم اللحظة الحاضرة. وهذا تماماً ما فعله دي لامبيدوزا، ولكنّه بدلاً من قراءة الروايات، انتهى إلى كتابة واحدة: «الفهد».
آخر النبلاء الإقطاعيين
دي لامبيدوزا (1860 -1957) كان آخر أمير لسلالة من النبلاء الاقطاعيين القدامى حكمت جزيرة صقلية – المتعددة الطبقات التاريخيّة – لمصلحة عرش إسبانيا (سلالة البوربون).
عاش ليشهد الحربين العالميتين، وصعود الفاشيّة وسقوطها، وانكماش الطبقة الأرستقراطية التي ظنّ أثناء شبابه أنها باقية إلى الأبد.
هكذا انسحب مكسوراً إلى مكتبته في ما تبقى من أنقاض قصره في باليرمو الذي دمّره الحلفاء الغربيّون أثناء غزوهم إيطاليا. قرأ كثيراً، وتأمّل أكثر، وكتب «الفهد»، التي ستصبح أعظم رواية في الأدب الإيطالي المعاصر، وملجأً للأجيال الجديدة عندما يقسو عليها التاريخ بنزواته اللّعينة، وانعطافاته المفاجئة.
كما يليق بمستعمر آخر عابر لصقلية الأمير دون فابريزيو، أتت نتفليكس الأميركيّة بفريق عمل بريطاني
كما يليق بمستعمر آخر عابر لصقلية الأمير دون فابريزيو، أتت نتفليكس الأميركيّة بفريق عمل بريطاني
رفض الناشرون بداية طباعة الرواية التي تركها دي لامبيدوزا بعدما اعتبر مراجعون أنها كانت «تقليدية» جداً مقارنة بالحركة الطليعية التجريبية التي طبعت الأدب الإيطالي في ذلك الوقت، ووصفها أحدهم بمجرد خربشات عبثيّة لرجل عجوز متوحّد أنهكته الأيّام الصعاب. لكنّ أحدهم، فيلترينيلي، تجرأ وطبعها، لتثير عاصفة اهتمام، ما اضطره إلى إعادة طبعها 52 مرّة في الأشهر الستة الأولى فقط، وتتوّج بعدها بـ «ستريغا» التي تعدّ أهم جائزة أدبيّة في إيطاليا.
صنع منها المعلّم السينمائي الماركسي لوتشينو فيسكونتي فيلماً من ثلاث ساعات فاز بـ «السعفة الذهبيّة» في «مهرجان كان» عام 1963 (بطولة بيرت لانكستر وآلان دولون وكلوديا كاردينالي). وقُدمّت في عام 2022 كأوبرا (موسيقى مايكل ديليرا ، وليبريتو جي دي ماكلاتشي) قبل أن تقرر نتفليكس إعادة تقديمها في دراما من ست حلقات (اعتباراً من آذار/ مارس 2025).
زمن إيطاليا الحديثة
يأخذنا دي لامبيدوزا في «الفهد» (التي صدرت منها ترجمة ممتازة للعربيّة بقلم الأديب الأردني الراحل عيسى النّاعوري) إلى التأسيس الحديث لإيطاليا في منتصف القرن التاسع عشر.
زمن حركة الـ «ريسورغيمينتو» لتوحيد البلاد بقيادة جوزيبي غاريبالدي. تسرد الرواية الأحداث بعيون دون فابريزيو، أمير سالينا ووريث السلالة العريقة التي تتلاشى مكانتها في النظام الليبرالي الجديد، أو ببساطة «الأمير» كما تسميه الرعيّة في تماثل موح مع «أمير» مكيافيلليي، وهو مستوحى من الشخصيّة الحقيقيّة لجد جوزيبي الأكبر، جوليو. مثل الكاتب نفسه، حمل الجدّ لقب أمير لامبيدوزا (أي جزيرة لامبيدوزا مقابل صقلية).
الفهد، كان شعار السلالة، وهو نمر مرقّط نادر مهدّد بالانقراض يكاد في تاريخيته، وندرته، واقتراب نهايته يتطابق مع مصير «الأمير».
تبدأ الرواية مع نزول غاريبالدي وجيشه من ذوي القمصان الحمراء في صقلية عام 1860 لضمّها إلى الدولة الإيطالية الوليدة، التي كانت حينها مملكةً.
لكنّ دون فابريزيو بخبرته يرى أن أيّام الملكيّة باتت معدودة، فيقول: «هذا النظام الملكي الذي يحمل علامات الموت على وجهه»، ليس فقط لأن الملك كان عديم الكفاءة ومتشاغلاً عن القضايا الكبرى بالدّين والشكليات، ولكن أيضاً لأن طبقة النبلاء المحيطة به أنهكها الفساد والعجز وانحطت كما لم ينحط من قبلها أحد.
على أن هجاءه يمتد أيضاً إلى الطبقة الجديدة الصاعدة: البرجوازية الليبرالية التي تجسّدها عائلة سيدارا الصفيقة عديمة الأخلاق والمستعدة ـــ رجالاً ونساء ـــ إلى تقديم كل التنازلات اللازمة من أجل المصالح والمناصب والنفوذ.
غرامشي يطلّ برأسه
شكوك «الأمير» بـالـ «ريسورغيمينتو» تتقاطع بشكل جليّ مع تقييم المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي لها بوصفها مجرد تبديل مقاعد بين مكونات النخبة فقط مهما مُوّهت بأزياء الثورة.
ومع أننا لا نعلم على وجه اليقين ما إذا كان دي لامبيدوزا اطّلع على كتابات غرامشي أم لا، إلا أنّ دون فابريزو عندما يرى العالم «يتأرجح بين القديم والجديد»، فإنه لا شك يعبّر عن الاختلاجات نفسها التي أحسّ بها غرامشي، وكل من كان له قلب أو أصغى السمع في تلك المدة العاصفة من التاريخ الإيطالي. ورغم أنّ «الفهد» رواية مزروعة بحذق لافت في التاريخ، إلا أنها أهم من أن تكون مجرد اعتذار عن فشل الحكم في عهد أسرة البوربون.
وسرعان ما يلتقط القارئ فيها إيقاعاً خلفيّاً عميقاً عابراً للأزمنة يشكك بسخرية لافتة بكل ألوان الوعود السياسيّة، إذ يمكن دوماً الحكم على الثورات والانقلابات والتحولات المفروضة من الخارج عبر ثمارها المستقبلية.
لقد أعلن محاسب دون فابريزيو، الذي كان يتطلع جشعاً إلى الغنائم التي سينهبها المتسلقون من وراء إزاحة الطبقة الأرستقراطية قائلاً: «ستأتي أيام جديدة مجيدة لصقليتنا هذه».
بالطبع، نحن نعلم الآن تماماً أنّ تلك الأيام لم تأت أبداً، ولا يزال الانقسام بين الشمال الغني والجنوب الفقير ثيمة الدّولة الإيطالية بعد أكثر من 160 عاماً من توحيد البلاد. لقد كانت الثورة مجرد حصان طروادة لصعود طبقة من السفلة الجشعين إلى السلطة.
الاستعمار مستمرّ بنجاح كبير
النص الأدبي للرّواية متخم بالمقاطع المبهرة ببلاغتها كما يليق بكاتب إيطالي كبير، ومنها جمل تحمل حكمة هذا الشعب الجميل.
انظر مثلاً ابن شقيقة دون فابريزيو المفضّل عند «الأمير» عندما يبرر لخاله أسباب التحاقه بقوات غاريبالدي: «إذا أردنا أن نُحافظ على الأشياء كما هي، فيجب أن تتغير الأمور».
وعندما يكتب عن الطبقة الأرستقراطية: «إذا اختفت هذه الطبقة، ستحلّ محلها طبقة مكافئة على الفور بنفس الصفات والعيوب».
أو عندما يخاطب دون فابريزيو شيفالي مبعوث الحكومة الذي توسل للأمير بأن يقبل تعيينه عضواً في مجلس الشيوخ الإيطالي الجديد: «نحن كبار في السن، يا شيفالي، كبار في السن جداً.
لأكثر من خمسة وعشرين قرناً، حملنا على أكتافنا ثقل حضارة رائعة وغير متجانسة، كلّ مكوناتها جاءت من الخارج، فلا شيء صنعناه بأنفسنا، ولا شيء يمكن أن نسميه حضارتنا.
نحن بيض البشرة مثلك، يا شيفالي، ومثل ملكة إنكلترا، ومع ذلك، فقد كنا مُستعمرين طوال ألفين وخمسمئة عام. وهذا التوتر المستمر في كل شيء، وهذه الآثار، من الماضي، الرائعة الطبع، غير مفهومة لنا، لأنّنا لم نبنها.
ومع ذلك تقف في بلادنا مثل أشباح خرساء جميلة. كل هؤلاء الحكام الذين هبطوا علينا من كل اتجاه، وأطعناهم في الحال، وسرعان ما كرهناهم وأسأنا فهم أعمالهم الفنية، فهمنا فقط الضرائب التي فرضوها علينا، وأنفقوها دائماً في مكان آخر.
كل هذه الأشياء، يا شيفالي شكلت شخصيتنا، التي صارت مشروطة دائماً بالأجنبي، ورهناً بأحداث خارجة عن سيطرتنا، وكذلك بتخلٍ مرعب عن العقل». دون فابريزيو هنا يشير إلى مكر التاريخ، حيث لا شكوك عنده بأنّ الحكام الإيطاليين الآتين من البر الرئيسي، لن يكونوا مختلفين في تعاملهم مع صقلية وشعبها عن جميع المُستَعمرين السابقين.
وبالطبع يمكن دائماً أن تقرأ نصاً فكرياً متماسكاً لغرامشي في وصف التغيير بين عالم يحتضر، وآخر لم تكتمل ولادته بعد. لكنّ أبعاد الفكرة تأخذ مستوى حسياً آخر تماماً عندما يعبّر عنها روائي بموهبة دي لامبيدوزا، فيكتب مثلاً عن الأمير بينما يتجول في حديقة القصر المسوّرة، حيث يتداخل عبير الزهور المتفتحة برائحة الاضمحلال والتردي: «تنبعث رائحة في الفناء مثل السوائل العطرية المقطرة من رفات بعض القديسين، فيما تبدو الورود التي تم جلبها من باريس مثل الملفوف بلون اللّحم، وأحس دون فابريزيو بأنفه وكأنه يشتم فخذ راقصة من الأوبرا». مذهل.
اليمين يشنّ حملةً على العمل
ندد اليمين الإيطالي المتطرف بالعمل لكونه ليبرالياً أكثر من اللازم، فيما انتقده بعض الماركسيين، بسطحية، بسبب طريقة تصويره للطبقة العاملة جاهلةً وذليلة ومتقلبة الولاءات.
لكن أصداء الفكر الغرامشي بيّنة فيها لمن قرأ «دفاتر السجن». كما يلمح دي لامبيدوزا إلى حقيقة أنّه مدين في فهمه الطبقي العميق لماركس، وإن بطريقة ساخرة على لسان دون فابريزيو، الذي يشير في لحظة ما إلى ذلك المفكر «اليهودي الألماني الذي لا أتذكر اسمه».
ولا يوفر الدّين من النقد في أكثر من مقطع وبقسوة لاذعة، فيظهره جزءاً من التقاليد المتحجرة التي ستذوي. ولعل ألطفها عندما يبرر دون فابريزيو زياراته لعشيقته وهجرانه لسرير زوجته «التي تحتاج إلى تلاوة الصلوات للربّ قبل كل عناق».
نتفليكس الأميركيّة ــــ وكما يليق بمستعمر آخر عابر لصقلية الأمير دون فابريزيو ـــ أتت بفريق عمل بريطاني (كتاب السيناريو بينجي والترز وريتشارد وارلو والمخرج توم شانكلاند) وأنفقت على العمل بسخاء (40 مليون جنيه إسترليني) لتقديم قراءة بصرية جديدة بالكامل لـ «الفهد»: ثريّة بالألوان والأزياء والمشاهد الطبيعيّة وألوان الطعام الفاخر والأجواء الرومانسية المبهرة والموسيقى العصيبة والأجراس والشموع والقبعات والاستعراضات العسكريّة (للقمصان الحمر).
كما أتت بطاقم ممثلين إيطاليين على رأسهم كيم روسي ستيوارت ذي الملامح الأرستقراطيّة في دور أمير سالينا، فيما تلعب ديفا كاسيل، ابنة الموديل الإيطالية الشهيرة مونيكا بيلوتشي، دور جيسيكا سليلة الأسرة محدثة النعمة التي تغوي تانكريدي (شاول ناني) ابن شقيقة الأمير، ليصرف نظره عن ابنة خاله الجميلة القوية كونسيتا (بينيديتا بوركارولي).
فهود عظماء… ترثهم الضباع!
ينجح شانكلاند في نسخته من «الفهد» في الوفاء الدقيق للمدة التاريخيّة التي يوثقها، وللرواية الأصليّة، ويحقق توازناً مبدعاً في العلاقة بين الشخصيات والأجواء، فلا يطغى أحدهما على الآخر. هذه صقلية نجمة أولى للعرض التي لا تخطئها الأعين، وهذه أجواء أرستقراطيتها الباذخة، ولكن أيضاً هؤلاء بشر – بمن فيهم الأمير نفسه – يعيشون لحظة التوحش المظلمة في خضم تحولات الأزمنة بينما يحملون أشواقهم وعواطفهم وعيوبهم ومآزقهم وخطاياهم معهم أنى ذهبوا.
قد يكون فيلم فيسكونتي عملاً عبقرياً، على أن هذه التجربة التلفزيونية الجديدة تستحق المشاهدة بالفعل. «الفهد» رواية تاريخيّة عن التاريخ لكنها، وبلا رحمة، ضد الحنين، والتقاليد والتاريخ. بعد أكثر من 300 صفحة أو ست حلقات تلفزيونيّة، تنتهي بأن نتجرّع مع الأمير النبيل دون فابريزيو لحظات الموت البطيء للحاضر، بينما تتلاشى في الأجواء أوهام التغيير، ويتبدد سراب التاريخ، وتتداخل الشماتة بالتعاطف.
«لقد كنا عائلة من الفهود العظماء»، يتمتم الأمير في أيامه الأخيرة، «وهؤلاء الذين يحلون مكاننا هم ضباع وابن آوى. كل شيء سيكون مختلفاً، لكنه حتماً أسوأ».
- The Leopard على نتفليكس
لندن - 2025-04-15