العقل الأداتي والإبادة: لماذا يقتل نظام الحداثة المادية الشهود؟
غانية ملحيس
من المعرفة إلى الإبادة – الشاهد بوصفه هدفا.
من غسان كنفاني إلى أطفال غزة… كيف تتحول الشهادة إلى جريمة، والموت إلى فعل مقاومة؟
في عالم يدار بمنطق الهيمنة، لم يعد يقتل الإنسان لأنه يقاتل، أو لأنه يهدد الأمن، أو لأنه يشكل خطرا ماديا على الدولة أو المؤسسة. بل يقتل لأنه يعرف، يشهد، ويتذكر. فأن تكون إنسانا في ظل نظام الحداثة المادية المعولمة، يعني أن تتحوّل إلى كائن قابل للمحو ما إن تحمل في ذاتك ما لا يتوافق مع منطق “الإنتاج والسيطرة والنسيان”.
تسود في قلب هذا النظام، ما يسمّيه فلاسفة مدرسة فرانكفورت بـ” العقل الأداتي”، وهو نوع من العقلانية المنفصلة عن القيم، التي لا ترى في الإنسان سوى أداة، وفي الأرض موردا، وفي الحقيقة تهديدا ينبغي تحييده. هذا العقل لا يسعى إلى الحقيقة، بل إلى السيطرة. ولا يحتمل الشاهد لأنه يفضح القامع، ويخترق صمته، ويعيد توزيع المعنى خارج قبضة السلطة. من هنا، يتحول قتل الشاهد إلى وظيفة مركزية في هندسة العالم الجديد:
• يقتل من يحمل الذاكرة.
• يقتل من يحتفظ بالحكاية.
• ويقتل ما يحتضن المعنى.
وليس من مثال أكثر جلاء على ذلك من التجربة الفلسطينية، حيث لا يقتل الناس فقط، بل تقتل معهم روايتهم، وأمكنتهم، وأشجارهم، ومخيماتهم، وأصواتهم. لا لأنهم مقاتلون، بل لأنهم يحملون الشهادة – في المعنى الوجودي والسياسي والأخلاقي. وفي هذالمقال، نحاول تفكيك سؤال جوهري:
لماذا يقتل نظام الحداثة المادية الشهود؟
ونبحث في جذور هذا القتل – لغويا، دينيا، فلسفيا، وسياسيا – وصولا إلى السياق الفلسطيني، حيث يتكثف المعنى، وتتحول الشهادة من موقع أخلاقي إلى جريمة استعمارية.
الشهادة: من اللغة إلى الفلسفة – سيرة المفهوم ومكانة الشاهد
يتجلى مفهوم “الشهادة” في عمقه التاريخي واللغوي بوصفه حضورا فعالا للحقيقة، لا مجرد رؤية صامتة.
في اللغة العربية، يشتق “الشهيد” من الجذر الثلاثي (ش هـ د)، أي من حضر، ورأى، وأقر، وأدلى بشهادته. وهو، بذلك، ليس مجرد ضحية أو قتيل، بل شاهد على حدث، وحامل لحقيقة، وفاعل في مواجهة الباطل.
وليس هذا المعنى حكرا على اللغة العربية. فالكلمة اللاتينية martyr – التي دخلت إلى معظم لغات أوروبا بمعنى “الشهيد” – تعني أصلا “الشاهد”، قبل أن يربط معناها لاحقا بمن يقتل من أجل معتقده أو إيمانه. وهذا ينسحب على الجذر العبري أيضا، حيث يأتي “القديس” أحيانا بوصفه من كرس وجوده لشهادة الحق في مواجهة الإكراه. بهذا المعنى، تسبق الشهادة القتل، وتصبح المعرفة المؤلمة والموقف الأخلاقي هما سبب استهداف الشاهد.
ليس القاتل هنا من يواجه خطرا مسلحا، بل من يسعى إلى إسكات رواية تفضح جرمه. من هنا، تبدأ بنية الإبادة:
ليس فقط بقتل الجسد، بل:
· بمحو الشهادة التي يحملها،
· والذاكرة التي يتجسد فيها،
· والمعنى الذي يصر على البقاء.
في الديانات غير التوحيدية: في تقاليد مثل الهندوسية والبوذية، لا يظهر الشهيد بوصفه مقاتلا، بل بوصفه من يقدم نفسه في سبيل الحقيقة، أو من يفني ذاته لصون النظام الأخلاقي الكوني.
في البوذية، يحتفى بـ ” البوذيساتفا” – ذلك الذي يؤجل خلاصه لكي ينقذ الآخرين- بوصفه شهيد الرحمة والوعي، لا شهيد السيف.
وفي الهندوسية، من يموت مدافعا عن الحق أو أداء لواجبه الكارمي، يعد قد أدى الشهادة القصوى، لأن موته يحفظ التوازن الكوني، ويكشف جوهر الصراع بين الحق والباطل. هنا، الشهادة فعل كوني قبل أن تكون موقفا سياسيا. لا يقتل الإنسان لأنه يهدد الدولة، بل لأنه يمثل صدقا لا يطاق.
في الديانات التوحيدية:
يتجلى مفهوم الشهيد الشاهد بوضوح وتدرج في الديانات التوحيدية الثلاث:
• في اليهودية، ترفع مكانة من يموت “تقديسا لاسم الله” كمن يرفض انتهاك الشريعة تحت الإكراه، فيكون موته شهادة إيمانية لا تطلب إلا اضطرارا.
• في المسيحية، يعتبر الشهيد من لم ينكر إيمانه بالمسيح رغم التهديد أو القتل، وينظر إليه كمن يتحد بآلام المسيح. وشهادته تكون بالموقف، بالكلمة، وأخيرا بالدم.
• في الإسلام، يتوسع مفهوم الشهادة ليشمل كل من يقتل في سبيل الحق، سواء في ساحة المعركة، أو في مواجهة الظلم، أو في الدفاع عن النفس والمظلومين. الشهيد في الإسلام ليس فقط من يقاتل، بل من يقتل دون ماله، أو عرضه، أو أرضه، أو دينه، أو كلمته. وهذا التوسع يعكس رؤية ترى في الشهادة فعل مقاومة للظلم وجهرا بالحق وتحملا لنتائج الصدق.
في كل هذه الديانات، يبرز الشهيد بوصفه شاهدا قبل أن يكون ضحية. ومعنى الشهادة لا يقوم على القتل، بل على سبب القتل: لأن الشهيد يشهد لما لا يراد له أن يقال، ويقف حيث يراد للجميع أن يصمتوا.
في الفلسفة: الشاهد ككسر لصمت النظام
في الفلسفة، وخصوصا في الفكر النقدي المعاصر، ينظر إلى الشهيد بوصفه كائنا يعري نظام القوة. هو من يخترق البنية المغلقة بالصوت أو بالجسد أو بالموت. فحين يقتل الصحفي، أو يسجن الكاتب، أو تغتال امرأة لأنها رفضت الصمت، فإن ما يستهدف فيهم هو قدرتهم على الشهادة، على كسر النظام الرمزي الذي يفرضه القامع.
مفهوم الشهادة هنا لا ينفصل عن اللغة، والمعنى، والحرية. الشهيد يصبح أداة لتفجير الصمت، واستعادة المعنى من براثن الكذب المنظم. يقول ميشيل فوكو: “حين لا يعود في الإمكان قول الحقيقة، يصبح الموت في سبيلها آخر أشكال الكلام.”
وهكذا، يصبح الشهيد – في بعده الفلسفي – كلمة أخيرة تقال في وجه عالم مصمم على النسيان.
العقل الأداتي ومحو الشهود: القتل بوصفه هندسة للواقع
إذا كانت الشهادة فعلا وجوديا وأخلاقيا ومعرفيا، فإن النظام الذي يسعى إلى السيطرة لا يكتفي بنزع سلاح الشهيد، بل يعمل على محو إمكانية الشهادة ذاتها. هنا يدخل مفهوم “العقل الأداتي”، كما طوره أدورنو وهوركهايمر، بوصفه جوهر الحداثة الغربية في صيغتها الإمبريالية:
عقل لا يبحث عن الحقيقة أو العدالة أو المعنى، بل عن الكفاءة، الإخضاع، وإنتاج واقع قابل للضبط والسيطرة. في هذا الإطار:
· يتحول الإنسان إلى أداة، لا إلى غاية.
· وتصبح الأرض موردا اقتصاديا،
· والتاريخ حمولة زائدة،
· والذاكرة خطرا وجوديا.
· وتعاد صياغة العالم ليس بإقناع الشعوب، بل بمحو الشهود الذين يملكون سردية مغايرة.
الشاهد خطر على الرواية المهيمنة
في قلب كل منظومة هيمنة، هناك رواية واحدة يراد فرضها بوصفها “الواقع”، وكل من يمتلك رواية مضادة يصبح خطرا بنيويا يجب تصفيته. فالشاهد لا يهدد بالسلاح، بل بقدرته على أن يقول: هذا غير صحيح. لقد كنت هناك. رأيت. أعرف. أتذكر. ومن هنا، يصبح قتل الشهود مقدمة ضرورية لإعادة إنتاج الواقع:
• يقتل من يحمل الذاكرة لأنه يربط الماضي بالحاضر ويمنع القطيعة.
• يقتل من يحتفظ بالحكاية لأنه يمنح الجماعة سرديتها الخاصة.
• ويقتل من يحتضن المعنى لأنه يفسد “حيادية” القامع.
ليس الهدف هنا فقط التخلص من الأفراد، بل تفكيك التاريخ، وتدمير الجغرافيا، وقطع التسلسل بين الأجيال، وفرض سردية المنتصر باعتبارها الحقيقة الوحيدة.
إبادة المعنى لا الجسد فقط
العقل الأداتي لا يقتل لأن القتل ضروري عسكريا أو أمنيا، بل لأنه أداة لإعادة هندسة المجتمعات. يتم استهداف الذاكرة الجماعية عن طريق تفكيك العلاقات، وتدمير الرموز، وإزالة الشهود، وتحويل الإنسان إلى كائن بدون ماض، وبدون سياق. وفي هذا السياق، تأخذ الإبادة شكلا يتجاوز القتل الجماعي إلى ما يمكن تسميته بـ“الإبادة الرمزية”:
• محو أسماء الأماكن وإعادة تسميتها.
• هدم البيوت والمساجد والكنائس والمقابر لتفريغ الأرض من معانيها.
• محو السجلات الرسمية (كما حدث في غزة: حذف آلاف العائلات من السجل المدني).
• تصفية الإعلاميين والكتاب والشعراء والفنانين، أي من يحمل أدوات التذكر والتوثيق والتخيل.
في أعقاب اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، قالت رئيسة وزراء إسرائيل حينذاك، غولدا مائير، معلقة على عملية اغتياله: “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح. فغسان بقلمه كان يشكل خطرا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح”. إن قتل الشاهد ليس رد فعل على خطر فعلي، بل إجراء وقائي ضد احتمال الوعي.
الشهادة جريمة في نظام الهيمنة
ضمن منطق “العقل الأداتي”، تصبح الشهادة في ذاتها جريمة، لا لأنها تتحدى القانون، بل لأنها تخرق النظام الرمزي للهيمنة. الشهيد هنا لا يجرم لأنه “مجرم”، بل لأنه يعرف أكثر مما ينبغي، ويرفض أن يصمت، ويصر على سرد ما لا يريد النظام الاعتراف به. وهكذا، يعاد تعريف الخطر:
• الخطر ليس المقاتل فحسب، بل الشاهد.
• ليست الرصاصة فقط، بل الكلمة.
• ليست المقاومة بالسلاح وحدها، بل المعرفة، والذاكرة، والرواية.
فلسطين: الشاهد كهدف استراتيجي للإبادة
في السياق الفلسطيني، لا يظهر منطق قتل الشهود كمجرد عرض جانبي للاستعمار، بل كأحد أعمدته التأسيسية. فالمشروع الصهيوني لم يقم على الغلبة العسكرية وحدها، بل على إلغاء الرواية الأصلية للشعب الفلسطيني واستبدالها بسردية استيطانية استعمارية. ومنذ بداياته، كان هذا المشروع مدركا أن السيطرة على الأرض لا تكتمل إلا بمحو من يشهد بأنها كانت مأهولة، مزروعة، مسكونة، ومعنونة بأسماء غير تلك التي أراد المستعمر فرضها.
من وعد بلفور إلى مجازر الثلاثينيات: استهداف الشاهد الأول
كان وعد بلفور 1917 الخطوة التأسيسية لإعادة صياغة “الواقع” في فلسطين، حين منح وطن قومي ل” شعب يتم تخليقه” لم يكن موجودا على أرضه، في مقابل إقصاء “الشعب الأصلي” من التاريخ والجغرافيا.
ثم جاءت لحظة إعدام محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير عام 1930، لتؤكد أن الاستعمار البريطاني والصهيونية الناشئة يتفقان على ضرورة تصفية الشهود الفلسطينيين الأوائل الذين رفضوا الرواية الجديدة، ووقفوا دفاعا عن الحق الوطني، والوجود، والمكان، والعمران. لم يكن الثلاثة “خطرا عسكريا” على الإمبراطورية البريطانية، بل كانوا خطرا رمزيا ومعنويا على الرواية الاستعمارية الناشئة. لقد كانوا شهودا على أن فلسطين ليست أرضا بلا شعب، بل أرضا لشعب يقاوم ويتذكر ويصر على أن يكون.
من النكبة إلى النكسة: قتل المكان وتهجير الذاكرة
في نكبة عام 1948، لم يكن هدف المشروع الصهيوني طرد الفلسطيني فقط، بل طرده ومعه الرواية. فكل قرية أحرقت، وكل عائلة طردت، وكل شجرة قطعت، كان ذلك جزءا من هندسة حذف الشهود:
• لا يكفي أن يهجر اللاجئ، بل يجب أن يحرم من العودة، من الاسم، من المفتاح، من الحنين.
• لا يكفي أن يقتل، بل يجب أن تمحى صورته، وأغنيته، وقريته.
• لا يكفي أن تهدم البيوت، بل يجب أن تبنى فوقها مستوطنات بأسماء توراتية.
في هذا السياق، تصبح الشهادة الفلسطينية – بكل تجلياتها – جريمة بنظر المنظومة الاستعمارية:
• يقتل الطفل لأنه قد يسأل “من أين أتيتم؟”
• تقتل المرأة لأنها تحفظ أسماء القرى.
• يقتل الصحفي لأنه يسجل ما يراد نسيانه.
• يقتل الطبيب لأنه يثبت أثر الجريمة.
• يقتل الشيخ لأنه يعرف المجرم، والمتواطئ، والصامت.
من مخيمات اللجوء إلى غزة اليوم: الشهادة جريمة وجودية
منذ مجازر الطنطورة، ودير ياسين، وكفر قاسم، إلى تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، وصولا إلى خان يونس، الشجاعية، النصيرات، ومصائد الطحين في غزة، يتكرر النمط ذاته: الفلسطيني يقتل لأنه يمثل ذاكرة حية، وسردية حقيقية، وشهادة تهدد النظام. وبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، اتضحت استراتيجية الإبادة بجلاء لا لبس فيه:
• أكثر من 56,000 شهيد في غزة، بينهم:
• 15,600 طفل
• 8,300 امرأة
• مئات الأطباء والمسعفين
• أكثر من 150 صحفيا
• آلاف العائلات أبيدت وحذفت من السجل المدني
لم يكن القصف عشوائيا. بل ممنهجا:
• يقصف البيت لأنه يحمل صورة الجد
• يقصف المسجد والكنيسة لأنهما يؤويان الجمع والذاكرة
• تقتل العائلة لأن وجودها مقاومة
• تدمر المخيمات لأنها شهادة حية على النكبة المستمرة
القتل بوصفه حذفا من السجل الرمزي
حين تحذف عائلات كاملة من السجل المدني،
ويدفن الشهداء في مقابر جماعية دون أسماء،
ويمنع التوثيق،
وتستهدف طواقم الإعلام والإنقاذ،
فإننا لا نكون أمام حرب تقليدية، بل أمام حرب على الحقيقة نفسها.
الشهادة الفلسطينية هنا ليست فقط فعل مقاومة، بل نظام وجودي كامل يرفض أن يمحى. ولذلك يستهدف.
من قتل الإنسان إلى قتل المكان: الإبادة الرمزية للأرض
في المنطق الاستعماري الحديث، لا يستهدف الإنسان وحده، بل كل ما يدل عليه. فإبادة البشر تصبح غير مكتملة إذا لم يمح أيضا السياق الذي أنتجهم، واحتضن ذاكرتهم، وصاغ علاقتهم بالحياة. وهكذا، تتمدد الإبادة من الجسد إلى الجغرافيا، ومن الوجود الفيزيائي إلى الذاكرة المجسدة في البيت، الشجرة، المسجد، المخيم، الاسم.
في فلسطين، تتجلى هذه الإبادة الرمزية بوضوح قل نظيره في التجارب الاستعمارية الأخرى. فإسرائيل، بوصفها مشروعا كولونياليا وظيفيا، لا تريد فقط الاستحواذ على الأرض، بل تجريدها من هويتها الأصلية، ومن دلالاتها الفلسطينية، ومن حقائقها التي تنطق بما لا يحتمل.
البيت: صورة الجد ودفتر العائلة
يقصف البيت الفلسطيني، لا فقط لأنه ملجأ للمقاومة، بل لأنه يحتفظ بصورة الجد، وأصوات الأمسيات، وسجلات الحنين، ومفاتيح العودة. البيت ليس جدرانا، بل وحدة ذاكرة حية. وعندما يمحى من الوجود، لا تهدم طوابق الإسمنت فقط، بل يقطع خيط الارتباط بين الطفل وأرضه، وبين الأب والذكريات، وبين الجد والهوية.
المسجد والكنيسة: الشاهد على الجمع والذاكرة
المساجد والكنائس تستهدف بوصفها أماكن جمع، ومواضع خطب، ومساحات لتثبيت السردية. في المخيمات والقرى، كان المسجد والكنيسة بمثابة مسجل شفوي للنكبة والانتفاضة والجنائز. تدميرها إذا لا يأتي فقط في سياق المعركة، بل كجزء من محو مراكز الذاكرة الجماعية.
الشجرة: الجذور الحيّة التي تزعج المستعمر
منذ النكبة، اقتلعت ملايين أشجار الزيتون والتين والصبار. الشجرة ليست نباتا فقط، بل علامة على الاستمرارية، على أن هناك من زرع، ومن حصد، ومن ورث. الشجرة تقاوم النسيان، لأنها لا تكذب، ولذا يقتلع جذعها. الصبار، رمز القرى المهدمة، يزال لأنه يدل على ما كان وما زال. الزيتون يحرق لأنه يوثق ملكية الأرض أكثر من الخرائط.
المخيم: سجل النكبة الحي
المخيم، بما يحمله من فقر وقسوة، ليس مجرد مكان سكن، بل وثيقة حية على الجريمة المستمرة. كل خيمة، كل زقاق، كل لافتة كتب عليها اسم قرية مهجرة، هي صفعة على وجه الرواية الصهيونية. ولذلك، لا يكفي أن يجوع المخيم، بل يجب أن يقصف، ويمحى، ويحرق كما حدث في تل الزعتر، وجسر الباشا ونهر البارد، واليرموك، واليوم في جنين ونور شمس والنصيرات وجباليا …
القبور والأسماء: محو السجل الرمزي
في كثير من المواقع، استهدفت المقابر، دفنت الجثث في حفر جماعية، ومنعت العائلات من وداع أحبائها.
حتى أسماء الشوارع والقرى تغيرت قسرا: من الطنطوره إلى “نفي تسيدك”، من صفد إلى “تسفات”، من اللد إلى “لود”.
الهدف ليس فقط الاحتلال، بل إعادة كتابة اللغة نفسها، واستبدال الرواية الأصلية بأخرى زائفة، عبر محو الشاهد المادي والرمزي. الإبادة هنا لا تقتصر على منطق القوة، بل تمضي إلى عمق المعنى:
قتل الجسد فعل حربي، لكن قتل الذاكرة فعل استعماري طويل الأمد.
الصمت العالمي كشريك في الجريمة: كيف يتحول الحياد إلى بنية تواطؤ؟
في كل مرة ترتكب فيها مجزرة ضد الفلسطينيين، يعيد الخطاب السياسي والإعلامي الدولي إنتاج العبارة ذاتها:
“نبدي قلقنا”،
“ندعو إلى ضبط النفس”،
“نحث على احترام القانون الدولي”.
لكن خلف هذا الخطاب الحيادي الظاهري، يكمن نظام صمت مهيكل، لا يكتفي بعدم التدخل، بل يتحول فعليا إلى شريك في عملية الإبادة. فالصمت هنا ليس مجرد امتناع عن الكلام، بل هو أداة لإخفاء الجريمة، وتبرير الجاني، وتجريم الشاهد.
الصمت بوصفه تغطية معرفية للجريمة
الصمت ليس حيادا… بل شراكة في الإبادة. حين يقتل الآلاف من الأطفال والنساء تحت القصف، وتدمر المستشفيات والمخيمات، وتباد العائلات ثم يقال في الإعلام الغربي “إنها حرب معقدة”، وحين يطالبون بالتفاوض بين القاتل والقتيل على “وقف إطلاق النار ” . فإن ما يحدث ليس فقط تحييدا للسردية، بل إعادة صياغة كاملة للحقيقة:
· الصمت الممنهج يعيد تعريف الجريمة بوصفها “مواجهة”،
· ويعيد تعريف الضحية بوصفها “تهديدا محتملا”، ويفرغ الكلمات من دلالاتها:
• “قصف” يصبح “ردا على إطلاق نار”،
• “احتلال” يُصبح “إدارة أمنية”،
- ” إبادة” تحول إلى “دفاع عن النفس”.
المنظمات الدولية: من حماية الحقوق إلى إدارة النسيان
منظمة الأمم المتحدة، ومؤسساتها المختلفة، تصدر تقارير وتوصيات، لكنها نادرا ما تتخذ مواقف رادعة أو ملزمة. بل كثيرا ما تتحول تقاريرها إلى أرشيف بلا ذاكرة، يتم تجاهله، أو توظيفه وقت الحاجة السياسية.
وفي حالات كثيرة، لا تعتبر الجرائم ضد الفلسطينيين جرائم حرب بالمعنى القانوني، بل تعامل كـ” أزمات إنسانية”، ما يفرغ القتل من بعده السياسي، ويحوله إلى كارثة طبيعية يراد احتواؤها بالمساعدات الإغاثية لا بالمحاسبة.
تواطؤ الإعلام العالمي: حذف الشهود من التغطية
معظم وسائل الإعلام الغربية الكبرى لا تنقل الحقيقة كما هي، بل تخضع الرواية الفلسطينية للفلترة أو التشكيك أو الإهمال. يعرض الشهداء أرقاما، وتمنح الرواية الإسرائيلية الأولوية، بينما يتم التشكيك في مصادر الضحايا، أو يتم تجاهلهم بالكامل. حتى في تغطية استشهاد شيرين أبو عاقلة، بدا الإعلام الغربي مرتبكا أمام جريمة موثقة بالصوت والصورة، وحاول البعض الإيحاء بـ ” الاشتباه”، أو بـ ” ظروف ملتبسة”، في تكرار لنهج إرباك الشهادة.
الصمت بنية استعمارية: الحياد كأداة منحازة
الحياد، في السياقات الاستعمارية، ليس موقفا أخلاقيا، بل انحياز بنيوي. الصمت أمام القتل الممنهج للشهود ليس حيادا، بل تمكين للجاني من مواصلة الإبادة دون مساءلة. إن من يصمت أمام الجريمة، يساهم في استمرارها. ومن يساوي بين القاتل والشاهد، يمنح الأول ترخيصا مفتوحا للقتل، وينزع من الثاني حقه في النجاة. وهكذا، يصبح الصمت أداة سياسية، وسلاح إبادة غير مرئي، ومنظومة تواطؤ معرفية وأخلاقية متكاملة.
الذاكرة ضد الإبادة: الشهادة كنظام مقاومة، والشهيد كفاعل بعد الموت
في فلسطين، لا تموت الشهادة مع صاحبها. فكل شهيد يدفن في التراب، يزرع في الوعي. وإذا كان المشروع الصهيوني يقوم على محو الرواية ومحو الشهود، فإن الفلسطينيين – جيلا بعد جيل – يردون بفعل وجودي مضاد:
سنبقى نحكي… لأننا كنا، وما نزال، وسنظل.
الشهادة ليست حدثا، بل نظام مقاومة
تتحول الشهادة في فلسطين من واقعة فردية إلى بنية جمعية للمقاومة. فحين تقتل العائلة بأكملها، لا تطوى الرواية، بل تدون من جديد باسم الشارع، أو في لوحة على جدار، أو في دمعة طفل، أو في قصيدة، أو في تقرير إخباري يمنع من البث، لكنه يحفظ في الذاكرة.
الشهادة هنا لا تختزل بالموت، بل تتجدد كفعل يعيد تركيب المعنى في وجه الإبادة. فلكل شهيد قصة، ولكل قصة أثر، ولكل أثر أثر آخر. وهذه السلسلة، بما تحمل من وجع وصمود، هي الضمانة الوحيدة لبقاء الحقيقة حية.
الشهيد كفاعل بعد الموت
في فلسطين، لا يعامل الشهيد كضحية، بل كفاعل. موته لا ينهي فعله، بل يضاعفه. تصبح صورته أداة تعبئة، وصوته مادة توثيق، واسمه مفتاحا لإعادة الارتباط بالجذور.
• الطفل الذي استشهد يصبح درسا في الرفض.
• المرأة التي قتلت تصبح أما لذاكرة الجماعة.
• الصحفي المغدور يصبح عيونا للغائبين.
• والمخيم المقصوف يتحول إلى رمز تتوارثه الأجيال. وهكذا، لا يستطيع العدو قتل الشهادة، بل فقط جسد الشاهد.
مقاومة النسيان: المعركة الحقيقية
المعركة اليوم في فلسطين لم تعد فقط على الأرض والسلاح، بل على الذاكرة والرواية والمعنى. والسؤال الجوهري الذي يطرحه هذا المقال:
هل يستطيع نظام الحداثة المادية، بكل ما يملكه من أدوات إبادة، أن ينتصر على من يصر أن يكون شاهدا؟
حتى الآن، الجواب الفلسطيني واضح:
• الجنين الذي استشهد قبل أن يولد، ترك اسمه في تقرير طبي.
• الطفل الذي قتل في حضن أمه، خلف صورة لن تمحى.
• المرأة التي حملت أشلاء، أصبحت نشيدا للثبات.
• والشهيد، الذي كان مشروع حذف، صار مشروع ذاكرة.
نظام الحداثة المادية يقتل الشهود لأنه يخاف الحقيقة:
• لأن الشاهد يفشل إعادة تشكيل الواقع الكولونيالي.
• لأن الشاهد يربط بين الماضي والحاضر، ويمنع القطيعة.
• لأن الشاهد يجسد الذاكرة التي لا يريدها العالم أن تنطق.
• لكن في فلسطين، الشهادة لا تنتهي عند القبر، بل تبدأ منه.
• والشهيد لا يقتل، بل يتكاثر.
أن تكون شهيدا في فلسطين، يعني:
• أنك لم تقتل لأنك حملت سلاحا، بل لأنك كنت تحمل رواية.
- أن تكون شاهدا، يعني أنك رأيت ما لا يراد له أن يقال، وقلت ما لا يراد له أن يسمع، ورفضت أن تصمت.
ولذلك، في هذا العالم الأداتي، الشهادة جريمة… والشهيد خطر.
5/7/2025